(مساحات شرقية) يعيد إشكالات الإبداع إلى الواجهة
ربما تكون الطاولة المستديرية التي عقدت صبيحة اليوم الأول من فعاليات مهرجان (مساحات شرقية)، من أهم الندوات واللقاءات التي أقيمت إلى جانب الأمسيات الموسيقية، فقد ضمت مجموعة الموسيقيين السوريين الشباب الذين قدموا تجاربهم الموسيقية الجديدة في حفل الافتتاح، وتلك كانت مناسبة لإثارة الأسئلة حول التراث الموسيقي الشرقي وطبيعة علاقة المبدعين معه، هل هي علاقة عصية على البحث والاستنتاج والاجتهاد، أم أنها مبنية على أساس أن قواعد ذلك التراث يجب ألا يمسها أحد فهي مرسومة بشكل مكتمل ونهائي لا يحتمل أي تفسير؟ ثم لماذا تخلفت الموسيقا الشرقية والعربية تحديداً، عن باقي الفنون الابداعية الأخرى على صعيد التطوير والاكتشاف؟ لماذا استطاع الشعر والتشكيل إنجاز ما تعثرت الموسيقا في إنجازه أو على الأقل لم تستطع اللحاق بإخوتها من بقية الفنون؟ هل التجارب الموسيقية الجديدة التي توصل إليها الشباب السوريون تحديداً، تؤسس لتجارب نجاحة سيكتب لها الاستمرار والنجاح، أم أن عزلتها عن الجمهور وعدم قدرته على التواصل معها سيتكفل بقطع تلك المحاولات من الأساس..؟
في البداية لابدّ من الإشارة الى البرنامج المتوازن الذي أعدته الجهة المنظمة (الأمانة السورية للتنمية ـ قسم ثقافة وتراث) والمدير الفني للمهرجان الموسيقي هانيبال سعد، فقد غطّى البرنامج في خمسة أيام مساحات واسعة من الموسيقا السورية والشرقية بحيث لم يغب عن الفعاليات أي لون موسيقي، كما أن برنامج الندوات وتقسيمها الى محاضرات صباحية ومسائية كان موفقاً الى أبعد الحدود، وهي تقنية تُشكر عليها الجهة الراعية للمهرجان (الأمانة السورية للتنمية ـ قسم ثقافة وتراث) وهانيبال سعد الذي اشتغل برؤية موسيقية وإبداعية لضرورات إطلاق حوار موسيقي يتناول مفاصل وجذور الموسيقا الشرقية كمشروع من أجل تطوير الموسيقا بشكل عام.
في هذا الإطار كان للسوريين: نوري اسكندر وحسان طه وشفيع بدر الدين وزيد جبري، والايراني نادر مشايخي، والتركي شيفكي كرايل، جلسة حوار ساخنة ومطولة مع المهتمين والاعلاميين والموسيقيين حول التجارب الموسيقية التي قدمت في حفل الافتتاح إضافة إلى أولويات البحث الموسيقي ومنطلقاته والبوصلة التي يجب اعتمادها من أجل النهوض بهذا الفن بشكل عام..
حوار الطاولة المستديرة، أشعل أكثر من شجن حول الإبداع الموسيقي وطبيعة التعامل مع التراث وأسباب تعثر التطور الموسيقا إذا ما قورن مع بقية الفنون.
في هذا الإطار فإن الباحث والموسيقي نوري اسكندر الشهير باشتغاله على التراث الموسيقي السوري القديم وتوثيقه للموسيقا الشفاهية والعمل على ربط مراحل التطور التي مرت بها عبر مختلف الحقب والعصور، يعتقد أن التركيز على لغة الموسيقا التي سنستخدمها هو في غاية الأهمية قبل كل شيء، فهناك تراكيب ايقاعية ولحنية خاصة بتراثنا الموسيقي لابد من دراستها وفرزها ضمن جداول كي تصل إلى المؤلفين الجدد ليكتشفوا بأنفسهم طبيعة هذا التراث وماهية الاستفادة منه في الأعمال التي يحاولون اكتشافها على نحو مختلف وجديد.. كلام اسكندر هذا فجر أيضاً أكثر من نقاش حيال طبيعة التدوين والكتابة، وحول آلية التعامل مع ذلك التراث خاصة أن التجارب الجديدة التي افتتح بها المهرجان تضمنت الكثير من هذه الرؤيا.
حول ذلك رأى الموسيقي السوري زيد جبري أن إشكالية التطور الموسيقي ترتبط بكل التفاصيل التي تتعلق بالمجتمع المدني والريفي على حد سواء، فإذا اعتبرنا الشعر أكثر الفنون تطوراً لدينا فهذا يعود لأنه عمل فردي قبل كل شيء، أما الموسيقا فترتبط هنا بمؤسسات كبيرة وفرق ومجموعات، ترتبط بالأوركسترا والعازف الجيد والآلة الجيدة أيضاً، وهذه الأطراف جميعها يمكن ألا تكون متناغمة أو متفاوتة كما تقتضي الضرورة حتى يشكل ذلك بيئة خصبة للإبداع.. هنا تساءل جبري: ما هي الفائدة من الإغراق في العزف لمؤلفين غربيين مشهورين رغم أهميته، مع نسيان ضرورة العمل على إعداد المؤلفين القادرين على الابتكار والابداع قبل كل شيء؟.
ركز جبري على البيئة كثيراً في عملية كشف دواخلها وتجلياتها، كما ركز على العامل الثقافي في التعامل مع الموسيقا التي كانت نتائج عمليات تفاعل اجتماعية وثقافية وتبادل خبرات بين الانسان ـ المجتمع والبيئة.. وقال: هناك مختصون بالموسيقا التقليدية وهناك الموسيقا الفلكلورية الشعبية التي لم يكتبها أحد إنما كتبتها الثقافة على مرور الزمن نتيجة تفاعل الانسان مع البيئة واحتكاكه معها وهذه الموسيقا تمتد آلاف السنين، إنها بمثابة الخزان الذي يشكل مصادر إلهام وإثراء للمؤلف، فمن سورية انطلقت أقدم الحضارات البشرية إلى أنحاء العالم، من هنا انطلقت الأبجدية وأول الفرق الموسيقية من أوغاريت، لذلك فإن السؤال على درجة كبيرة من الخطورة لأنه ينطوي على مسؤولية كبيرة دون أدنى شك..!
ذكّر جبري بمحاولات الأوروبيين ترسيخ النظرة النمطية للشرق أوسطي بشكل عام، داعياً إلى العمل على إيجاد مؤلف يجمع ذلك الماضي بالحاضر والمستقبل.. (حتى لا نبقى مجرد مؤرشفين لا بد من التخصص والاطلاع على علم موسيقا الشعوب حتى نتمكن من التقدم إلى الأمام). شفيع بدر الدين رأى أن إشكالية التطوير الموسيقي والنظر إلى التراث، هي فكرية بامتياز، (فالفكر هنا صوتي موسيقي وكل ما تبقى مجرد وسائل..) وقال بدر الدين: إن تاريخ الموسيقا الغربية يشير إلى طبيعة المرحلة التي وصل إليها الغرب الآن فهذا التحول كان في أساسه جملة تحولات من أهمها الحرب العالمية الثانية.
نقطة مهمة أشار إليها بدر الدين وهي التقنية العلمية الموجودة الآن، فسابقاً كان النوط إذا عزف من غير الممكن تكراره أما الآن مع وسائل التسجيل الحديثة أمكننا أن نستمع إلى 98 بالمئة من هذا الصوت الذي عزف.. (إذاً الصوت أصبح مادياً أمامي.. حتى طريقة تعريف الصوت الموسيقي اختلفت، ويمكن أن نذكر هنا بالمؤلف الموسيقي الفرنسي بيير شيفر الذي له تجارب مدهشة في هذا الإطار، فقد قام بتسجيل نباح كلب ثم غير له التون وجعل الكلب يغني بنجاح لبيتهوفن..لقد صار هناك تعريف جديد للموسيقا ويجب أن نعرف كيف نسمع الموسيقا وكيف تبنى الموسيقا).
عرض بدر الدين تطورات الموسيقا تاريخياً، ثم ربط ذلك بالتطورات التقنية التي حدثت فأكد أنه ومنذ اختراع الراديو لم يعد أحد يملك غناء نقياً، حتى البدو لم يعودوا كذلك بسبب تطور التكنولوجيا والاستماع إلى موسيقا أخرى من فئات أخرى من العالم.
ركز جبري على أن الكتابة والتدوين مسألة أساسية مع التذكير بأننا لا نريد نفي الشفاهية.. (ربما كان الغرب مشغولا بمفاهيم الهيمنة أو ما شابه، لكننا من المفترض أن نعمل بشكل إبداعي بمعزل عن مقولات الآخرين أو تأثراً بها، فنحن أيضاً لنا منطلقاتنا وتجربتنا ورصيدنا الذي من خلاله نعرف كيف نكمل تجاربنا ونغنيها بالكثير).
الموسيقي السوري حسان طه، عاد إلى القرن العاشر تاريخ حدوث القطع في تدوين الموسيقا واستمرار هذا القطع حتى القرن العشرين، مذكرا بالفارابي وابن سينا اللذين كانا من الأوائل الذين ربطوا العلم بالموسيقا، فأكد أن ما وصلنا منذ القرن العاشر على صعيد الموسيقا العربية كان غير واضح تماماً، إنه حالة وصفية لما كان يجري وهذا كان له تبعاته على الموسيقا وتطورها بشكل عام.
وفي مقارنة مع عودة الغرب باتجاه الشفاهية واعتمادها كأسلوب يحفز الخيال ويستفزه على الإبداع، رأى طه أن الغرب لم يتجه إلى الشفاهية الآن إلا بعد سلسلة تجارب كبيرة وتراكم إرهاصات وظروف، مؤكدا على ضرورة النظر إلى تجربتنا نحن بغض النظر عن الآخرين حيث تبدو الشفاهية تدفعنا للتورط أكثر في المطبات نفسها التي وقعنا فيها سابقاً.. (فما المانع من أن نستخدم الكتابة مع الشفاهية بحيث لا نخسر الاثنين.. لماذا لا نستفيد من المكتوب ومن الشفهي في الوقت نفسه.. لماذا لا نستفيد من تجربة الغرب، فالموسيقا علم وحالة عقلية وثقافية).
ركز طه على ضرورة وجود الحامل الفكري في الموسيقا وسماه من أهم العوامل التي من الممكن أن تفتح الباب أمام التطوير، فحتى الآن ورغم دخول التكنولوجيا والكمبيوتر، (مازال هناك أناس يفكرون بعقلية القرون الوسطى ويتعاملون مع الموسيقا وتلك مفارقة تستدعي التفكير والتساؤل).
وحول حوار الحضارات والتبادل الثقافي، يذكر طه مثالا حول زيارة مجموعة من الموسيقيين الأوروبيين الذين حملوا آلاتهم وأتوا إلى مناطق عذراء في أفريقيا كي يعملوا كونشيرت مع أناس منعزلين من القبائل حيث عزف الطرفان لبعضهم، لكن تلك القبائل لم تقدر على التواصل مع تلك الموسيقا العالية التي يكتشفونها للمرة الأولى، وتفاعلوا أكثر عندما عزفت المجموعة للمؤلف (ليجيتي) الذي سبق وزار افريقيا وتأثر بالموسيقا هناك.. وهذا يعود لأنهم كانوا يستمعون إلى شيء من خصوصيتهم في تلك المعزوفات.
أسئلة ومداخلات
مداخلات الحضور من الموسيقيين المهتمين أو المشاركين في المهرجان تباينت حسب الجيل والثقافة والرؤية التي يحملها كل فنان.. ففي حين آثر الجيل القديم الإنحياز باتجاه قواعد الماضي والتراث، فضّل الجيل الشاب أن يخوض مغامرة التجريب والبحث انطلاقاً من تلك القواعد التي ليست نهائية كما يقول.. هنا بدت إشكالية تطوير الموسيقا الشرقية وإعادة اكتشافها على نحو مختلف، مرتبطة بأسئلة فكرية وذهنية لم تنفك جميع أنواع الفنون عن طرحها قبل البحث في سبل النهوض، إشكالية ترتبط بطبيعة النظر إلى التراث وآليات الاستفادة منه أو الإضافة عليه أيضاً..
في كل الأحوال فإن (مساحات شرقية) أعاد إثارة الأسئلة الابداعية من كل العيارات.. تلك الأسئلة التي تبدو رغم استعصاءاتها إلا أنها لن تشكل حاجزاً أمام تلك التجارب كي تتجرأ وتبحث.. وتمعن في التجريب..!
زيد قطريب
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد