نحن و أوروبا
يبحث الكتاب في العلاقة التاريخية بين أوروبا والمشرق، ويقصد بالمشرق منطقة شرق المتوسط، بما في ذلك فارس والجزيرة العربية وشمال إفريقيا.
منذ فجر التاريخ كان هذان الإقليمان منطقتي جذب، بحيث كان هناك قطبان يقودان الإقليمين في حروب لا تنتهي وصراعات مستمرة.
فمنذ زمن الحيثيين والفنيقيين إلى زمن اليونان والرومان والبيزنطيين والفرس وحتى الأزمنة الحديثة بعد ظهور الإسلام والتعامل مع قوى أوروبية متعددة متحالفة ومختلفة فيما بينها، لم تستطع الديانتان المسيحية والإسلامية أن توحدا هذين الإقليمين.
وفي الأوقات التي بدا فيها أنهما أصبحا وحدة سياسية واحدة يدين أهلها بدين واحد، ظهرت اختلافات مذهبية واضحة أعادت التقسيم وإن لم يكن على أسس دينية، فقد كان على أسس مذهبية.
وعندما انتشرت المسيحية في القرن الرابع في سوريا ومصر وآسيا الصغرى وجنوب شرق أوروبا، سرعان ما ظهرت تباينات عقدية بين شعوب هذين الإقليمين، استمرت لقرون حيث انتهت بتقسيم الكنيسة، ولم تتمكن القوى المسيحية من توحيد الإقليمين.
وبعد ظهور الإسلام في القرن السابع، وانتشاره في القرون التالية لم يتمكن بدوره من توحيد الإقليمين أيضا.
فانقسمت الدولة الإسلامية إلى خلافتين بعد سقوط الدولة الأموية، الأولى في الإقليم الأول والثانية (الأندلس) في الإقليم الثاني.
لقد سجل التاريخ أكبر عدد من الحروب في هذه المنطقة بين شعوبها، كما عرفت هذه المنطقة ما يمكن أن نسميه الحروب الإمبراطورية، وهي الحروب التي يتم فيها اكتساح دولة ثم الدولة التي تليها والتي تليها.. وهكذا.
وإلى غاية الحرب العالمية الأولى كان هذا النوع من النشاط الإنساني مقتصرا على هذه المنطقة، والاستثناء الوحيد هو حملات المغول.
من حملات الفنيقيين في البحر الأبيض المتوسط وحملات الفرس (البارثيين) في آسيا الصغرى وبلاد الإغريق، إلى الإسكندر المقدوني والرومان والفرس (الساسانيين) والعرب المسلمين والصليبيين والعثمانيين إلى زمن الاستعمار الأوروبي الحديث، عرفت هذه المنطقة حروبا طويلة جلبت الخراب والقتل والعداء.
لقد عرفت هذه المنطقة أكبر كم من العنف، كما حوت أكبر قدر من الكراهية.
وفي جميع الأحوال يبرأ الدينان العظيمان المسيحية والإسلام من هذا الصراع، فقد بدأ قبل ظهورهما، ولكنهما أيضا لم يستطيعا أن يضعا نهاية له.
يتحدث الكتاب عن التاريخ المشترك للإقليمين بشكلٍ مختصر، مع بعض الإضاءات على ما يهم العلاقة بينهما، فيتحدث الفصل الأول عن نشوء الدولة الرومانية وانقسامها وظهور المسيحية.
ويتطرق الكتاب إلى إضافات الرومان في القانون ونظم الحكم والبناء، إذ تمكن الرومان من جعل البحر المتوسط بحيرة رومانية، وقد سبقهم الفينيقيون إلى ذلك بتأسيس مستعمرات ومراكز تجارية في أماكن عديدة شمال وجنوب المتوسط.
ومن هنا كان فصل الصراع الروماني الفينيقي دمويا للغاية، حين خاضت روما مع قرطاجة الفينيقية ثلاث حروب انتهت باختفاء الأخيرة فعليا من الخريطة وعن وجه الأرض، فقد حرق الرومان المدينة وحرثوا أرضها لتختفي معالمها وذكرياتها تماما، بعد أن شكلت تحديا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا لروما كاد يقضي عليها.
ويتطرق الكتاب إلى انشقاق الدولة الرومانية وتأسيس الدولة الشرقية حول عاصمتها القسطنطينية، التي تم بناؤها في مكان قرية إغريقية صغيرة اسمها بيزنطة (بيزانس)، وإن لم يستطع جبروت الرومان إحلال الاسم الجديد محل اسم القرية الصغيرة.
وهذا عبر عن صراع يتعلق بالهوية الثقافية للدولة طوال قرون بين ثقافة الرومان اللاتينية وثقافة اليونان الإغريقية، ثقافة الطبقة الحاكمة وثقافة المكان، التي حسمت لصالح الأخيرة في القرن الثامن.
ينتهي الفصل الأول بالحديث عما يسميه الكاتب بعقدة الإسكندر، إذ إنه كان رغم أن الإسكندر أوروبي كانت حروبه جميعها خارج أوروبا في آسيا وأفريقيا.
وبالتالي فهو نجم من نجوم التاريخ الأوروبي، وأكثر من ذلك فقد شكل نموذجا حاول كثير من القادة العسكريين الأوروبيين تقليده، من يوليوس قيصر إلى فريدريك بارباروسا إلى نابليون إلى هتلر وإللنبي وباتون وغيرهم.
العرب بين الفرس والروم
ويتحدث الفصل الثاني عن "الدول العربية الشمالية" مثل دول الأنباط وتدمر والحضر، ثم دول كندة وسليح والغساسنة والمناذرة.
يتطرق الفصل إلى نشأتها وعلاقاتها مع الروم والفرس ودورها في الصراع الأزلي بين الشرق والغرب، كما يزيل المفاهيم المغلوطة عن بعض ملوك الغساسنة الذين مارسوا استقلالية ملفتة للنظر تزيل عنهم صفة التبعية للرومان الدارجة لدينا.
بل يخلص الكتاب إلى أن الحارث بن جبلة وابنه المنذر من أعظم الحكام العرب غبر التاريخ، ويجب أن يأخذا حقهما من التكريم بتخليد ذكراهما بطرق مختلفة.
يتحدث الفصل الثالث عن العرب قبل الإسلام، فيعطي أهمية كبيرة للتحولات المناخية الكبيرة التي طرأت على الجزيرة العربية وبقية العالم قبل ما يقارب 12000 سنة، حيث بدأ تحول نحو جفاف تدريجي، الأمر الذي أدى إلى هجرات متلاحقة من الجزيرة إلى خارجها، كما أدى إلى تحولات في نمط حياة الإنسان من اكتشافات ونشوء تجمعات بشرية أدت في نهاية المطاف إلى ظهور الأشكال الأولى للدولة.
يعتبر العرب من بين الأعراق القليلة في العالم التي لا تدعي النقاء ولا توليه اهتماما. وقد وجد للعرب ذكر قبل 1000 سنة من الميلاد، كما ظهرت دول وحضارات عربية متطورة في الجنوب العربي.
أما الشمال فقد عرف عربا رحلا يعيشون متنقلين سعيا وراء الماء والكلأ، وذلك باستثناء الدول التي ظهرت خارج الجزيرة وعلى أطرافها.
ويستعرض خصائص الحياة العربية قبل الإسلام من غزو وحب للشعر وكرم ضيافة ونظام تحريم الاقتتال في الأشهر الحرم وغير ذلك.
لقد كان الجهد الدبلوماسي الروماني والفارسي في القرن السادس الميلادي يتركز على إقامة تحالفات بعضهما ضد بعض، وكان العرب على فرقتهم هدفا لهذه التحالفات، سواء كانوا في الجنوب أو في الشمال، وبالتالي لم يكونوا عديمي الأهمية السياسية، كما يحاول البعض أن يظهرهم.
يتطرق الفصلان الرابع والخامس إلى ظهور الإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية، فيستعرض الكتاب المشهد الإقليمي والعالمي قبيل البعثة النبوية، لأنها كانت مشهدا يستحق التوقف والتأمل، إذ تم تصفية جميع الكيانات السياسية العربية في الشمال والجنوب من قبل الروم والفرس والأحباش.
كما بدأت تظهر اتجاهات سياسية تعبر عن رغبة بعض القبائل وبعض المدن في التحول إلى دول بتتويج شيوخها ملوكا مثل بني حنيفة في اليمامة ومكة ويثرب وعمان وغيرها، الأمر الذي ترك أثرا على مجريات الأحداث في العقود التالية.
ويستعرض كذلك تطور الدعوة واتساعها ومقاومة قريش لها، كما يستعرض الهجرة إلى الحبشة، موضحا مسار الهجرة على خريطة البحر الأحمر، ومشيرا إلى احتمال معارضة بيزنطة لاحتضان النجاشي للمهاجرين المسلمين.
هاجر المسلمون إلى يثرب في سنة 622 ميلادية، وهي نفس السنة التي تجدد فيها القتال بين الروم والفرس بعد أن تولى هرقل الحكم في بيزنطة.
ولقد دام القتال بين القوتين ستة أعوام ما أعطى الفرصة للدولة الفتية في الظهور والنمو، دون تدخل الدولتين اللتين ما كانتا لتتركا قوة جديدة تفسد عليهما جهودهما في تعزيز تحالفاتهما، كما أثبتت ذلك كثير من المؤشرات.
لقد حزن المسلمون لهزيمة الروم على يد الفرس في حربهم قبل الأخيرة التي خسروا فيها سوريا ومصر وجزءا من الأناضول، كما عبرت عن ذلك سورة الروم في القرآن، ولكنهم لم يفرحوا لنصرهم في الحرب الأخيرة، وفي هذا دلالات تشير إلى أعمال عدائية بادر بها الروم تجاه الدين الجديد.
ثم يتحدث الفصل السادس عن الصدام الحتمي مع دولتي فارس والرومان، والفتوحات التي تلت ذلك.
أما الفصل السابع والأخير فعنوانه "قصة مدينتين"، بيزنطة المدينة الحصينة عاصمة الإمبراطورية الواسعة والمدينة عاصمة دولة الدين الجديد التي لم يبن لها سور على الإطلاق.
يحتوي الفصل بعض المقارنات الثقافية والفكرية بين أوروبا والمشرق، فأوروبا اتصفت بعدم تقبل الاختلاف مع الآخر، بينما شهد التاريخ الإسلامي وقبله الشرقي بشكل عام الكثير من التسامح الديني والثقافي.
كما اتصف الأداء الأوروبي بالمؤسسية المغيبة نوعا ما في الشرق، إذ حكمت في بيزنطة 13 أسرة، ولكن نظام الحكم استمر بكثير من التجانس.
ورغم تنور الروم رفضوا المسيحية ثلاثة قرون ورفضوا الإسلام كذلك وقاوموه.
ينتهي الكتاب بخاتمة تدعو إلى مزيد من تفهم الثقافتين لبعضهم، ليعطى هذا الجزء من العالم الفرصة لأن يعيش بدون عداء وكراهية.
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد