منطقة القلمون: مدن هادئة تواجه الحرب بالتعايش والصلاة
القلمون هي السلسلة الجبلية السورية التي تشكل امتداد جبال لبنان الشرقية، من جهة، ومدخل دمشق لجهة الشمال، من جهة أخرى، ومنفذاً حدودياً مع طبيعة صخرية قاسية، تنام بينها سلسلة مدن صغيرة تشكل حالة خاصة. ولعلّ القلمون بالفعل أحد كنوز سوريا المخفية حتى اليوم، مع سيل من القصص والحكايات التي تختبئ بين الصخور والأودية والمرتفعات.
فهنا ستكون البلدات نموذجاً واضحاً للسلم والتعايش، وهنا سيتصدّى الناس للفتن ويقف الجميع يداً واحدة ضدّ الأخطار التي تعصف ببيوتهم وبالمنطقة عموماً، من التل إلى رنكوس فصيدنايا ثم معلولا وجيرود والقطيفة ويبرود والنبك ودير عطية. فهي مدن هادئة، لكنها صلبة كالصخور، قدمت للعالم اللغة الآرامية وما زالت حتى اليوم تحتفي بالأديرة والكنائس التاريخية في صيدنايا ومعلولا ودير مار موسى الحبشي في النبك، وهي أيضاً مع جاراتها في جبال لبنان مَن قدمت لأميركا الجنوبية (أو «أميركا التحتا» كما يطلق عليها) قادة وزعماء أبرزهم رئيس الأرجنتين السابق كارلوس منعم المنحدر من مدينة يبرود.
الوصول إلى يبرود ليس بالأمر السهل على اعتبار أنها لا تقع على الطريق السريع الذي يصل دمشق بحمص، والذي أصبح يشهد بين الوقت والآخر عمليات عسكرية بين الجيش النظامي وكتائب المعارضة المسلحة. نجحت البلدة الهادئة، التي يقارب عدد سكانها الأربعين ألفاً، في إبعاد نفسها إلى حدّ كبير عن خطر الفلتان الأمني الذي أصاب مناطق عدة في البلاد. هناك لا تواجد عسكرياً لقوات النظام، التي تتمركز عند مدخل الطريق الفرعي المؤدي للبلدة التي يشملها العقاب الجماعي بغياب الكهرباء والاتصالات والوقود. وبرغم ذلك فإن تنظيماً فائق الدقة تشهده يبرود يبدأ بالجسم القضائي القادر على فض النزاعات وصولاً إلى المحكمة وقوى الأمن الداخلي، فيما يفرض على كتائب المعارضة المسلحة الالتزام الصارم بكل ما يصدر عن مجلس المدينة الصغيرة المحلي من تعليمات ومنع أي تجاوز قد يحدث، ولو كان الفاعل مسلّحاً في صفوف هذه الكتائب. وهو ما نجحت به البلدة بالفعل لتضع حداً لمن يطلق عليهم تسمية «تجار الثورة»، أي أولئك الذين استغلوا الوضع القائم، حيث يرفض الناشطون في المنطقة الانتقال من الاستبداد إلى استبداد جديد. ويبدو لافتاً غياب أي احتقان أو توتر إسلامي مسيحي، برغم جنون التحريض الذي يضــرب البلاد عموماً.
هكذا يستهجن أبناء يبرود السؤال عن دين الفرد، بل يفتخرون بكونهم نموذجاً لتعايش المسلمين والمسيحيين معاً، مستشهدين بحوادث عدة عن وقوف كهنة الكنائس وشيوخ المساجد معاً والقيام بمبادرات تدعم العيش المشترك الذي يمتدّ ليشمل مختلف مناطق القلمون. أضف إلى ذلك ما يسجّله عمل المجتمع المدني في يبرود في ظل غياب أي سلطة باستثناء سلطة المجالس المحلية، وهو ما كان سبباً بدوره لاستمرار عجلة الحياة في مدينة تحيط بها المخاطر من كل الجهات.
وستكون صخور الجبال سبباً في معاناتها من عمليات التهريب التي زادت في الآونة الأخيرة لتشمل، إضافة للوقود، السلاح والمقاتلين وهو أمر جرّ عليها في بعض الأوقات عمليات عسكرية قاسية دفعت الأهالي إلى محاولة تفادي جنون الموت والوقوف معاً ضدّ أي اختراق يستهدف المجتمع القلموني.
المشهد ذاته يمتد إلى بلدات مجاورة، كقارة والنبك ودير عطية، حيث تحتضن الأخيرة جامعة خاصة تستقبل أكثر من خمسة آلاف طالب لم تسلم بدورها من القذائف التي تساقطت في حرم الجامعة أثناء الدوام الرسمي من دون أن يعني ذلك إيقاف الحصص. هناك حيث يعتبر الكثيرون أن مجرّد حضورهم اليومي للجامعة هو انتصار بحد ذاته. وهناك أيضاً يتوزع الطلاب بين مؤيد ومعارض للنظام، لكن وربما من دون أن يعلم الطرفان فقد اتفقا معاً على ضرورة استمرار العملية التعليمية رغماً عن أنف سلطة الموت التي تحيط بهم من كل الجهات. وهو ما ينسحب على جارة دير عطية في النبك، التي احتضنت آلاف النازحين بدورها، وقدمت مثالاً عن استمرارية الحياة بما فعله دير مار موسى الحبشي .
وغير بعيدة عن يبرود، تقع مهد الآرامية معلولا والتي اعتبرت مقصداً أساسياً للسياحة الدينية المسيحية، حيث لا يزال سكانها يتكلمون الآرامية وتدرس في معاهد خاصة بها. هنا أيضاً يعيش المسلمون والمسيحيون معاً، وتقرع الأجراس في دير مار سركيس وباخوس يومياً طلباً للسلام وعودة الهدوء. البلدة، التي نأت بنفسها عن المعارك والاشتباكات، فتحت أبوابها في المقابل لآلاف النازحين من مختلف المناطق. يرفض الكثير من أبنائها الهجرة للخارج بحجة الخوف على الأقليات. في هذه البلدة، سيتحدث كل صاحب بيت عن تاريخ بيته العائد لمئات السنين وعن علاقات مع كل أبناء القرى والبلدات المجاورة في الزراعة والصناعات المحلية، فيما يذكر آخرون كيف تدفق آلاف اللبنانيين والعراقيين إبان حرب تموز والاقتتال الدموي إلى معلولا للصلاة طلباً للسلام. حجارة الأديرة حزينة في معلولا اليوم، تفتقد زوارها واحتفالات أعيادها التي باتت تقتصر على الصلوات الدينية مع استمرار شلال الدم في البلاد.
أما جارتها صيدنايا فلم تتأخر هي الأخرى عن فتح أبوابها للهاربين من جحيم الموت اليومي، وانسحبت عليها أجواء الهدوء إلى حد كبير مع رفض الانجرار للطائفية. حتى أن أبناءها يكتفون بعبارة «أنا من صيدنايا» من دون أي ذكر للهوية الدينية، وبإصرار شديد على تحجيم أي صوت يدعو لفتح أبواب الصراع الديني في هذه المنطقة التي يتفق معظم سكانها، مسلمين أو مسيحيين، على أنهم لن يسمحوا بتدمير المنطقة، سواء أكانوا موالين أو معارضين للنظام. ووسط كل ذلك، يبقى السؤال الأهم هو إلى أي مدى ستتمكن بلدات القلمون ومدنه وقراه من الصمود في وجه الاقتتال المذهبي وجنون الحرب؟
طارق العبد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد