عصابة الأربعين والحروب الأهلية

04-11-2007

عصابة الأربعين والحروب الأهلية

ـ 1 ـ ما أكثر مثقفينا الذين «يجلدون ذواتهم» بلا رحمة، ويدعون إلى تمزيق جلودهم، حتى بات «الندب» من أكثر الأجناس الأدبية ذيوعاً وانتشاراً، بل إننا نتهم كل من يتخلف عن المشاركة في مهرجانات اللطم بالنفاق، والانتهازية، ودفن الرأس في الرمال، أليس من المؤلم أن يصرخ أحد كبار مثقفينا: «لنمتلك الجرأة، ولننظر إلى وجوهنا الملأى بالبثور في المرآة، ولنتوقف عن «تصنيع الأعداء» في كل مكان، ولنعترف بكل جرأة: كم نحن قبيحون!».

يطرأ على أحدنا، في لحظات نادرة من «توهج الاعتدال»، و«غلبة البراجماتية» أن نستجيب لدواعي حسن النية، ولإغراء «التعقل»، وإذ ذاك نميل إلى تفسير الأحداث دون توتر متراكم، وتعصب عفوي، بل نتوصل إلى الاعتراف، بكل طيبة وبراءة، أن ما يجري هو من صنع أيدينا، وأنه من التعسف إلقاء اللوم على «مدبري المؤامرات» وأشرار النظام العالمي الجديد، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تهرباً من المواجهة، وتقاعساً عن تحمل المسؤولية، ثم نكتشف، بعد فوات الأوان، أننا ضحية خدعة، وفريسة فخ نصب لنا، بعناية وخبث نادرين. ‏

ـ 2 ـ ‏

قرأت بذهول المقال التحليلي الذي كتبه دانيال بابيز في «النيويورك صن» عن «فوائد الحرب الأهلية في العراق» فلم أصدق أن الشر يمكن أن يتغلغل داخل تلافيف الدماغ إلى هذه الدرجة، وعجبت كيف يختزن هذا المستشار كل هذا الحقد، وهو الذي صك فكرة «محور الشر» التي يستخدمها رئيسه بوش، لتعبئة الرأي العام ضد دول ما تزال ترفض الاستكانة والخضوع لإملاءاته. ‏

يعترف «المستشار السري» للرئيس بوش، في مستهل مقاله بأن الأوضاع في العراق «سيئة للغاية» ولكنه يسارع إلى القول: إن الولايات المتحدة ليست مسؤولة عن هذا السوء، ولا يخجل من الإقرار بأن هذا السوء هو في مصلحة الولايات المتحدة، ويورد مجموعة من الأسباب «المقنعة» لدعم وجهة نظره «المبتكرة». ‏

إن المسلمين، والعرب خاصة، ليسوا «ناضجين»، بما فيه الكفاية، لتقبل الديمقراطية، ومن الخطأ الإصرار على فرض هذه الديمقراطية عليهم، لأنها لن تؤدي إلا إلى المزيد من «الأذى»، وستكون وبالاً عليهم وعلى مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، إن الحرب الأهلية جزء لا يتجزأ من التكوين الاجتماعي والسياسي للتاريخ الإسلامي، من العبث محاولة «انتشال» المجتمع الإسلامي العربي من الاقتتال الطائفي والاثني، وعلى هذا الأساس يجب على الولايات المتحدة أن «تستفيد» من هذه الخصوصية، وأن تستثمرها بذكاء وبراءة. ‏

إن الحرب الأهلية «المتأججة» حالياً في العراق إيجابية على المستوى الجيوستراتيجي، لأنها لا يمكن أن تنحصر في العراق، ولا بد لها من أن تصيب سورية وإيران بالعدوى، وترغمهما على التدخل، وهذا ما يسهل مهمة الولايات المتحدة، التي «تتمنى» التخلص من النظامين «المارقين»، ثم إن هذه الحرب إيجابية على المستوى السياسي، لأنها تثبت أن وهم إشاعة الديمقراطية الذي يتمسك به بعض السذج في الإدارة الأميركية «مؤذٍ» جداً، على اعتبار أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون نزيهة إلا بمشاركة الإسلاميين وحصولهم على الشرعية الدستورية، عن طريق الاقتراع، كما حدث في غزة، حيث انتزع الإسلاميون الأكثرية عن حق وجدارة، وليس من مصلحة الولايات المتحدة «شرعنة» التطرف الإسلامي. ‏

أن أهم خصوصية لاستمرار الحرب الأهلية هي إشغال العراقيين بقتال بعضهم لبعضهم الآخر، ما يخفف الضغط على قوات الاحتلال الأميركية، ويبرر بقاءها في العراق، إذ سيحاول كل فريق في هذه الحرب «الاستنجاد» بهذه القوات، والتحالف معها، للانتصار على الفريق الآخر. ‏

سيكون العالم أكثر أمناً واطمئناناً، بعد استجرار المسلمين إلى الاقتتال فيما بينهم، ما سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى زوال التهديد الإرهابي للولايات المتحدة، وللغرب عامة، وتفتيت ما يسمى «الوحدة الإسلامية»، وتحقيق الهيمنة الأميركية على بعض الدول التي ما تزال تحتكر الطاقة النفطية، وما تزال تحلم بمحاصرة إسرائيل، بل زوالها، كما يكرر الزعيم الإيراني الشاب، ودون توقف. ‏

والنتيجة «الشريرة» التي يتوصل إليها هذا المستشار الحاقد هي التالية: قد تكون الحرب الأهلية العراقية كارثة إنسانية، ولكنها «بركة استراتيجية، ولا يجوز السعي إلى انهائها، ولا إلى إطفاء نيرانها، ولا إلى إقناع الأطراف المتنازعة بإيجاد تسوية لها». ‏

ـ 3 ـ ‏

نشهد اليوم عملية تحطيم «صامتة» للأوثان الليبرالية التي دأب اليمين المحافظ على تصديرها إلينا، بهدف أصابتنا «بالدوار الحضاري»، إن أباطرة هذا اليمين يحملون فؤوسهم الحادة ويحطمون «وثن الإجماع الجماهيري» بذات الطريقة التي حطمت فيها طالبان وثن بوذا، وفي حين جرى تحطيم وثن بوذا ضمن حملات الاستنكار والاستفظاع العالمية يجري تحطيم وثن الإجماع ضمن هتافات الإكبار التي يطلقها فرسان الاكليروس الستاليني اليميني الجديد، بقيادة زعيم الإعلام الأسود روبرت مردوخ، امبراطور الصحافة السافلة الذي يصور مسيرات الجماهير التي تملأ شوارع العالم احتجاجاً على الاحتلال والغطرسة الأميركية على شكل «سيول من النمل العملاق الأسود والجراد الأخضر» تحت عنوان كبير: «هؤلاء هم أعداء الحضارة!». ‏

تتحدث عصابة «المفكرين الأربعين» ـ هكذا تسميهم أسبوعية ماريان الفرنسية ـ عن «داء الطاعون» الذي ينتشر في المجتمعات الغربية، وتدعو إلى تصفيته بحزم، ويتزعم هذه العصابة أندريه كلوكسمان، التروتسكي المرتد الذي انقلب إلى فاشي متطرف بعد 11 أيلول، وحرب العراق، وتتصدر الإعلانات عن كتابه الجديد «الغرب ضد الغرب» واجهات المكتبات ومحلات السوبر ماركت. ‏

وما يقوله «كلوكسمان» «غث لا يطاق»، أولاً: كان الفكر الليبرالي يدعو إلى الانصياع للإجماع الجماهيري، ولكن الكرامة اليوم تدعو إلى مقاومة هذا الانصياع، والاحتكام إلى الكيف لا إلى الكم، يكتب: «من العار أن يصبح الحلاقون واللحامون والسائقون وعمال التنظيفات هم الذين يقررون ما هو الأفضل لنا، ومن العار أن تعطى الصدارة إلى العاطلين عن العمل في النيبال، وإلى مصارعي الثيران في إسبانيا، ولصوص المخازن الكبيرة في روما، ليحكموا على الحرب ضد الإرهاب ثانياً، المعركة الحاسمة اليوم هي بين الحضارة الغربية والإرهاب، ولا مجال للوقوف في الوسط، ولا في الدعوة إلى الحوار أو التفاوض ـ يكتب: «سأكون صريحاً واضحاً، ولن أتستر على موقف، هناك بوش، وما يرمز إليه من شجاعة وتصميم، وهناك الإرهابيون، وما يمثلون من بربرية وسادية، نعم، نحن مع الكاوبوي، وسنكون معه حتى النهاية، وكل من يتردد أو يتقاعس هو خائن، هناك نحن وهم، واشنطن والعالم، من لا يتحالف مع الامبراطورية الصاعدة يخون الغرب، يخون بلده، هكذا هي الأمور، بكل بساطة، ليخرج الخائنون من المعركة، المعركة ليست بين أنصارالحرب وأنصار السلام، إنها بين من لم يكتشف أخطار 11 أيلول بعد وبين الذين فهموا حقيقة ما جرى، وقرروا التحرك بشجاعة» وثالثاً: إن اليسار ليس أكثر من روضة أطفال، بالنسبة للمفكرين الجادين الذين يملكون الجرأة على الانتقال من خندق السذاجة إلى خندق النضج، قال كليمنصو: «من لا يكن فوضوياً في سن العشرين فلا قلب له، ومن يبق فوضوياً بعد الأربعين فهو وغد» وكل الذين «يتشقلبون» وينحرفون من اليسار إلى اليمين يستشهدون بأندريه مارلو الذي كان معجباً بالثورة الثقافية لماوتسي تونغ، وحارب إلى جانب الثوريين في الحرب الأهلية الإسبانية ضد فرانكو، وانقلب فجأة إلى أكبر معاد للثورات الجماهيرية، ولم يخجل من تبني أكثر الأفكار رجعية. ‏

أهم فكرة طرحها كلوكسمان في كتابه الجديد «الغرب ضد الغرب» هي ما يسميه الأخلاقية الطارئة والمقصود بها «تصنيع» أخلاقية جديدة من وحي الصراعات الدائرة، تكون عودة إلى الأخلاقية التقليدية المعترف بها، يكتب في فجاجة: «قد يكون العدوان عملاً منبوذاً مرفوضاً في الحالات العادية، ولكنه يصبح قيمة أخلاقية إيجابية في الحالات الاستثنائية، بل إن القتل الذي ذمته كل الأخلاقيات الحضارية المتوارثة قد ينقلب إلى عمل نافع ومفيد في بعض الحالات، إذا كان المقصود هو حماية حضارة متقدمة ومزدهرة»، ويذهب كلوكسمان أبعد من هذا، إذ يكتب في مكان آخر من كتابه: «إن أبلسة البيت الأبيض يفسح المجال أمام إشاعة الفوضى، وانتشار الإرهاب، وتقويض النظام العالمي الجديد». ‏

ـ 4 ـ ‏

على أن عصابة «المفكرين الأربعين» الذين يتمترسون وراء خنادقهم في قلاع العدوانية الأميركية الأمامية، يجابهون مفكرين شرفاء تورم عندهم الشعور بالذنب، وما علينا إلا أن نستشهد بواحد منهم، هو مارتن اسلر، أهم الكتاب الألمان المعاصرين الذي يؤكد أنه لم يعد بالمستطاع التظاهر بـ«عدم الاكتراث» والزعم بأن ما يجري في العالم يخص الأميركيين وحدهم، ولا علاقة لنا به، إنه يتساءل: «ماذا عساه يقول دستوفسكي لو علم بآخر أنباء العراق؟ كان سيرتجف رعباً، ويكتب رواية أقسى من روايته الخالدة «الجريمة والعقاب». ‏

والمفارقة الكبرى، في نظر هذا الكاتب النزيه، أن الإنسان «منخرط» في الأحداث الدامية، على الرغم منه، وأنه لا يستطيع أن يتحمل بوش الذي يزعم أنه قائد معسكر التقدم والحرية، وهو يورط العالم في «الاتساخ الحضاري» دون أن يشعر بكراهيته، أما زلنا نذكر صورة الفيتنامية العارية، ورشاش الجندي الأميركي في صدغها، وكيف أنه لم يعد من الممكن للإنسان الطبيعي أن يبقى على الحياد بعد رؤية هذه الصورة، وكذلك الأمر بعد رؤية صور التعذيب المرعبة التي تعرض لها الأسرى العراقيون في سجن أبو غريب، والمجازر المفزعة التي ترتكبها طغمة «بلاك ووتر» الإجرامية، إنها تولد الغثيان، وتدفع إلى طرح سؤال مؤلم وموجع: «لماذا هذه الحرب؟ ولماذا هذا الحقد على العرب، أكان من الممكن أن ترتكب هذه الجرائم ضد الفرنسيين أو السويديين؟» ويكتب مارتن اسلر في نهاية كتابه: «انتهى الأمر، بمكنامارا ـ وكان وزير الدفاع أثناء تصاعد الحرب في فيتنام ـ إلى أن يعترف بأن الحرب ضد فيتنام كانت خطيئة كبرى!»، يقول هذا بعد مقتل مليوني فيتنامي، فهل سيعترف بوش بأن حرب العراق كانت خطيئة، ولكنه ينتظر إلى أن يرتفع عدد الضحايا إلى أكثر من ثلاثة ملايين قتيل وإلى 5 ملايين مهجّر؟. ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...