فيلم سوري عن القديس سمعان العمودي
تبدو أنطوانيت عازارية، المونتيرة السورية التي تحولت إلى الإخراج وبدأت بفيلم <أبيض> المأخوذ عن قصة قصيرة لمحمد شكري بعنوان <الأطفال ليسوا دائماً حمقى>، تبدو في فيلمها الثاني <سمعان العمودي: الأقرب إلى السماء> مولعة ومشغولة بالمكان (قلعة سمعان) أكثر من ولعها بشخصية سمعان العمودي (389459م)، على ما تحمله هذه من عناصر درامية جديرة بالكشف وتسليط الضوء. والمخرجة لا تخفي ولعها بالمكان الذي لا يمكن سرد سيرته من دون التطرق إلى حياة القديس الشهير.
وحسب الفيلم (تسجيلي 27 دقيقة) فإن سمعان العمودي ولد في قرية سيسا شمال غرب حلب، وقرر أن يكرس نفسه لله وللحياة النسكية، التي كان قوامها في الغالب حياة الكهوف والأبراج والأعمدة، فيلجأ سمعان إلى رأس عمود يقيم عليه، ومن هنا جاء اسمه <المتحدث إلى الله>، حيث يقضي سبع سنوات على ثلاثة أعمدة كان آخرها بارتفاع ستة عشر متراً ظل عليه حتى مماته، وهكذا نشأ في سورية نظام النساك العموديين، الذي يعتبر سمعان مؤسسه.
إلا أن سمعان، يقول الفيلم، لم يبتكر فكرة العمود فهي موجودة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وقد ارتبطت بعدة معتقدات وعبادات سورية قديمة، فالعمود متمركز منذ القدم في موطن سمعان، وهو من تراث شعبه، وهو وريث التراث الروحي لبيئته ومجتمعه. وسوف يعود العمود ليحتل دوراً مهماً في الطقوس الإسلامية، بعد أن فرّغ من الداخل وتحوّل إلى مئذنة، وليس غريباً أن تكون سوريا أول بلد أقيمت فيه المئذنة في القرن السابع الميلادي، وقد اتبع بعض المؤمنين سنّة الاعتكاف فيها، كما فعل الإمام الغزالي في مئذنة الجامع الأموي في القرن الحادي عشر الميلادي.
ورغم أن جسد سمعان نقل إلى أنطاكية إثر وفاته ظل الحجاج يتوافدون إلى مكان العمود للتبرك، حتى تقرر في عام 476 بناء كنيسةٍ جامعة حول العمود سميت باسم القديس سمعان واستمر البناء فيها حتى عام ,491 فكانت أجمل كنيسة في العالم المسيحي آنذاك، وهي قد بنيت على شكل صليب، وتتألف من أربعة أجنحة متعامدة مرتبطة مع بعضها حول العمود. ويختم الفيلم: تعرضت الكنيسة إلى عدة زلازل، وأعيد ترميمها، لكن الحروب دفعت الناس إلى الهجرة والانفضاض عن المكان، إلى أن صارت المدينة واحدة من المدن الميتة.
إشارات
ولا ينسى الفيلم أن يقدم إشارات فيها نوع من أمثولة، كمثل الإشارة إلى وحدة الأديان، ومنبعها الواحد (العمود المسيحي الذي تحول في الإسلام إلى المئذنة)، ثم الابتعاد في الفيلم عن شبهة التدين: <وهو سمعان السوري قبل أن يكون سمعان المسيحي>. وصولاً إلى القول: <على هذه الأرض وفي الفترة الآرامية، كانت دعوة السلام السورية في وجه العنف الروماني والتشدد اليهودي، حيث انطلق الرسل من بيت لحم متجهين إلى دمشق وأنطاكية>. ولكن قبل ذلك فإن المختارات الغنائية التي أخذت من الألحان الآرامية وبتلك اللغة، كانت تذكّر دائماً بذاك التواصل الحضاري، فما نسمعه اليوم من لحن سوري أصيل ما هو إلا تلك الألحان الآرامية، مقاطع وأحياناً مقامات كاملة، كأنما يقول الفيلم إن ذاك هو إرثنا. الأغنيات هنا استخدمت باقتصاد شديد وبتوظيف مدروس، حيث الحظوة الأكبر لصوت الطبيعة، صوت الريح، في مكان هو نهب للريح وللنسيان. قدم الفيلم صورة أنيقة مدروسة وجميلة (مدير التصوير هشام المالح)، فالكاميرا التي دارت في المكان، بين الأعمدة، والمدافن، وآثار شبكة الطرق القديمة وبقايا معاصر الزيت في منطقة بعيدة فوق جبل ناء ومهجور، ظلت تعود دائماً إلى سماء، لعلها سماء الخريف، الملونة بزرقة نظيفة وغيم صغير أبيض، كاد يشكل موازياً لكتل أخرى على الأرض بنية ضاربة إلى احمرار. ربما يحلو لبعض نقاد الفيلم وصفه بالسياحي فيما تصرّ المخرجة على القول إن فيه نوعاً من التصوف، وتضيف بأن الصورة النظيفة والكادر الجميل لا يعنيان نوعاً من السياحة. إنهما من غير شك، ثوابت لصناعة فيلم جميل ممتع، خصوصاً مع وثائقي يبتعد كثيراً في التاريخ، إلى حد يبدو وكأنه لا يعني أحداً. لكن أنطوانيت عازارية جعلت من التاريخ البعيد، ومن تلك المدينة الميتة (كما يسميها الفيلم) مادة جذابة، ممتعة، وراهنة.
راشد العيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد