09-02-2018
معهد العالم العربي في باريس ينظّم معرضاً عن مسيحيي المشرق
Image
المسيحيون في المشرق العربي ليسوا حالة طارئة ولا هم دخلاء على منطقة غريبة عنهم، بل هم سكان أصليون في هذه المنطقة الّتي شهدت ولادة المسيح وظهور ما يسمى بالدين السّماوي الثاني بعد اليهوديّة. جاء الإسلام وحفظ وجودهم بل وظّف طاقاتهم العديدة في الترجمة والصّناعة ومجالات عديدة لمصلحة الدولة الإسلاميّة.
وكما كان مسيحيو المشرق ضحايا للغزوات الصليبيّة الأوروبيّة في القرون الوسطى أصبحوا في ما بعد ضحية نزاعات سياسيّة عديدة شهدتها منطقة الشّرق الأوسط مثل ولادة دولة إسرائيل على أرض فلسطين والّتي جعلت اليهوديّة هويّة لها، ومن ثمّ ظهور الإرهاب الّذي نشط باسم الإسلام، رغم أنّهم عاشوا على مدى قرون في أكناف الدولة الإسلاميّة وكانوا عنصراً فاعلاً رغم اعتبارهم كـ”أهل ذمّة”.
ممّا لا شكّ فيه أن ما أنجزه معهد العالم العربي في باريس بتنظيمه معرضاً تحت عنوان “مسيحيو المشرق ألفا عام من التّاريخ” بين السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2017 والرّابع عشر من يناير كانون ثاني 2018، يشكّل إضاءة فنية تاريخيّة رائعة على هذه الشريحة الّتي تشكل جزء مهمّاً من سكان العالم العربي ودول أخرى في الشّرق الأوسط وأفريقيا.
لذلك يستقبل الزّائر عند مدخل المبنى هيكل سيارة قديمة أمام لوحة بانو كبيرة تبيّن بعض الدّول الّتي زارتها هذه السّيارة، حيث قطعت ستين الف كيلومتراً في الشّرق الأوسط لتزور معالم المسيحيّة في كلّ من لبنان وفلسطين واليمن ومصر والعراق والإمارات العربية وتركيا وطاجكستان وتركمنستان وقيرغزسنتان وإثيوبيا.
فوفق تسلسل زمني منظم يتابع الزّائر قصّة مسيحيي المشرق من ألفها حتّى يائها، حيث الترتيب الهندسي المناسب للموجودات الّتي ضمت أكثر من ثلاثمائة قطعة من بينها العديد من التحف التراثيّة المستعارة والّتي لم يسبق أن عُرضت في أوروبا، مثل مخطوطة أناجيل رابولا السرياني الشهيرة الّتي تعود للقرن السادس، وجداريات دورا- أوروبوس في سوريا وهي من أوائل الجداريات الكنسية المعروفة في العالم وتعود إلى القرن الثالث، وفسيفساءات الكنائس الفلسطينيّة والسورية الأولى، وصور الرهبان الأقباط في دير باويطفي في مصر، وشواهد وهدايا من حج مار مينا ومار سمعان ومار تقلا، إلى جانب العديد من الأيقونات الثمينة.
الجماعات الأولى
في القاعة الأولى يمكن للزائر أن يتعرّف على نشأة المسيحيّة وانتشارها في المشرق. حيث عَيّنت الأناجيل مكان كِرازة المسيح في فلسطين. ثمّ تجذّر الدين الجديد في ضفاف البوسفور وما بين البحر المتوسط ونهر الفرات قبل أن ينتشر في العالم أجمع.
نشأت المسيحيّة وتوطدت ما بين القدس وأفَسُس (وهي من أعظم المٌدن الاغريقية القديمة في الأناضول -تركيا اليوم)، مروراً بأنطاكية والإسكندرية ودمشق. وسرعان ما انتشر انجيل” البشارة الصالحة” الإغريقي” من شمال الجزيرة العربية وصولاً إلى روما وما وراء تخوم الإمبراطوريّة الرومانيّة في الحبشة وأرمينيا وفي عمق أرض الفَرثيين شرقاً (شمال شرق إيران) وعلى طول نهري دجلة والفرات.
حتّى القرن الثالث عانى المسيحيون من الاضطهادات المتكرّرة في ظلّ الامبراطوريّة الرومانيّة فاضطر المؤمنون للتّخفي في البيوت لأداء الطّقوس، ثمّ بدأت تظهر أوائل الكنائس في شمال شرق سوريا.
لكن مع صدور مرسوم ميلانو في سنة 313 الّذي أطلق الحريّة لجميع العبادات انتشرت الكنائس في أراضي الامبراطوريّة الرومانيّة، إذ أمر الامبراطور قسطنطين بتشييد الكنائس في المواقع الّتي تستذكر حياة المسيح مثل كنيسة” القبر المقدّس” في موقع قيامة المسيح وكنيسة جبل الزيتون في موقع صعوده في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم.
إلى جانب الحديث عن انتشار الكنائس على أراض الامبراطوريّة الرومانيّة، يتمّ عرض أسطوانات مضيئة تميز الطرز المعماري للكاتدرائيات، إلى جانب عرض كنوز الأواني الطقسيّة الفاخرة مثل الأطباق والكؤوس والمباخر والقناديل وقوالب خبز القربان.
كذلك هناك قاعة خاصّة بالرّهبنة الّتي كانت ظهرت في مصر في القرن الثالث قبل انتشارها في فلسطين وسوريا وما بين النهرين والجزيرة العربيّة.
وفي الطّابق الأعلى وسط القاعة، يمكن للزّائر أن يجول في رحاب دير الرّاهب السوري سمعان العمودي بفضل مجسّم ثلاثي الأبعاد أنتجه جان- لوك بيسكوب.
الفتح الإسلامي
انطلاقاً من القرن السابع سيطر العرب المسلمون على أراض شاسعة كانت تابعة للإمبراطوريّة الرومانيّة وأخضعوها للخلافة، ولكن سُمح لأهل البلاد المسيحيين في غالبيتهم بالبقاء على دينهم والإبقاء على كنائسهم وأملاكهم ومؤسّساتهم ونشاطهم الاقتصادي.
وانطلاقا من القرن الثالث عشر، كان للمسيحيين دور كبير في الإدارة والحياة الفكريّة والاجتماعيّة والثقافيّة في الممالك والإمارات الإسلاميّة المختلفة.
على مدى القرون الّتي تلت الفتح الإسلامي اعتمد المسيحيون في غالبيتهم اللّغة العربيّة واستخدموها في طقوسهم وزخرفة كنائسهم. وقد انطلقت حركة التّعريب هذه من بغداد حيث تُرجم الكتاب المقدّس للعربيّة في القرن التّاسع. وفي الطّقوس سرعان ما اعتُمدت العربيّة على حساب اللّغات التقليديّة ولا سيما القبطيّة (الّتي اختفت إبّان القرن الخامس عشر) والإغريقيّة والسريانيّة.
لهذا خُصص في المعرض مكان دائري للغات الليتورجيّة (الليتورجيا كلمة يونانيّة يُقصد بها العبادات والصّلوات الاجتماعيّة بكلّ أنواعها ولكن استقرّ الرّأي على إطلاق هذا الاصطلاح على القدّاس الإلهي تحديدًاً). يضمّ هذا المكان مخطوطات نادرة جدّاً بالقبطيّة والسريانيّة والإغريقيّة والعربيّة.
الحملات الصليبيّة
بين القرنين العاشر والثّالث عشر، أصبحت “الأراضي المقدّسة” في فلسطين ساحة للمواجهة بين مسيحيي الغرب والمسلمين وقع المسيحيون المشرقيون ضحيتها الأولى. فتراجعت المسيحيّة في سوريا والعراق ابتداء من القرن العاشر. أمّا في مصر فقد هُمّش الأقباط انطلاقاً من القرن الرابع عشر مع كلّ ما رافق ذلك من القلاقل والإجبار على ترك دينهم.
وإذ تواصل الصليبيون مع الثّقافات المشرقيّة السريانيّة والإغريقيّة والعربيّة أدخلوا منها الكثير من العناصر في تقاليدهم وأقاموا المبادلات الفنيّة والثقافيّة ولا سيّما في ميدان العمارة والأدب. كما استعار أصحاب الصنائع المشرقيون الطراز الصليبي في الأيقونات المحليّة.
جسر ثقافي
كانت الطموحات الدوليّة للخلافة العثمانيّة مواتية لتعزيز العلاقات الفكريّة والديبلوماسيّة والاقتصاديّة بين الشّرق والغرب. وكانت أوروبا قد بدأت بالاهتمام باللّغات الشرقيّة فاستضافت مدرسين مسيحيين لتعليم العربية في الكراسي الجامعيّة الجديدة المخصّصة لها.
وقد شارك هؤلاء المسيحيون ومن أشهرهم جبرائيل الصهيوني، بترجمة الأناجيل للعربيّة لطباعتها. وأُرسلَت مطبعة إلى حلب (1706) ثم نقلت لدير الرهبان الباسيليين في الشوير بجبل لبنان، وكانت تلك أوّل مطبعة عربية في المشرق وكان عملها محصوراً بطباعة النّصوص الطقسيّة وكتب الصّلوات.
حول هذا الموضوع ثمّة مخطوطات وأناجيل ولوحات نحاسيّة منقوشة بأبجديات مختلفة في هذا المعرض ضمن قاعة شكلت محطة متعددة الوسائط صممتها المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة وتُعرض للمرّة الأولى.
رحلة في الزّمن
المعرض هو عبارة عن رحلة في الزّمن بحيث تستوقفك كلّ لوحة وكلّ قطعة أثرية وكلّ أيقونة لتخبرك قصّة من قصص هذا التّاريخ الحافل بقضايا روحيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. ففي هذا الصرح الحضاري الضّخم الجاثم على ضفّة نهر السين والمطل على كاتدرائيّة نوتردام باريس، يستكمل معهد العالم العربي بالتّعاون مع متحف أوجين لوروا للفنون الجميلة في توركوان، اهتماماته عن كثب بالشرق وكنوزه التاريخيّة، محتضناً هذه الفعالية الثقافيّة ذات الأبعاد المختلفة.
أمّا تعبير “مسيحيو المشرق” الّذي ظهر بالفرنسيّة في القرن التّاسع عشر فكان المقصود به الجماعات المسيحيّة القاطنة على رقعة ممتدّة من تركيا إلى إيران، لكن معرض باريس الحالي يتناول الطّوائف المسيحيّة في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر والأردن والعراق.
إضافة تعليق جديد