الشام مدينة هادئة على إيقاع الدراما
قرأت الخبر في وكالات الأنباء كأنه سحر، موعد خاص: دمشق ستُزرع فيها مليون شجرة ياسمين...
شعرت بأنها ستنتظرني هناك، قلبت قصائد نزار قباني، كتب رحالة أو مستشرقين، أبحث عن كلام عن مدينة الياسمين، أحاول أن أركّب المشهد قبل أن أستطلعه، لا أعرف إن كانت عقدة أو حماسة أو شيئاً آخر.
أتخيل المدينة قبل أن آتي إليها، أجمع ما حفظته الذاكرة من زيارات سابقة.
هل قلت زيارات سابقة؟ فجأة تنبهت إلى أن زمناً، سنوات مرت منذ الزيارة الأخيرة. شيء ما فرض البعد بين لبنان وسوريا، مهما كنت غير مقتنع ورافضاً لأفكار 14 آذار عن الشام، إلا أن العبء السياسي، الضغط المعنوي الذي كان يُمارس، كل الضجيج الذي صم آذاناً كان ينسينا زياراتنا إلى دمشق. لذلك ربما كنت متحمسة، لذلك شدّني خبر الياسمين، عنصر جذاب يساعد مخيلتي على اختراع المشهد، تركيبه وإقامة علاقة عاطفية معه، فأنا عاشقة للياسمين، عبيرها يرحل بي إلى سنوات المراهقة الجميلة، إلى أيام الجامعة، إلى قراءاتي وأحلامي الأولى.
الصالحية، وجهتي الأولى، كنت أريد أن أبحث عن الياسمين في المساء الأول لزيارتي لكن التعب أجهدني، تعب الطريق، سأبقى إذاً في فندقي في الصالحية، اعتقدت أني أعرف المنطقة جيداً، جولة بسيطة على الأقدام في صباح اليوم التالي جعلتني أدرك أنني لا أعرف شيئاً، لا أعرف سوى ما يحفظه اللبنانيون، مطعم كمال، والمتاجر القريبة منه، يأخذون التاكسي من هناك إلى الحمراء أو إلى سوق الحميدية، كنا نجول هناك كسائح غريب، يعجبه العالم الـ fantastique.
أنا إذاً في الصالحية كما سأتعرف إليها بعيون دمشقية، أعبر الطريق المحاذي لفندق الشام، أبحث عن لافتة «دار السلام» أكتشف أنها مدرسة قديمة، أتابع المشي يميناً، أحفظ خطة سيري وفق المتاجر التي تعجبني: محل بيع الجوارب النايلون المزركشة، وعلى بُعد خطوات سينما الحمراء، مدخلها فسيح ومنخفض عن مستوى الشارع قليلاً، أتنبّه إلى واجهة مكتبة، أمعن النظر بحثاً عن أغلفة كتب تصدر في دمشق ولا نجدها في لبنان، لكنني لا أجد ضالتي، المكتبة «تقليدية» لذلك قررت ألا أحفظ اسمها.
وقررت أنها تقليدية، لأني لم أجد ما أريد، كتب أقرأ عنها في الصفحات الثقافية، ولا أعثر عليها في مكتبات بيروت، أعمال عن المسرح والغناء والمدن وروايات و...
المهم أني كنت أقطع مسافة نصف كيلومتر (أو ربما أكثر) مشياً لأصل إلى مقهى ألغورا، أذكر يوم دعتني صديقة دمشقية لفنجان قهوة فيه، يعجبني التنوّع في المكان، أناقته الكلاسيكية، وجوه الناس هناك، عشاق كثر يمرون على الطاولات المحيطة بي، ثم رجال وبنات أصغر سناً.
أربعيني جلس قربي معه شابة سمراء، كانا يتحادثان همساً، ثم فجأة ارتفع صوته، كأنه يرد من المحيطين به أن يسمعوه، «آلو أيمن، كيفك، معي بنت رائعة تحبك وتريد أن تسلم عليك»، تأخذ الفتاة الهاتف، يختفي الصوت، بعد دقائق يستعيد الرجل الخلوي ويرتفع الصوت من جديد «يللا ناطرينك بالمقهى، آه أنت مشغول في التصوير، شو الدور الذي تلعبه؟».
أضحك في سري، لعبة مكشوفة، صديق الممثل يعتز به ليجذب البنات، في بيروت أساليب الإغواء الذكورية مختلفة، سيارة آخر موديل، خلوي غالي الثمن، زيارة إلى الجميزة وأفخر المطاعم، وهدايا غالية... لكن الفنانين ليسوا جزءاً من اللعبة.
في الشام الأعمال الدرامية «محطة» من الحياة اليومية، إذا دخلت متجراً مع صديق قد تسمع البائع يطمئن لحاله، يعرف أنه انتقل إلى بيت جديد، يستدل إليه بطريقة بسيطة، قد تسمعه يقول «قرب بيت أناهيد، خلف البناية التي يسكن فيها المثنى»، تسأل بسذاجة عن أناهيد ومثنى، لتدرك أنها ممثلة وهو مخرج.
الممثلون، المخرجون، المسلسلات، عالم سحري يشتبك بحياة كثيرين من أهل الشام، أبناء هذا العالم غير منفصلين عن إيقاع الحياة، تلتقيهم في المقاهي، تسمع أخبارهم من الناس. الدراما «فخر الصناعة السورية».
من هذه «الصناعة» عشقنا الأحياء والبيوت الشامية القديمة، جعلتنا المسلسلات نعيد اكتشافها، قبل ذلك لم نذكر وجودها، كنا كالسائح الغريب عن المكان، عن تاريخه، عن تركيبته الاجتماعية ــــ الثقافية. ثم أتت المسلسلات، سلّطت الضوء على طراز معماري جذاب، ساحر، فصرنا نبحث عنه.
باب توما وجهتي الليلية برفقة أصدقائي الشاميين، على أي حال لا يمكنك أن تكتشف أماكن دمشق الجميلة إن لم تكن مع أبناء المدينة. كنا نقرع أبواباً فتفتح لنا المطاعم أبوابها. دارات شامية قديمة تحولت في عدد كبير منها إلى مطاعم، بعض المطاعم لا يراعي خصوصية البيت، تشعر بأنك في مكان هجين، تراودك أسئلة «صعبة»، لو لم تُحوّل الدار إلى مطعم، هل كانت ستُهدم؟ تعرف أن القانون يمنع ذلك، ولكن صوراً من بيروت لا تفارق مخيلتك، عندنا البيوت القديمة للهدم، إنه قانون العصر.
في دمشق القديمة، ثمة مطاعم أخرى عرفت كيف تتآلف مع التوزيع الهندسي للبيوت القديمة، كمطعم أليسار، إنها أمكنة استرجعت أبجديات من الضيافة الدمشقية، لفتة مميزة، وإن كانت بسيطة تفرح الزبون، قد يأتيك النادل بضيافة من الفاكهة، صحن مشكل مع صلصة عصير مكثف أو سكر أبيض ناعم، تبتسم، لم تعد معتاداً على هذا النوع من الخدمات في لبنان.
في الشام أنت محاط دائماً بأصدقائك، أنت ضيفهم على الطريقة العربية، تخجل لكثرة اهتمامهم بك.
تخجل أيضاً كلما دخلت مكاناً جميلاً، لأنك مهما كابرت فأنت ضحية الأفكار اللبنانية، ولأنك كذلك تكون قد نسيت بالتأكيد أن الشام مدينة جميلة جداً، اذهب إلى «الطلياني»، اسأل عن فندق «آرت هاوس» والحي المتاخم له، تنزّه متيقظ الذهن في الصالحية أو الحمرا. وإذا أردت أن تزور الحميدية، أعبر إليها عبر السوق القديم من باب توما، أمعن النظر في المكان، وإن تحولت متاجره إلى محال تبيع ما يشتهيه السياح، السوق طويلة وحلوة، تنتهي بساحة مفتوحة على سوق الحميدية... في هذه الحالة ستراودك فكرة واحدة، الشام كالقاهرة وبغداد، مدن عربية لا تشيخ، ولا تنزوي، تشعر بحنين لنفسك، للغتك، تطرح على نفسك أسئلة عن سر المدن الثلاث، ستجدها في التاريخ القديم والحديث، نبض جارف عاشتها تلك المدن، إيقاع سياسي وثقافي وحراك اجتماعي مكثف، سيمدها بعز على مدى عصور، ويمنع ذبولها مهما عاشت من محن أو حصارات.
في الشام ستذكرك المباني المتنوعة بهذا الأمر، أحياناً قد تشعر بشبه يجمع الشام بالقاهرة، بأحيائها الداخلية، لا تلك المطلة على النيل، لنذهب أبعد في التوصيف، إن كنت ممن قطعوا المسافة بين وسط البلد ومنطقة الحسين مشياً على الأقدام فإنك بالتأكيد حفظت صوراً للشوارع تستعيدها في دمشق، وإن كان العاصمة السورية أكثر هدوءاً، إنها في الحقيقة مدينة إيقاعها هادئ جداً، خلافاً لبيروت حيث الغليان السياسي من جهة، انتظام الحياة السريع نوعاً ما إضافة إلى ضغوطات المسؤوليات، والعمل الذي يكاد لا ينتهي.
في دمشق ستأخذ استراحة من يومياتك، وإن كنت معتاداً على «الإيقاع البيروتي» فإنك في حاجة إلى التقاط أنفاسك، لكنك ستشتاق بالتأكيد إلى اليوميات المكثفة.
وثيقة العراقيون هناك
إنهم العراقيون. ستسمع عنهم كثيراً في دمشق. قد لا تلتقيهم.
إن لم تقصد حي جرمانة مثلاً، لن تلتقي العراقيين الذين فروا من هول الحرب والموت الذي يأخذ موعداً يومياً مع أبناء العاصمة العراقية، منذ احتل الجيش الأميركي مدينة المنصور.
الشام صارت مدينة مفتوحة أكثر من ذي قبل، لكن أهلها ما زالوا يتحدثون العربية، نحن في لبنان قررنا أن نسمي أدوات الحياة العصرية بأسمائها الأجنبية، هذه مقتضيات الـ prestige.
وأن تلتقي بالناس هناك، تلحظ ارتفاع الأسعار، تنتبه إلى تعدد المطاعم، شيء ما يوقظ فيك خوفاً.
تخاف أن تنتقل إليها عدوى لبنانية، عدوى البرستيج والأمراض الطائفية تحديداً، إنه مجرد شعور لا تعرف له تفسيراً.
اطلالة مكان
إن ذهبت إلى دمشق، فلا تفوّت زيارة الـ«آرت هاوس». إنه فندق صغير، كان مطحنة حتى بدايات القرن الماضي.
أصحاب الفندق حافظوا على طابع المكان، وجعلوا قاعاته الكبرى صالة تستضيف أعمال فنانين تشكيليين من أجيال مختلفة. بعضها يبقى فترة في المكان. ستسحرك بالتأكيد لوحة لأحمد المعلى تظهر فيها كلمات ابن عربي.
الأثاث في القاعات الرئيسية قديم جداً، يذكّر بصالونات الأجداد، بخشبها المتين وأقمشتها الناعمة أو المخملية.
في هذا الفندق غرف قليلة، كل غرفة تحمل اسم علم مهم في دنيا الثقافة والفن.
التراس يطل على المنطقة المحيطة بالفندق. يحلو شرب فنجان قهوة عليه، وتأمّل الدرب الضيّقة التي تربط بين «المطحنة» بالشارع
العام.
بيسان طي
المصدر: الأخبار
التعليقات
هذي دمشق
شام
إضافة تعليق جديد