من فيليب العربي وفارس الخوري بناة حضارة وصانعو استقلال.. ومهجرون

11-09-2013

من فيليب العربي وفارس الخوري بناة حضارة وصانعو استقلال.. ومهجرون

لا يعتبر المسيحيون في سوريا حالة طارئة، ولم يكن المسيحيون يوماً دخلاء على المجتمع السوري. فسوريا مهد المسيحية، ومنها انطلقت وأشعّت على العالم، وحافظت على وجودها، على الرغم من التغييرات التي طرأت على المنطقة، ليبقى المسيحيون سوريي الانتماء.
تفيد دراسات تاريخية عديدة بأن الديانة المسيحية دخلت سوريا منذ القرن الأول لظهورها، حيث انتشرت في معظم أنحاء البلاد، واعتنقتها جميع المكونات العرقية للمجتمع حينها، والمتمثلة بالقومية السريانية الآرامية الآشورية الكلدانية، والقبائل العربية والأرمن، لتغدو سوريا دولة مسيحية خلال الحكم الروماني لها، عندما قام «قسطنطين» باعتماد الديانة المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية.سوريون يحتفلون بعيد الفصح في نيسان الماضي في العاصمة دمشق (أ ف ب)
ويقول الباحث التاريخي السوري الدكتور وديع بشار في حديث إلى «السفير»، إن المسيحيين لم يتحولوا إلى أقلية إلا خلال الحكم العثماني لسوريا (1516 1918)، موضحاً أن الديانة المسيحية ظلت سائدة في المجتمع السوري برغم الفتوحات الإسلامية واعتماد دين الإسلام الدين الرسمي للدولة السورية، حيث ظلت هذه الديانة سائدة أيضاً خلال الحكمين، الأموي والعباسي، وحتى إبان حكم المماليك، قبل أن يحكم العثمانيون سوريا.
ويضيف بشار أنه «يمكن فهم طريقة تعامل الأتراك مع المسيحيين من خلال مثال بسيط يتمثل بالجيش الانكشاري، القوة الضاربة للعثمانيين. فالعثمانيون قاموا ببناء جيشهم الانكشاري من خلال برمجة غلمان وشبان، بعد احتجازهم ومنعهم من لقاء ذويهم، وتربيتهم تربية إسلامية»، موضحاً أن «أهم مكونات هذا الجيش، هم الأطفال المسيحيون الذين قام العثمانيون بأخذهم من أسرهم بشكل دوري، يتم كل أربع أو خمس سنوات، يتم بموجبه تجنيد أكثر من عشرة آلاف طفل من ضمن هذا الجيش، لتربيتهم وفق الأصول الإسلامية، ومن منظور عثماني».
ويتابع «مر المسيحيون بانتكاسات عديدة في سوريا، كالحروب الصليبية وغيرها، ما ساهم بدفع نسبة كبيرة منهم إلى الهجرة خارج سوريا، وتحول آخرون إلى الديانة الإسلامية، لتغدو المسيحية أقلية».
ولا توجد دراسة تحدد نسبة المسيحيين في سوريا بدقة، إلا أن دراسات تقريبية قدرت نسبتهم في بداية القرن الواحد والعشرين بنحو عشرة في المئة من سكان سوريا، ويتوزعون على طوائف عدة. حيث يوجد في سوريا الروم الأرثوذكس وهم الغالبية، يليهم السريان الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، مع وجود جماعات مختلفة من اللاتين والبروتستانت والموارنة والكلدان والآشوريين والسريان الكاثوليك والأرمن.
ويؤكد بشار لـ«السفير»، أن «نسبة الوجود المسيحي في سوريا في تناقص مستمر منذ بدء الأزمة قبل نحو عامين ونصف العام، لما تعرض له المسيحيون من اضطهاد وعمليات تهجير».
ولا يمكن خلال الحديث عن تأثير المسيحيين في الحضارة السورية رسم ملامح كاملة لهذا التأثير. فالمسيحيون هم من السوريين الأوائل الذين قاموا ببناء الحضارة السورية، والتي تأثرت في ما بعد بالحضارة الإسلامية، لتصبح خليطاً فسيفسائياً مازال يميز الحضارة السورية.
إلا أنه يمكن ذكر بعض ملامح هذا التأثير على أصعدة عدة، أبرزها فن العمارة وبناء المعابد المسيحية، حيث تضم سوريا نحو 20 معلماً مسيحياً فريداً، من كنائس وأديرة، تعتبر من أقدم المعالم الأثرية المسيحية في العالم.

تأثير على المستوى السياسي

وكما كان للمسيحيين تأثير كبير في الحضارة السورية، كان لهم تأثير يوازيه على المستوى السياسي. فمنذ العصر الروماني لعب المسيحيون دوراً كبيراً في الحياة السياسية، حيث يعتبر فيليب العربي، وهو أحد الأباطرة السوريين الستة الذين حكموا روما، أحد رموز الحياة السياسية في تلك الفترة.
وتقول دراسات عدة إنه كان يعتنق المسيحية بالسر (يؤكد الكاتب والباحث السوري عادل زيتون أن فيليب العربي كان يدين بالديانة المسيحية)، وله مواقف عديدة مؤيدة للمسيحية.
وعلى الرغم من الانتكاسات العديدة، ظل المسيحيون يساهمون في الحياة السياسية والاقتصادية السورية، حيث يستحوذون على نسبة كبيرة من قطاعي التجارة والصناعة، وساهموا بشكل فاعل في محاربة الاحتلال العثماني، ومن بعده الاحتلال الفرنسي، ولعل أشهر الشخصيات المسيحية في الحياة السياسية خلال فترة الاحتلال الفرنسي، كان فارس الخوري، الذي تولى رئاسة المجلس النيابي السوري في العام 1936 ومرة أخرى في العام 1943، كما تولى رئاسة مجلس الوزراء ووزارة المعارف والداخلية.
ويعتبر تولي الخوري رئاسة مجلس الوزراء، نقطة مفصلية في الحياة السياسية السورية، فإضافة إلى كونه أول شخصية مسيحية تتولى المنصب في العصر الحديث، إلا أنه يعتبر المساهم الأكبر في إجلاء الفرنسيين عن سوريا، وذلك خلال توقيعه اتفاقية إنهاء الاحتلال الفرنسي لسوريا، في الأمم المتحدة العام 1945، حيث انسحبت فرنسا بناء على هذه الاتفاقية.
وشهد توقيع هذه الاتفاقية موقفاً شهيراً للخوري الذي جلس على مقعد المندوب الفرنسي لمدة 25 دقيقة ما أثار غضب المندوب، وتسبب بإشكالية في الأمم المتحدة، قبل أن يقول الخوري للمندوب الفرنسي «سعادة السفير، جلست على مقعدك لمدة 25 دقيقة فكدت تقتلني غضباً وحنقاً، سوريا استحملت سفالة جنودكم 25 عاماً».
وبالإضافة إلى تولي المسيحيين مناصب قيادية في سوريا، لعبوا أيضاً دوراً مهماً في الحياة السياسية، والثقافية. فمنهم على سبيل المثال ميشال عفلق، أحد مؤسسي «حزب البعث» الذي أصبح في ما بعد «حزب البعث العربي الاشتراكي»، والذي يحكم سوريا منذ نحو خمسة عقود.
كما يشكل المسيحيون نسبة كبيرة من بين أطباء ومثقفي سوريا، حيث تقدر دراسات عديدة نسبة الأطباء المسيحيين في سوريا بنحو 30 في المئة من أطباء سوريا.
ومنذ حكم «البعث» لسوريا وحتى الآن، شهد الوجود المسيحي في سوريا رعاية خاصة من الدولة، يمكن اعتبارها استمراراً لمبدأ حماية الأقليات الذي بدأه الحاكم العثماني سليمان القانوني، حيث تابع «البعث» منح المسيحيين امتيازات خاصة، كما حرص على وجود تمثيل دائم لهم في إدارة الدولة والحياة السياسية.
تسببت المتغيرات في سوريا بتهجير عدد كبير من العائلات المسيحية، ولعل أبرز حملات الهجرة تلك التي وقعت في العام 1860، نتيجة لما عرف بـ«مجزرة 1860» والتي كان سببها اضطرابات دينية الطابع، تضرر على إثرها الوجود المسيحي في سوريا.
وكانت العاصمة دمشق الأكثر تضرراً، حيث هاجرت منها نسبة كبيرة من العائلات بعدما تعرضت ممتلكاتهم للتخريب، وقتل منهم الآلاف حينها (بحسب ما وثق فيليب خوري في كتابه «أعيان المدن والقومية العربية»).
وتابع المسيحيون هجرتهم بشكل متواتر من سوريا، باتجاه الدول الاسكندنافية في أوروبا، وباتجاه أميركا اللاتينية، حيث بات يشكل السوريون من أصل مسيحي جالية كبيرة في الأرجنتين، وأحد هؤلاء السوريين تولى حكم الأرجنتين، ليكون كارلوس منعم أول رئيس يحكم الدولة اللاتينية من أصل سوري، حيث امتد حكمه نحو عشر سنوات (1989 1999).

علاء حلبي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...