"لقاء" في محترف ومكتبة ميلان كونديرا

22-12-2012

"لقاء" في محترف ومكتبة ميلان كونديرا

في كتابه السابق «الستارة»، وهو كتاب عن فن الرواية، يقول ميلان كونديرا: «الروائي الذي يتحدث عن فن الرواية ليس أستاذاً يخطب من على كرسيه. تخيّلوه بالأحرى رساماً يستقبلكم في محترفه، حيث، ومن جميع الجهات، تنظر لوحاته المستندة إلى الجدار إليكم. إنه يحدثكم عن نفسه، لكنه أيضاً، وبشكل أكبر، يتحدّث عن الآخرين، عن رواياتهم التي يحبّها والتي تبقى حاضرة بشكل خفيّ في عمله الكتابي الخاص به».
جملة قد تلخص بشكل كبير عمله الأخير «لقاء» (الصادر بترجمة عربية لمحمد بنعبود عن «المركز الثقافي العربي»)، إذ يبدو كتابه هذا أشبه بمحترف، يستقبلنا الروائي الكبير داخله، ليعرض أمامنا الكثير من الفضاءات التي حدّدت عمل كونديرا الروائي، والتي جعلت منه واحداً من أبرز كتّاب عصرنا.
كتاب «لقاء» هو «لقاء تأملاتي وذكرياتي؛ لقاء موضوعاتي القديمة (الوجودية والجمالية) وما عشقته من زمان (رابليه وجناسيك وفليني ومالابرته..)». بهذه الكلمات يفتتح الكاتب عمله الأخير، ليضمنه الكثير من التأملات حول الروائيين الذين يحبهم كما حول بعض الفنانين، موسيقيين ورسامين.. بهذا المعنى قد يشكل تكملة لكلّ كتبه البحثية الماضية: «فن الرواية»، «الوصايا المغدورة»، «الستارة»، لكنه في كتابه هذا يبدو أكثر ذاتية وشخصانية، إذ نراه في العديد من المواقع يتخلى عن تلك اللغة الصارمة، الفلسفية (إذا جاز التعبير) ليكتب بلغة خاصة، ذاتية، تبدو كأنها لغة مذكرات. وقد لا نخطئ كثيراً فيما لو قرأنا هذا العمل الجميل على أنه مذكرات فكرية للكاتب، بمعنى أنه لا يتوقف عن استعادة تلك الكتب، وتلك الأسماء التي أسست عوالمه المتعددة. بمعنى آخر، وعطفاً على ما يقوله في اعتبار الروائي رساماً يدعونا إلى محترفه، نحن هنا في قلب «صالة عرض متخيّلة»، بابها مشرع على وسعه، لنتمكّن من الدخول في أي لحظة نريد. أو لنقل أيضاً، نحن داخل مكتبة مؤلفة من تسع طبقات (9 فصول)، مقسّمة بترتيب لا متناهٍ، كي يكون تجوالنا فيها منظماً وبدون اعتراضات مهما كان نوعها.
ثمة تأكيد آخر في هذا الكتاب: لا يمكن أبداً فصل كونديرا الروائي عن كونديرا الباحث، إذ يتكامل الجزءان لندخل في تأملاته العميقة، التي تفتح أمامنا مجالات أخرى، لا لقراءة أعمال الروائي التشيكي وحسب، بل أيضاً العديد من كتّاب العالم. ولعله هنا تكمن أهمية هذا العمل البحثي، بمعنى إعادة التفكير بأسماء «تمّ إبعادها» عن المشهد، كما لو أنها أصبحت بعيدة عن «الموضة». في تحليل كونديرا، لا بدّ أن نغير رؤيتنا للأمور، إذ نكتشف كم أن هؤلاء المغيبين أسسوا فعلاً للحظة إنسانية مدهشة، للحظة ثقافية لا يمكن الاستغناء عنها، لأنها حفرت عميقاً في نظامنا الفكري والإنساني، من هنا نستعيد معه رؤيته الثاقبة لكل من أعمال «رابليه وأناتول فرانس وهرمان بروخ على سبيل المثال..
بالتأكيد ثمة سبل أخرى لاعتبار هذا الكتاب بمثابة «مذكرات» كما أسلفنا. في المتن الذي أمامنا يقول الكاتب: «عندما يتحدث فنان عن فنان آخر، فإنه يتحدث (بطريقة غير مباشرة ومواربة) عن نفسه هو، ومن هنا كلّ النفع في حكمه». إذ نحن أمام كلّ الذين «تدخلوا» في كتابة الرواية مع كونديرا، لأن الكاتب لا يأتي من فراغ، بل من سياقات كثيرة خلفه. هنا، هذه السياقات مفتوحة أمامنا، لنعرف المصدر وكيف دخل في هذا النسيج. ففي كتابة «تاريخ الرواية» (ولو أن العبارة لا تنطبق على عمل كونديرا) يكتب الروائي تاريخ روايته الشخصية.
في الفصل الخامس الذي يتحدث فيه عن بروتون ولقائه بشعراء المارتينيك، يقول كونديرا إنه «جميل مثل لقاء متعدّد». قد لا أجد جملة أخرى لوصف هذا العمل: «جميل مثل لقاء متعدد». نلتقي فيه بكل هذه المناخات التي جعلت من كونديرا كاتباً.. وكاتباً حقيقياً.


إسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...