محمد أركون وخطاب الحداثة
أصبح معروفاً اليوم أن سياق/الحداثة الغربية/ قد تبلور عبر قيام عصر الصناعة في أوروبة، وما رافقه من عقل نقدي.. لم يدع شيئاً خارج دائرة النقد العقلي المؤسس معرفياً، فكانت هناك/مرحلة الحداثة/ والتي عبّر عنها بعصر الصناعة الأول في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وبالتالي تجليات هذه الفترة الفكرية، والفلسفية، وانعكاسها في الأدب والفنون، وأنماط المعيشة، واتساع النزعة الليبرالية بدءاً من الحرية الفردية التعبيرية حتى الجسدية منها الخ..
هكذا قُدمت الحداثة الغربية، وظهرت بأشكال وتعبيرات مختلفة في الانتاج المعرفي بأجناسه الفكرية والأدبية من/الديكارتية وفلسفة الشك/.. إلى /الوجودية/ وجان بول سارتر.. إلى السوريالية، ومابعدها..
لقد أطلق على المرحلة الثانية في الحداثة الأوروبية /مرحلة مابعد الحداثة/ ولعلها زمنياً هي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبة امتداداً إلى اليوم عبر أفكار العولمة وتجلياتها /الليبرالية الجديدة/ المجسدة في الحراك الأمريكي على الجبهات العالمية، ومحاولات بعض الجهات الأوروبية المقاربة والتماهي مع هذا الاتجاه.
أهم ملامح /مابعد الحداثة/ ومظاهرها المادية هو الانتقال السريع المذهل في الانتاج والتقانة، والمعلوماتية، وغزو الفضاء، والاستغناء كثيراً عن اليد العاملة لصالح تطور تقنية الآلة، واتساع /ثقافة السرعة والاستهلاك/ كأنماط في التفكير والمعيشة، والاعلام، والأرقام، والتنافس، وتباعد الفجوة الطبقية، والاجتماعية بين الشمال الأوروبي الغني، والجنوب/العالم ثالثي وأقل/ الذي يزداد فقراً ونهباً بسبب العجز العام لهذه البلدان لأسباب ذاتية، وموضوعية عن انجاز الحد المطلوب الأدنى من مشروع نهضوها ولحاقها بعربة التقدم.
في مقاربة ملامح خطاب /الحداثة العربية/ في افاقه (الرؤيوية) لأنه لم ينجز كمشروع مادي، ولم يتفق عليه كمشروع فكري أولاً.. يعتبر الكثير من الكتاب والمفكرين أن /صدمة الحداثة/ زمنياً جاءت مع حملة /نابليون/ على مصر عام /1798/م حيث بدأ امتحان الوعي العربي في قدرته على استيعاب تحولات العصر المعرفية، العلمية والثقافية، وانعكاساتها الاجتماعية، وبالتالي: المواءمة، والتوازن، والتفاعل بين معطيات العصر وتحولاته، وبين الموروث التراثي للأمة العربية.
بعض سمات الفكر
النهضوي العربي:
لقد طرح الفكر النهضوي العربي عدداً من /الثنائيات/والتي تحمل سمات /التضادية/ مثال: مسألة العقل والنقل - الاسلام والغرب - الشرق المتخلف والغرب المتمدن- العلم والايمان- الخلافة والحكم المدني..الخ، وأظهرت كل المقاربات التي كتبها مفكرو التنوير العربي.. حجم الخلاف، وإشكالية الرؤية التي بدت واضحة في مقاربة العنوان الكبير/التراث والحداثة/ بمعنى آخر/نحن والغرب/ بما تحمل كلمة /النحن/ من نزعة تعظيم الذات.. هذه الذات العربية التي أقامت حضارة في مرحلة تاريخية معينة حيث بدأ انكسار هذه الحضارة منذ عام /656/هـ .. عام سقوط بغداد على يد هولاكو، وما تلا ذلك من مراحل الغزو الافرنجي، والاحتلال العثماني، ثم الاستعمار الأوروبي، والغزوة الاستيطانية الصهيونية إلى مافيه العرب اليوم من تبعثر وضياع.
لقد ظهرت سمة أساسية في كل خطاب النهوض العربي، وهي أنه بقي أسير الثنائيات السابقة التي أشرت إليها، والتي كانت مشهداً مفارقاً قوامه الاعجاب بحجم وأنواع التمدن الغربي، وما وصل إليه من حداثة، وتحرر، وعقلانية يقابل ذلك عربياً نمو نزعة /احتقار الذات/والشعور بالدونية أمام ماوصل إليه الغرب.. أما المسألة الثالثة في الإشكالية: فهي رؤية الغرب من موقع المستعمر المتسلط على الشعوب ومقدراتها، وثقافتها.
ملامح فكر محمد أركون
في هذا المشهد المتأزم في رؤية الذات والآخر ظهر عدد من القراءات الجادة والجيدة لدى بعض المفكرين العرب في مقاربة /الحداثة الغربية/ مستفيدين من كل المنظومات المعرفية، والثقافية، ومناهج الدراسات التي أنتجتها الحداثة الغربية.. ولعل أنموذج المفكر العربي الكبير /محمد أركون/.. والذي هو من أصل جزائري.. لكنه يعيش في فرنسا والغرب، ويكتب باللغة الفرنسية.. لقد كانت مسألة الحداثة، والنهضة العربية، والإسلامية جزءاً هاماً من مشروعه الفكري فهو في قراءته /لبنية العقل الاسلامي/ انطلق من منظومات معرفية سماها (الاسلاميات التطبيقية.. التي تهدف إلى قراءة ماضي الاسلام، وحاضره انطلاقاً من خطابات المجتمعات الاسلامية والعربية وحاجاتها الحالية) 1.
/أركون/ في نهجه هذا يسعى لتأسيس دراسات إسلامية جديدة بعيدة عن الكتابات الاستشراقية في قراءة الاسلام والتي يسميها أركون /بالوصفية والخارجية/.. فهو يسعى للاستفادة من كل المعارف الاجتماعية في دراسته للنصوص الإسلامية، ومحاولة فهم خصوصية الحالة الاسلامية (وآليات التحول داخل المجتمعات الإسلامية، ومقاربتها واقعياً بعيداً عن النظرة الاستشراقية المتولدة من فكر التمركز الأوروبي) 2.
يرى /أركون/ ان الدراسات الاستشراقية لم تؤدِ إلى كشف المشاكل الحقيقية وآليات الهيمنة والتسلط السائدة في المجتمعات الاسلامية، ومنها العربية، بسبب الرؤية الاستشراقية القاصرة، وعدم القدرة على فهم الظاهرة الاسلامية بسبب النظرة الفوقية لقسم من المستشرقين وأيضاً بسبب ذهنية (المركزية الفكرية الأوروبية) والتي تشبّع بها عدد من الباحثين والفلاسفة الغربيين.
يطرح أركون بدعوته إلى /الاسلاميات التطبيقية/ مسألة العلاقة بين التراث والحداثة، وهي إشكالية كبيرة وقديمة رافقت الفكر العربي. وما زالت قائمة في بنية الخطاب العربي المعاصر.. يقول أركون: (أنا لست أصولياً ماضوياً.. الذي أريده إقامة مقارنة جادة بين البعد الديني، ومعطيات العلوم الإنسانية، والاجتماعية.. البعد الديني بكل مايعنيه من قيمة روحية لوجود البشر، وبين فتوحات الحرية التي حققها العقل العلماني في أوروبا) 3.
إن منهج /أركون/ البحثي يقارب قراءة النصوص، والظواهر الاسلامية بنوع من رفض اللغة الدعائية والشعاراتية، والتبجيلية، والرؤية التقليدية الماضوية التي ترى كل الكمال في هذا التراث، وانه يمكن استعادة هذا التراث، وتوظيفه كاملاً في بناء الحياة الواقعية الجديدة.. (أركون) يرفض هذه الرؤية (اللاتاريخية)، وهذا النمط من التفكير.. بالمقابل يفتح أركون نوافذه على معطيات الحداثة الغربية بالأخص: دراسات العلوم الإنسانية، والاجتماعية والتي حققت نوعاً من( التمكين للوعي التاريخي) الذي حل محل التفسيرات اللاهوتية، والاسطورية.
أركون في بحثه لمقاربة فهم الحداثة الغربية هو يحاول تطويع مفاهيم هذه الحداثة لتتلاءم مع/ جوهر القيم الروحية/ التي يحققها الدين بالنسبة للوجود البشري، وهذا مالم تحققه الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية.
السؤال: أية حداثة يريدها /أركون/؟..
الجواب هو في كتاباته حيث يقول: ( الحداثة هي موقف للروح أمام مشكلة المعرفة.. موقف للروح أمام المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل الى معرفة ملموسة للواقع)3.
اما التحديث فيراه/أركون/ جانبا تقنياً يتعلق باستخدام التقنيات الحديثة بالمعنى الزمني وادخالها الى الساحة العربية والاسلامية.
الحداثة الغربية تشكلت في سياق تاريخي تعززت فيه الروح النقدية القوية تجاه المنظومات الفكرية التقليدية، ووصلت الحداثة الغربية حدّ القطيعة مع الفكر الميتافيزيقي، والتفسير اللاهوتي للظواهر.. وبالتالي الانقلاب على كل البنى الاجتماعية التقليدية ومحمولاتها الفكرية.. لقد كانت الحداثة الغربية انتاجاً لمسار طويل من التحولات عرفته أوروبة منذ بداية عصر النهضة، وهذه الحداثة بالمحصلة هي موقف روحي، وجوهري خاص تجاه العالم والانسان سماته الرئيسية (العقلانية والوضعية والعلمانية).
ينظر /أركون/ لمقاربات بعض المجتمعات العربية والاسلامية لمسألة/الحداثة/ انها:
(تجارب حداثة استهلاكية.. تعوزها الاصالة، والابداع، والروح النقدية)، وعليه يرى ان مقاربة نوع من الحداثة العربية يفترض تجاوز أنماط المقاربات الحداثية السطحية باتجاه نوع من الحداثة العقلية والفكرية النابعة من الواقع العربي والاسلامي، ومستجيبة لطموحات الانسان العربي.
يفرق/ أركون/ بين مفهوم الحداثة والمعاصرة فهو يقول: إن الحداثة ليست زمنية بل هي (موقف روحي أصيل).. قد يوجد في أي زمان: فأرسطو، والجاحظ وأبو حيان التوحيدي، والمعري وغيرهم هم حداثيون أكثر من شخصيات فكرية تعيش بيننا، وهو في ذلك يتحدث عن (النزعة الانسية) في الحداثة وتتلخص في: (المزج بين الثقافات، والحضارات، وصهرها في بوتقة ما، وبيئة ما)4، الانسية كما يصفها اركون هي (الروح المتعالية على الشوفونية، والعرقية الضيقة.. هي انفتاح على الآخر بثقافته، وقيمه وتصوراته) ويرى ان هذه (الانسية) تجلت لدى أعلام كبار في الثقافة العربية منهم (أبو حيان التوحيدي) رمز التمرد والإبداع، وضحية الانغلاق، والتحجر لدى بعض الفقهاء والساسة، الذين رموه بالزندقة والخروج.. كما يرى ان/ الجاحظ/ مثقف أنسي منفتح على الفكر اليوناني، والفارسي، والعربي الاسلامي.. بذلك يكون / الجاحظ والتوحيدي/ قد مثلا الحداثة العربية الاسلامية في عصرهم.
يذهب /أركون/ الى ان الحداثة العربية الاسلامية في القرن الرابع الهجري ارتبطت بالتيار العقلي، الفلسفي، والعلمي.. وكان /ابن رشد/ خير ممثل لهذا التيار الذي لعب دوراً بارزاً في الساحة الاوروبية إبان عصر النهضة الاوروبية عبر/تيار العقلانية/ الرشدية/ ذي السمة الفلسفية.. بذلك يكون قد جسد الحداثة في عصره بكل خصوصيات الروح، والزمان، والمكان.
لقد ثار/ ابن رشد/ على كافة أنماط التفكير التقليدية ومنها فكر/الغزالي/ورد على آرائه الفكرية، وأكد على ضرورة التلازم بين الفلسفة والشريعة.. الفلسفة كتوليف عقلي يقلب القضايا على وجوهها، ويقرؤها من الوضعية، والحاجة، والشريعة كأساس، ومنطلق ومصدر، ومرتكز قابل لنوع من وعي التطبيق والمقاربة الزمنية.. كانت المنظومات الفكرية لابن رشد أحد العلامات الكبيرة البارزة في الحداثة الاسلامية في عصرها.
هناك علامات فكرية كبيرة عند /أركون/ يجب وعيها: ففكره يحمل /التحول والتغيير الواعي والهادف/.. ونظرته للاسلام انه كان تحولاً حداثياً كبيراً في عصره، حيث شكل الخطاب القرآني تغييراً جذرياً لبنية ثقافية، واجتماعية تحمل وهجها، وبلاغتها، وابداعها، وخيرها الانساني.. لكن يرى /أركون/ ان الثقافة (الدوغمائية)الجامدة التي كرسها الغالب من الفقهاء.. والذين يسميهم /ماكس فيبر/ (المسؤولون عن تسييرالمقدس) أضعفوا الكثير من وهج هذا الفكر وروحية خطابه، وأرهنوه بثوابت لا تقرأ زمن التحول.
خاتمة:
في تقديري قدم المفكر الكبير/ محمد أركون/ فكراً رائعاً يعتد به، ومنهجاً معرفياً في قراءة /الاسلاميات/، واستطاع مقاربة الفكر الاسلامي بعقل حي، ومعرفي، ومنفتح.. عقل علمي، وبحثي، كما قدم منظومات فكرية إسلامية نقدية منهجها تطبيقي كالنقد الأدبي في قراءة النص، وكشف جوانبه، متحرراًمن عقد الزمان، والمكان، والاسماء، وفكرة التعظيم الموروث.
فكر/ محمد أركون/ هومنهج معرفي، ودليل لقراءة الكثير من إسلامنا وتراثنا.
هذه مقاربة وعرض لبعض معاني وتجليات الفكر الحداثي العربي ممثلاً بـ/ محمد أركون/ آملاً في ابحاث قادمة اقارب فيها المرتكزات الحداثية لدى مفكرين عرب اخرين.. /كمحمد عابد الجابري/، و/عبد الله العروي/وغيرهم لنقدم مستوى من الاضاءة بحدود ما تسمح المساحات الصحفية والتي هي أكثر انتشاراً في القراءة من الدوريات، والكتب التي قد لا يقرؤها إلا المختصون، وتحتاج لإعادة التوليف، والتقريب والتوصيل للقارىء وهذه محاولات نأمل ان نوفق فيها.
يوسف مصطفى
الهوامش
1- محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد.. الجزائر- المؤسسة الدينية للكتاب 1993-ص 31-32.
2- محمد أركون: حداثة العقلانية والأنسية- عبد الوهاب شعلان- المستقبل العربي العدد 2/2004م
3- محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص /256/.
3ـ محمد أركون: تحديث وليس حداثة. ص(105)
4ـ محمد أركون: الفكر الاسلامي- نقد واجتهاد .
إضافة تعليق جديد