"وَنَسة" نووية في طهران
لك أن تتصور كم الأسئلة التي يمكن أن يحملها في جعبته القادم إلى طهران هذه الأيام، من عواصم أخرى أخذت بمفاجأتها النووية، ومن ثم تراوحت الأصداء فيها بين الغم والحيرة والحسد. وأعترف مقدماً بأنني واحد من الحاسدين، الذين سرهم الإنجاز، وتمنوا أن يكونوا جزءاً منه لا متفرجين عليه.
وأنا أضع أسئلتي أمام الدكتور على لاريجاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني (49 سنة)، استفسرت منه عن دلالة الإعلان الرسمي عن أن النجاح في تخصيب اليورانيوم تم في اليوم التاسع من شهر أبريل الحالي. وهو ذات اليوم الذي سقطت فيه بغداد قبل ثلاث سنوات بين أيدي القوات الأميركية الغازية، وما إذا كان لذلك التزامن رسالة ما، فابتسم الرجل وقال بصوت خفيض انها مجرد مصادفة.
لم أقتنع تماماً برده، لعلمي بأن إيران من البلاد التي تجيد الحساب وتتقن اللعب بالأوراق والرموز. فثمة دلالة ليست خافية في أن يعلن الرئيس أحمدي نجاد خبر التخصيب من مدينة مشهد، حيث يرقد الإمام الرضا، أحد أئمة الشيعة الاثني عشر. وليست مصادفة أن يتم إشهار الخبر بعد 48 ساعة من إعلان الرئيس بوش عن إصراره على عدم السماح للإيرانيين بأن يمتلكوا التقنية النووية ولا حتى أن يفهموا أسرارها. كما أنها ليست مصادفة أن يعلن الخبر قبل 24 ساعة من وصول محمد البرادعي مدير وكالة الطاقة الذرية إلى طهران، وفي ختام المناورات العسكرية التي أجرتها القوات الإيرانية في مضيق هرمز وأطلقت خلالها بعضاً من أسلحتها المتطورة، في رد مباشر على المناورات التي أجراها الأميركيون في الخليج، وبدا فيها واضحاً أنها تدخل ضمن تلويحات وتدريبات غزو إيران.
لم أعلق على كلام الدكتور لاريجاني، محتفظاً باقتناعي بأن ذلك التزامن لم يكن مصادفة، وأن تلك الوقائع حملت في طياتها حزمة رسائل موجهة إلى عناوين مختلفة. وكان هو من بادرني بالقول حين لقيته بمكتبه في «ونسة» مسائية كما يعبر السودانيون: دعك من الاستنتاجات، لأن المعلومات هي الأهم الآن. اذ في رأيي والكلام له أن البرنامج الإيراني جرى تشويهه بالكامل عمداً في العالم الخارجي، بما في ذلك العالم العربي. ولذلك أعتقد أن ثمة أموراً ثلاثة يجب أن تكون واضحة في الأذهان: الأمر الأول أن هذا الذي ينكرونه علينا الآن قبلته الدول الغربية من الشاه قبل حوالى أربعين عاما. الأمر الثاني أننا ذهبنا إلى أبعد مدى ممكن في طمأنة المجتمع الدولي، ولكن ذلك لم يعجب المتربصين بنا. الأمر الثالث أن لدينا فتوى أصدرها الإمام الخميني تحرّم الأسلحة النووية والكيماوية، وتعتبرها أسلحة غير شرعية.
وجدت أن كل مسألة تحتاج إلى تفصيل، فطلبته منه ونحيت أسئلتي مؤقتاً.
كنت أسمع باسم الدكتور علي لاريجاني حين كان شاباً متحمساً ضمن «السائرين على خط الإمام الخميني». وهو من أنهى دراسته الجامعية في الرياضيات وعلوم الحاسب الآلي في عام الثورة (1979) ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة الغربية من جامعة طهران بعد ذلك. وفي حين اعتبر من شباب الثورة الواعدين، الأمر الذي جعله يتدرج في مناصب السلطة وحرس الثورة بسرعة، فإن أباه آية الله جواد هاشم آملي ظل واحداً من علماء الحوزة العلمية التقليديين في قم. وكان تغيير اسم الأسرة من آملي إلى لاريجاني إيذاناً بانطلاق علي واخوته (محمد وفاضل وصادق) في ركاب الثورة، واحتفاظ الأب الميرزا هاشم بمسافة منها. ولاعتبارات مفهومة عرفته أكثر حين تولى وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في عام 91 (بعدما استقال منها السيد محمد خاتمي) ثم حين عين لاحقاً رئيساً لمنظمة الإذاعة والتلفزيون ثم مندوباً للولي الفقيه (السيد علي خامنئي) في مجلس الأمن القومي، ومرشحاً لرئاسة الجمهورية في الانتخابات الأخيرة، إلى أن عين أميناً لمجلس الأمن القومي ومن ثم مسؤولا عن الملف النووي.
وهو يشرح ما عنده قال الدكتور علي لاريجاني إن كثيرين لا يعرفون أن ايران شغلتها منذ أربعة عقود قضية مصادر الطاقة، لأنها بلد شبه جاف ومصادر المياه فيه محدودة. لذلك فإن أي تفكير في التنمية ظل يطرح مباشرة ملف الطاقة المتوافرة والمطلوبة. وفي عهد الشاه، منذ حوالى أربعين عاما، تم توقيع اتفاقية مع الولايات المتحدة لإقامة مفاعل نووي في طهران، وإنشاء معهد للأبحاث النووية، وتدريب الكوادر الإيرانية، إلى جانب استخراج اليورانيوم من المناجم المتوافرة في البلاد. كانت هناك اتفاقية أخرى مع فرنسا لإنشاء مفاعل نووي في «خوزستان» وتخصيب اليورانيوم في إيران. وأنشئت لذلك الغرض شركة باسم «اورديف»، دفعت حكومة الشاه 10? من قيمة رأسمالها. كما عقدت اتفاقية ثالثة مع شركة «سمنس» الألمانية لإقامة مفاعل في «بوشهر» للغرض ذاته. وهذه المشروعات كلها إما أنها لم تنفذ أو أنها لم تستكمل بعد قيام الثورة، الأمر الذي كانت الرسالة فيه واضحة، وهي أن ثمة قراراً ضمنياً من الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة يقضي بمعاقبة الجمهورية الإسلامية في إيران، عن طريق إيقاف نموّها وحرمانها من الطاقة النووية التي تحتاجها. وكان رد طهران هو أنه لا بديل عن الاعتماد على النفس في بلوغ ذلك الهدف. وهو القرار الاستراتيجي الذي دخل حيز التنفيذ مباشرة بعد انتهاء الحرب مع العراق. واتخذت الخطوات الأولى في هذا الصدد عام ,1990 حين كان الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيساً للجمهورية.
لم يكن الأمر يحتمل الانتظار أو التسويف. فالإيرانيون يقترب عددهم الآن من سبعين مليوناً وسيصبح تعدادهم مئة مليون في عام ,2020 والنفط والغاز الذي نملكه سينضب معينه يوماً، فضلاً عن أنه لا يوفر لنا الطاقة التي نريدها. والمحطة النووية التي تم إنشاؤها في بوشهر لن توفر بعد تشغيلها سوى 5.3? فقط من الطاقة الكهربائية التي تحتاجها ايران. في حين أن 20? من الطاقة الكهربائية في الولايات المتحدة يتم تأمينها بواسطة الطاقة النووية (في فرنسا تصل النسبة إلى 71? واليابان 27? وألمانيا 28? وكوريا الجنوبية 40? وبريطانيا 23?). وإذا ما تمكنت إيران من تنفيذ برنامجها النووي الذي يستهدف تأمين 20 ألف ميغاواط من الكهرباء خلال العقدين القادمين، فسيكون بإمكانها تأمين نسبة 15? من الكهرباء من تلك المحطات . وهي نسبة ستكون منخفضة جداً حينذاك، بالمقارنة مع الدول الأخرى.
حين خاضت ايران غمار التجربة أضاف على لاريجاني فإنها اعتمدت على كوادرها الفنية بالدرجة الأولى. وطرقت كل باب يمكن أن يعينها على بلوغ مرادها. وعبر أحد الوسطاء فإنهم حصلوا على جهاز للطرد المركزي من العالم الباكستاني عبد القدير خان. ورغم انهم وقّعوا على جميع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بضمان سلامة وسلمية النشاط النووي، إلا أن ذلك لم يشفع لهم وظل «الفيتو» الغربي مشهراً في وجوههم.
كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد شكلت لجنة لإعطاء ضمانات للدول التي لديها مفاعلات نووية لتزويدها بالوقود. وبعد سبع سنوات لم تقدم اللجنة شيئاً لأي بلد يتطلع للحصول على ذلك الوقود (هذا العام قدم الرئيس بوش إلى الهند «الصديقة» ما تريده في هذا المجال). وهو ما رجح لدى الإيرانيين الرأي الذي يقول بأن الدول الأعضاء في ما يسمى بالنادي النووي تتجه إلى إنشاء منظمة خاصة بها (على غرار الأوبك التي تضم الدول المنتجة للنفط)، لكي تحتكر بيع الوقود النووي بأسعار خيالية للدول التي ستحتاج إلى مصدر جديد للطاقة في المستقبل.
لاحقاً طلبت الدول الأوروبية من إيران أن تجمد برنامجها لمدة سنتين، مع وعد بأن تقدم اتليها الوقود الذي تريده. وهو ما استجابت له طهران، لكنها فوجئت بعد السنتين بأنها لم تحصل على غرام واحد من الوقود، في حين تلقت وعداً بالانضمام إلى اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، ووعداً آخر بتوفير الاحتياجات الإيرانية من قطع غيار الطائرات. وكان ذلك دليلاً آخر على سوء النية المبيت، يشهد بأن الدول الغربية تحتال لإطالة أمد تجميد التخصيب وتعطيل البرنامج النووي بكل وسيلة.
حين عادت إيران إلى استئناف برنامجها، وعملت جاهدة على إبطال ذرائع المتشككين في طبيعة أنشطتها، فإنها تجاوزت تعهداتها الدولية وسمحت لخبراء وكالة الطاقة الذرية بالوجود المستمر في مؤسسات التحويل والتخصيب. كما أباحت لهم القيام بزيارات متكررة للمواقع العسكرية، في حين ظلت أجهزة التصوير التابعة للوكالة الدولية تسجل وتراقب مختلف الأنشطة في منشأتها النووية. في الوقت ذاته اقترحت طهران إصدار تشريع يحظر إنتاج أو تخزين أو استخدام الأسلحة النووية، كما أعلنت عن القبول بشركاء أجانب في برنامجها لتخصيب اليورانيوم. بل اقترحت إقامة اتحادات إقليمية لتطوير الوقود يضم الدول التي تملك تقنية التخصيب، بحيث تظل تلك الاتحادات تحت إشراف وكالة الطاقة النووية. ذلك كله لم يقبل من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية، التي أصرت في نهاية المطاف على نقل ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن، تمهيداً لفرض عقوبات عليها، مع التلويح بعصا التدخل العسكري.
قلت للدكتور على لاريجاني ان الخبراء الغربيين ازدادت مخاوفهم حينما تحدث الرئيس أحمدي نجاد عن تطوير جهاز الطرد المركزي المعروف باسم «بي واحد»، بما يسمح باستخدام الجهاز «بي 2» الذي تعادل سعته أربعة أضعاف سعة الجهاز الأول. الأمر الذي يعني اقتراب إيران بأكثر مما كان متوقعاً من إنتاج القنبلة النووية. وفي تعليقه على ما قلت أثار ثلاث نقاط، الأولى أن الذي يملك المعرفة بوسعه أن يصنع ويستخدم أجهزة الطرد واحداً واثنين وثلاثة. والخبراء الإيرانيون تتوافر لهم هذه المعرفة الآن. النقطة الثانية أن لدينا فتوى الإمام الخميني التي تحرّم إنتاج وتخزين واستخدام أسلحة الدمار الشامل. وقد أصدرها في أوائل الثمانينيات، عقب قصف النظام العراقي السابق لمدينة «حلبجة» الكردية بالغاز السام. وما ترتب على هذه العملية من دمار وخراب يهدر القيم الإسلامية والإنسانية. النقطة الثالثة أن السلاح النووي كان له دوره في إحداث توازن الرعب إبان سنوات الحرب الباردة، لكنه لم يعد يحتل مكانته المتميزة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد أصبحت يقظة الشعوب وإرادتها الحرة هي السلاح الأمضى من القنبلة النووية، وانسحاب إسرائيل المدججة بالسلاح النووي من جنوب لبنان يشهد بذلك.
قلت: هل لمست قلقاً من إعلان نجاح التخصيب في دول الخليج التي زرتها مؤخراً، قال انه لم يلمس ذلك القلق الذي تروج له بعض الأبواق، وأن أحد وزراء الخارجية قال له ضاحكاً ان بلاده لا يزعجها البرنامج النووي الإيراني، ولكن وجود إيران ذاتها كدولة كبرى في المنطقة هو ما يقلقها.
قلت: أسعار النفط ارتفعت بما قيمته 15 دولاراً منذ أعلنت إيران عن مفاجأتها وردت واشنطن بتسخين الأجواء ضدها، قال ان ذلك حدث ونحن لم نفعل شيئاً، فما بالك لو فعلنا؟
قلت: ما رأيك في الحديث المتواتر عن قصف عسكري أميركي لإيران، قال ان هذا الكلام لا نأخذه على محمل الجد، خصوصاً بعد الفشل الأميركي في العراق. والجميع يعلمون أن إيران ليست العراق، وأن اللحم الفارسي شديد المرارة، أما القط الفارسي الذي يضرب به المثل في الوداعة، فإنه حين يضيق عليه الخناق ويراد له أن يحشر في الزاوية، فإنه يتحول إلى مخلوق آخر، خطره يعمل له ألف حساب.
ألم أقل ان الإيرانيين يجيدون اللعب بالأوراق والرموز؟
فهمي هويدي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد