لماذا يستمر الأدب؟
ما الذي يقوم به الأدب، ولماذا يستمر بنصوص متوالدة؟ الجواب ليس واحداً، ففي أحادية الجواب ما ينتهك معنى الأدب. يقول البعض إن دور الأدب تمثيل الواقع، وهي كلمة ليست سهلة، بعناصر يتمازج فيها الواقعي والمتخيّل. ويرى آخر أن دوره الكشف عن واقع متعدد يحتشد في واقع يبدو وحيداً. بل يرى أن اختزال الواقع إلى واقع، بصيغة المفرد، قول سلطوي، يقرر واقعاً مفرداً، ويعمل، تالياً، على اعتقال الواقع ومصادرة حركته. وهناك من يأخذ بفكرة الحوار، مؤكداً حوارية الأدب، إذ الأديب يعتنق الحوار، وإذ القارئ يذهب إلى نص لا يعطي أحكاماً قاطعة. نعثر، بداهة، على موقف، ليس أخيراً بالضرورة، ينسب إلى الأدب وظائف أخلاقية وعظية، من دون أن يميّز بين دور الأدبي في تغيير الواقع، وهو تصوّر لا يحمل الكثير من المعنى، ودوره في تغيير النظر إلى الواقع، وهو تصوّر ممكن في شروط معيّنة.
يمكن، ربما، إدراج المواقف السابقة في فكرة أساسية تقول إنّ دور الأدب هو إعادة إنتاج الأدب، مع ملاحظة قصيرة ضرورية تقرّر: يُعيد الأدب الكبير إنتاج النصوص الأدبية الكبيرة، وترتضي النصوص الصغيرة بمراجع على صورتها، يقبل بها قارئ لا يعرف النصوص الإبداعية. وهذه الفكرة هي التي تدفع بعض الباحثين في الأدب إلى إرجاع عمل ديدرو المتميّز «جاك القدري» إلى رواية لورانس ستيرن «تريسترام شاندي»، الذائعة الصيت، أو أن يقرأ «أوليس» جيمس جويس على ضوء رواية دون كيخوته وصولاً إلى المقارنة بين «الكوميديا الإلهية» و «رسالة الغفران». تظهر الفكرة، في مستوى أكثر وضوحاً، في العلاقة بين الرواية التاريخية عند والتر سكوت والرواية التاريخية عند جورجي زيدان. وقد تتضح أكثر في طموح نجيب محفوظ الشاب في «مرحلته الفرعونية»، الذي شاء أن يقلّد أديباً قلّد غيره، موحياً بتعيين الرواية التاريخية سلسلة متوالدة، يضع فيها أدباء مختلفون حلقات مختلفة. لا يختلف الأمر في الحقل الشعري، الذي يفرض على كل شاعر أن يختار أباً له، حالماً أن يصبح الأب إبناً شعرياً له. وهو ما يجعل أب الطيب المتنبي ماثلاً، في شكل مضمر أو صريح في شعر محمود درويش وأدونيس، وغيرهما، ربما. فالشعر ترهين مستمر للتاريخ الشعري، خلافاً للرواية المتميّزة بتاريخ من الهدم والبناء المستمرين.
والسؤال الواجب طرحه هو: ما معنى الأدب إن كان كل نص يعيد إنتاج نص سبقه؟ أليس من الأفضل، إن كان الأمر تكراراً، أن يكتفي القارئ الحصيف بنصوص الآباء، وأن يُعرض عن نصوص أبناء لا يطاولون، ربما، آباءهم موهبةً؟ يحيل السؤال على جواب له وجهان: وجه أول يمكن أن يدعى بأبدية القيم الإنسانية النبيلة المتطلّعة إلى العدل والجمال والسعادة وطمأنينة الروح والسلام... فالمبدع المغترب الذي يشعر بنقصٍ ويطارد مسرّة هاربة، ينسج، كتابةً، عالماً بديلاً، ينقض، في شكل مضمر، عالماً يسوده القبح ويعطّل الملكات الإنسانية السليمة. ولعلّ الشوق الإنساني، الذي يتجدّد ويظل قديماً أو يتقادم ويبقى جديداً، هو الذي يضع البعد الأسطوري في الأعمال الأدبية الكبيرة، التي تومئ إلى زمن إنساني لا يتغيّر. هذا ما دفع الرومانسيين الألمان، في القرن الثامن عشر، إلى اللواذ بأساطير الشعوب القديمة، وهو ما دعا بودلير إلى وضع القديم في الحاضر، وما جعل محمود درويش، وهو يتأمّل الموت، يمزج «الجدارية» بأطياف شعرية وملحمية بعيدة...
بيد أنّ الوجه الأول، الذي يحيل على جمال مفقود مشتهى، لا يكتمل إلاّ بوجه ثان يقول إنّ استمرارية المواضيع لا تعني استمرارية طريقة قولها، وإلاّ سقط الأدب في نص - أصل، يرفض الجديد ولا يحتاج إليه. فالقول الأدبي لا يتعيّن، في الأزمنة كلها، بموضوعه، بل بالطريقة التي صاغت القول في شكل مغاير. يتراءى، هنا، ما يدعى بتقنيات الأدب التي تردّ إلى تراكم في حقل أدبي معيّن، وتردّ أيضاً إلى معارف جديدة خارج الحقل الأدبي. فالشاعر المجيد هو الذي يأخذ صورة شعرية، من شاعر مجيد سبقه، ويضع فيها جهداً ذاتياً، يعدّل ويطوّر ويحوّل جهود جمهرة من الشعراء سبقته، منتهياً إلى صورة نوعية، يستأنفها شاعر آخر. ولهذا، فإنّ الحديث عن «الخلق الشعري»، من حيث هو إنطاق للعدم، لا معنى له. وكذا حال الروائي المجيد، على رغم ثقل العبارة، الذي ينقّح نصّاً روائياً، سبقه، بنص آخر، أو يضيف إلى المعارف الأدبية معارف غير أدبية. كأن يستفيد روائي زامن فرويد من علمه، أو أن يلتفت إلى النظريات اللغوية ويعدّل أسلوبه، أو أن يتصرّف بالمواد التاريخية، منتهياً إلى نص جديد، يوسّع الحقل الروائي ويعطي للمواد التاريخية تأويلاً جديداً.
والسؤال المنتظر هو: ما علاقة النص الأدبي، المتكئ على قيم شبه ثابتة، بالسياق المعيش، الذي لا يعرف الثبات؟ والسؤال صحيح، بمعنى معيّن، من دون أن يربك ما سبق، شريطة اعتبار القارئ عنصراً خارج العملية الكتابية. فالنص الأدبي، الجدير بنعته، لا ينطلق من القارئ، من حيث هو، ولا من السياق المباشر، حتّى لو انطلق منه، بل يبدأ وينتهي بتاريخ المقولات الجمالية، التي تدعوه إلى ابتكار مقولة جمالية، وهو يتعامل مع سياق اجتماعي، رغب به أو رغب عنه. وقد تعامل بعض الروائيين العرب، وهم قلّة، في الفترة الأخيرة مع «مجاز أدبي نوعي»، يضيء الواقع وما وراءه، ويتيح تأويلاً واسعاً للواقع، الذي ينكر صيغة المفرد. وأعطت الرواية اللبنانية، في هذا المجال، إنجازاً بالغ التميّز انطلاقاً من مجازات متعددة: المجنون الذي هو أكثر حكمة من العقلاء، والمشلول المستبدّ الذي يلتهم عجزه الأحياء، والتكرار الكتابي الذي هو شكل من السخرية وتصعيد لمعنى القهر إلى حدوده العليا، ومجانسة الأحياء والأموات، الذي ينطوي على الحزن والرثاء والدفاع عن الحياة... بهذا المعنى، فإنّ مواجهة واقع، يحاصر فكرة الأدب، يتم بوسائل أدبية. فقد ردّ التشيكي يورسلاف هاشيك على الحكم الاستبدادي بالسخرية، وواجه الأدباء الإيطاليون الفاشية بلغة باردة محسوبة مقتصدة، رداً على لغة فاشية، تطمئن إلى البلاغة والكلام الزخرفي والمترادفات الرنّانة، التي تعتبر استئصال العقل شرطاً لتحقّق الكلام. الإبداع، والحال هذه، هو الذي ينتزع من القارئ المحتمل اعترافاً بأنّ العمل الأدبي أكثر قيمة من الواقع الذي يتحدّث عنه، وبأن ما جاء به الأديب أرقى بكثير مما يأتي به «صنّاع الواقع». وفي الحالات كلها، فإنّ الأديب يبدأ من مشروعه الكتابي، لا من قارئ مستهلك، يصنعه السوق الثقافي والواقع المسيطر لا مبادئ الكتابة.
يستدعي ما سبق الإشارة إلى «الإنسان المبتذل»، إن صح القول، وإلى «الأدب المبتذل»، على رغم غرابة التسمية. فالإنسان المبتذل هو الذي يترك الآخرين يصنعون به ما يشاؤون، كما لو كان شيئاً أو قريباً من الشيء. و «الأدب المبتذل» هو الذي يُكتب من أجل جمهور واسع، انطلاقاً من قاعدة «إرضاء الجمهور»، أو استجابة لقواعد الاستهلاك والتسويق. ليس بين الطرفين من فارق، ذلك أنّ كتابة الابتذال تصدر عن مشيئة خارجية، لا عن الكاتب الذي استحال شيئاً. وهذا ما يقضي بالتمييز بين القارئ كمستهلك، مرجعه السوق، والقارئ كمقولة جمالية، مرجعها تاريخ المقولات الجمالية. ولعلّ هذا الفارق، الذي طُمس أكثر من مرّة، هو الذي ألغى الحدود، أحياناً، بين «الأدب الملتزم» و «الأديب الرخيص»، الذي يُفضي رواجه إلى الخلط بين الموهبة والشهرة والتسويق.
الأدب التزام بقيم خالدة، يحقّقه أديبٌ مرجعهُ ذاتُه، يعتنق العزلة والصمت والاحترام الذاتي والتطلّع إلى مثال مفقود، قبل أن يرسل بقوله إلى قرّاء، لم يخترهم، قرأوا بصمت، أو لم يقرأوا على الإطلاق، مواجهين الصمت الأدبي الرهيف ببلاغة قامعة جهيرة.
فيصل دراج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد