فاتح وأدونيس جدل اللون والكلمة

23-07-2009

فاتح وأدونيس جدل اللون والكلمة

(أدونيس هو الشاعر الأكثر أصالة بين الشعراء العرب في القرن العشرين)، هي عبارة قالها إدوارد سعيد، أحد أعمدة الفكر العالمي في القرن العشرين، وأحد الذين استطاعوا اختراق الثقافة الغربية بقوة هائلة.
ومع هذا، فربما من الممكن إضافة كلمات أخرى لتوصيف أدق لهذا الرجل الكبير، كلمات تؤكد أنه ما من شاعر في العالم أثار وما زال يثير التساؤلات أكثر من أدونيس، وما من شاعر حاز العالمية وحقق الأصالة أكثر من أدونيس في الخمسين سنة الأخيرة؟ ويتابع سعيد بأن أدونيس هو مستكشف الحداثة العربية والناطق الأكثر فصاحة باسمها. ومن هنا، يحق لنا أن نرى كلمات الشاعر والفيلسوف الفرنسي روجيه مونييه معبرة عن تلك الشخصية الاستثنائية في العالم، حيث يقول: «لا أستطيع أن أقرأ أدونيس دون أن ينفتح أمامي، فجأة، ما يشبه الفضاء العقلي.. إنها إذاً، عالمية مفتوحة، عالمية المنفتح، حيث تستطيع أن تجد لها موقعاً؛ لأنها تشملها، بل تمتصها.. تتبلور عالمية أدونيس، ويمثل الشاعر موقعه عندنا إلى جانب أكبر المبدعين، لا في ثقافته وثقافتنا فحسب، ولكن أيضاً في ثقافات العالم أجمع، وفي موروثاتها الأدبية والروحية الكبرى».‏
استطاع أدونيس أن يغير خارطة الشعر العربي، منذ بداياته، واستطاع – من خلال لغته الخلاقة – أن يعبر حدود الوطن العربي، ليصبح المبدع العابر للقارات في وقت قصير. إنه من أولئك الشعراء الذين يحتاجهم القرن الحادي والعشرين، كما يقول الشاعر الفرنسي إيف بونفوا. شاعر يوثق صلته بالكلمة ككائن خلاق، ويجد في الشعر شكلاً من أشكال الحياة والوجود، وثورة لإبداع مجتمع جديد حقاً. ومن هذه الرؤية، كان لا بد لشعر هذا الساحر الثوري، من أن ينتشر في كل بقاع الأرض، وفي كل اللغات، وليغدو أدونيس في نظر كبار فلاسفة ومفكري وشعراء العالم: واحداً من أهم الشعراء والمفكرين في القرون المعاصرة.‏
لا يرى أدونيس الشعر غاية في ذاته، وإنما وسيلة لتحول ذاتي يتجه نحو معرفة الذات ووحدة المعرفة، وإعادة ربط الإنسان بجوهر الكون، ويقول:‏
ما الغيب؟‏
بيت نحب أن نراه‏
ونحب أن نقيم فيه‏
ما السر؟‏
باب مغلق‏
إذا فتحته انكسر‏
ما اليقين؟‏
قرار بعدم الحاجة إلى المعرفة‏
ما القبلة؟‏
قطاف مرئي‏
لثمر غير مرئي.‏
أُلفت حول أدونيس كتب كثيرة، وكان بعضها بقلم كبار الكتاب والفلاسفة العالميين. يقول عنه الشاعر والفيلسوف الفرنسي ميشيل كامو: «أدونيس مواطن عالمي، عابر للقوميات، بالمعنى الذي يحس فيه بأنه مرتبط بمستويات عديدة في الواقع، ولكنه مرتبط، على نحو مطلق، بما يعبر هذه المستويات ويتخطاها. أي أنه مواطن كوني، ثم مواطن الأرض، ثم عربي، ثم أوروبي، ثم فرنسي».‏
لم يصل أدونيس إلى هذا المستوى الكوني، المعترف به، إلا لأنه كان قارئاً نزيهاً للتاريخ العربي، ولكل الموروث الشعري والفلسفي والصوفي العربي، وكذلك فقد كان موسوعي الاطلاع على الثقافة العالمية والشعر العالمي. ومن خلال الامتلاء الثقافي والمعرفي، تمكن أدونيس من خلق طاقة تغيير، هدفها الإنسان العالمي، بغض النظر عن بيئته وتراثه ولغته وتاريخه. ويؤكد الشاعر البريطاني باتريك هوتشينسن ذلك قائلاً: «يرسم لنا أدونيس الطريق الصحيح، الطريق الملكي الذي يعلن عنه، من الآن فصاعداً، الشعر وحده بأحرف من نار».‏
أما أدونيس فيؤكد ما يذهب إليه هو نفسه: «لا تصح الحداثة، لا معنى لها، إلا بدءاً من الاعتراف بهذا القديم الذي فينا، وباستئنافه. نحن القراء المبدعين، الحديثين، ابتكرنا القدامة، وهذه القدامة هي التي ابتكرت بنا وعبرنا الحداثة. لكي نلتقي بأنفسنا في الحداثة، لكي نجيء إليها، لا بد من أن نمر في القدامة، في البدائي – الفطري».‏
فاتح وأدونيس‏
لم يكن فاتح المدرس شخصية عادية في تاريخ الفن السوري، إذ أنه (وبالترافق مع لؤي كيالي) تربع على عرش التشكيل السوري ما يقارب الخمسين عاماً. شغف فاتح بالشعر والموسيقى، ولقبه مارون عبود بجبران حلب. أصبح وأدونيس صديقين منذ خمسينيات القرن العشرين، جمعتهما جدة الأصالة، وقوة الانطلاق نحو آفاق جديدة وخلابة. كلاهما احترقا بنار الحداثة، وبنبع التراث. ويقول أدونيس عن صداقته لفاتح: «منذ التقينا تأسس بيننا فضاء من الصحو.. تنسمنا معاً هواء الحرية. حلمنا بما يعلو ببلادنا. وعملنا لتحقيق هذا الحلم. غامرنا، قلقنا، وارتجت خطواتنا، لا خوفاً، بل بفعل المزيد من التوغل في دروب التحرر... لا نعت يليق بفاتح المدرس، ويفصح عنه إلا الأسطوري، حيث لا ينفصل الانتهاء عن الابتداء، والشقاء عن البهاء».‏
ويتحدث فاتح عن علاقته بالشعر ونظرته إليه في خمسينيات القرن العشرين قائلاً: «كنت أشعر بضرورة تطوّر الشعر العربي، لأن الشعر العمودي ليس الحلقة الأخيرة في الفكر العربي، وكان لا بد للعقل العربي أن يجد أساليب أخرى تعبّر عن المشاعر الدقيقة التي تفرضها الحضارة الحديثة؛ لذلك وجدت نفسي أكتب شعراً سوريالياً، دون أن أعي حداثة ما أكتب؛ بعد سنوات قليلة ثبت أنني كنت بكل بساطة أحد القلائل الذين يكتبون شعراً سوريالياً في ذلك الوقت، حيث كانت الصحافة الحلبية تنشر للشعراء المحدثين: علي الناصر، أورخان ميسر، وكذلك مجلة (القيثارة) التي كانت من أهم المجلات الثقافية آنذاك؛ كنا ننشر فيها أنا وأدونيس ما يخطر في بالنا من رؤى شعرية..».‏
كتب فاتح الشعر، وجاءت مجموعته الأولى عام 1959بالاشتراك مع شريف خزندار، وكانت بعنوان (القمر الشرقي يسطع على شاطئ الغرب)، والمجموعة الثانية (زمن اللاشيء) أيضاً بالاشتراك مع صديقه الشاعر حسين راجي في أواخر الثمانينات. ولكن المجموعة القصصية الأهم واليتيمة، والتي كتبها من دون أن يشاركه أحد، كانت بعنوان (عود النعناع)، قدمها سعيد حورانية واعتبرها من أهم المجموعات التي لامست القاع الشعبي، وقد تحولت إلى فيلم سينمائي.‏
اشتهر فاتح فناناً، وحمل فنه تغييراً واضحاً، أثر في أبناء جيله والأجيال اللاحقة، ووصل إلى القارات جميعها، كواحد من ألمع الفنانين العرب. ومع هذا، بقي فاتح يدرك قيمة الشعر، وخطورة الكلمة وقدرتها على تغيير العالم، ويقول في هذا الصدد: «أعترف أن كلمتين متجاورتين قد تدفعان إلى انفجار نووي، أما وضع لونين متجاورين فلا يعني شيئاً. الكلمة مخيفة أكثر من اللون».‏
رحل فاتح، وبقي أدونيس مالئ الدنيا وشاغل الناس. ولأن المودة كبيرة والصداقة ما تزال في القلب الأدونيسي، فقد حضر أدونيس إلى دمشق، بدعوة من صالة أتاسي وصاحبتها منى أتاسي، ليوقع كتاب (فاتح وأدونيس.. حوار)، وذلك بمناسبة مرور عشرة أعوام على وفاة فاتح المدرس.‏
كان الحضور الأدونيسي جميلاً وطاغياً: ألقى تحيته على الجميع، وصافح أصدقاءه الذين كانوا في انتظاره، ثم جلس يوقع الكتاب.‏
في مقدمة الكتاب، تقول السيدة منى أتاسي: «في أيار عام 1998، استطعت جمع صديقين ومفكرين صنوين، فاتح المدرس وأدونيس، في ندوة ناقش فيها الرسام والشاعر فكرة هل اللوحة عمل أدبي؟ تألق النجمان كل في فضائه، لكن شهيتهما لمتابعة الحوار، جعلتني أعرض عليهما استكماله في خريف العام نفسه. وكانت رحلة من أيام أربعة في منزلي بدمشق تمخض عنها حوار أخاذ هو فحوى هذا الكتاب».‏
أما أدونيس فقد استهل الكتاب قائلاً: «بين شطح يبتكر الأجنحة، ونجوم ليست منازل للملائكة، تحدثنا، فاتح المدرس وأنا، عن اللون والكلمة، وعن الذات والآخر، أعني تلك القصبة النحيلة: الإنسان».‏
يسأل أدونيس صديقه فاتح: «ألا تشعر أن هناك تواصلاً بينك وبين العالم القديم؟». ويجيب فاتح: «أنا أبحث عن هذا التواصل ولكن ليس بالشكل المتحفي. المتحف هو أشياء وجدت بمنطق جمالي معين. دخول المتحف إلى العمل الفني عملية فيها عبث، وعملية غير منطقية، وأسميه نوعاً من السرقة، تسرق مفاهيم سابقة وتضعها على أعمال جديدة، وهذا شيء معيب. ودخول التراث بالشكل الوقح، أقصد أنه لدينا تراث في الشعر العربي يجب أن نقدسه. قدسه إن شئت ولكن لا تقلده».‏
أعتقد أن هذا الحوار بين كبيرين، كل في عالمه، سيسجل في ذاكرة التاريخ. وإذا كنا نحب فاتح المدرس فناناً أصيلاً ومبدعاً حقيقياً، فإننا سنراه هنا، أي في هذا الحوار، مفكراً متمرداً، ومثقفاً حراً، يمتلك الرؤية الخلاقة لفهم العالم، والحساسية الفنية للتغيير المستمر.‏
هما صديقان فعلاً، في الحياة وفي العمل وفي جرأة الكشف بغية التحرر من كل ما يعرقل نهم الإنسان إلى الارتقاء.‏

 

عقبة زيدان

الثورة - الملحق الثقافي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...