رفيق السبيعي... «زكِرْتي الحارة» لم يعد يجيب
قرب الجامع الأموي... تشكّلت ملامح «أبو صيّاح»
«أحبابي ونور عيوني» فنّان الشعب رفيق السبيعي (1932 ــ 2017) يودعكم، بعدما غلبته الشيخوخة التي غالبها لسنوات، وبقي مصرّاً على التجدد، وتقديم المزيد، والبقاء واقفاً حتى أيّامه الأخيرة. هكذا كانت حاله قبل أشهر حين لم يسمح لكسرٍ في عنق الفخذ بأن ينال منه، فرأيناه يجاهد نفسه للوقوف حين زرناه في أحد مستشفيات دمشق، بعدما أجرى عمليةً لتبديل المفصل وسط رعايةٍ حنونةٍ من عائلته، ومحبيّه. لكنّ القدر لم يمهله فرصةً أخرى، إذ فارق الحياة عصر أمس عن 85 عاماً. ولد السبيعي سنة 1932، في حي البزورية الدمشقي، على مسافة أمتارٍ قليلة من الجامع الأموي. هناك تشكّلت شخصية «القبضاي.. الشهم.. اللي ما بتهون عليه الزاحلة». مفرداتٌ شكّلت ملامح «أبو صيّاح»، أشهر شخصيات الراحل الدرامية، كممثلٍ، ومونولوجيست.
هوى الفن تملّك الشاب الدمشقي، الذي لم يعر اهتماماً لازدراء بيئته المحافظة لمهنة «المشخصاتي». غضب والده منه وطرده له لأنه «وطّا راس العيلة» بسبب عمله في الفن. بدأ مسيرته أواخر الأربعينيات بتقديم مقاطع كوميدية مرتجلة على مسارح دمشق، ثم انتقل إلى الغناء والتمثيل في فرقٍ فنيّة عدة كفرقة «علي العريس»، «سعد الدين بقدونس»، «عبد اللطيف فتحي»، «البيروتي»، و«محمد علي عبدو»، كما أسهم في تأسيس عدد من الفرق المسرحية الناشئة بعد الاستقلال (1946).
في ذاك الزمن، أدى الراحل شخصيّات شعبية لم تُكتب لها الشهرة مثل «أبو رمزي» و«أبو جميل»، إلى أن بدأت قصّته مع «أبو صيّاح» كما يروي في إحدى مقابلاته: «أوّل مرّة قدمتها عن طريق المصادفة، حين أراد الفنّان أنور المرابط أن يتغيبّ عن أداء فصل كوميدي يلعب فيه دور العتّال في إحدى مسرحيات الراحل عبد اللطيف فتحي. كنت أعمل وقتها ملقماً في مسرحه، لم أنم ليلتها من الفرحة، واعتبرت هذا الدور نوعاً من الامتحان يمهد لي الطريق كممثل، استعرت الشروال وباقي الاكسسورات، ففوجئ بي فتحي عندما رآني على المسرح، وجسّدت الشخصية على طبيعتها كما تبدو في الحياة. وقتها، شاهد أدائي المرحوم حكمت محسن، وتنبأ لي بالنجومية منذ ذلك الحين».
كان ذلك أواخر خمسينيات القرن الماضي، في عمل مسرحي مقتبس عن مسرحية مصرية للكاتب أبو السعود الإبياري نقلها عبد اللطيف فتحي إلى الشاميّة، قدمت على أحد مسارح دمشق، وحضرها وقتها صباح قبّاني أول مدير للتلفزيون السوري، وبقيت في باله. وعندما تأسس التلفزيون عرفّه إلى الراحل نهاد قلعي، والفنّان دريد لحّام، وبدأت مسيرة «أبو صيّاح» التلفزيونية مع «غوار الطوشة» و«حسني البورظان».
مسيرةٌ أثمرت عن مسلسل «مقالب غوار» (1967) وعملٍ كوميدي خالد، ما زال يصنَّف في خانة السهل الممتنع هو «حمّام الهنا» (1968).
توقف الراحل نهاد قلعي عن العطاء مبكراً، بسبب تعرضّه لاعتداء أصابه بالشلل، في حادث منتصف سبعينيات القرن الماضي، ثم كانت المحطة الأخيرة التي جمعت بين السبيعي ودريد لحّام في مسلسل «وادي المسك» (1982)، ولم يجمع بينهما عملٌ تلفزيوني بعد ذلك. قيل إنّ ذلك يعود إلى خلافٍ مالي بينهما، أشار إليه رفيق السبيعي في الكتاب الذي روى فيه سيرته الذاتية «أبو صياح يدفع ثمن الحب» (1999 ــ للكاتب السوري وفيق يوسف).
الخلاف أسدل الستار على علاقة رفيقي الدرب حتى آخر حياة السبيعي، وتم تناوله عبر الإعلام خلال السنوات الأخيرة، حين نقل موقع «النشرة الفنيّة» عن لحّام قوله (سنة 2013): «عندما يذكر رفيق السبيعي في سيرة حياته أنني نصبت عليه الكثير من الأموال، وعندما يأتي ليعترف أنّه أخطأ، أنا مستعد للتعاون معه».
وأتى رد فنّان الشعب بعد عام تقريباً عبر «إذاعة المدينة» بأن «القلوب ليست صافية»، مؤكداً أنّه «سعى للصلح، وتغاضى عن الماضي، وأعطى فكرة عمل فنّي يمَكّنهما سوياً من العودة إلى الشاشة، ولكن لم تكن هناك استجابة من الطرف الآخر» مضيفاً: «أحزن على الجمهور الذي أحبّنا سويّاً، ولم يكن علينا أن ندير ظهرنا له».
وفي هذا السياق، نذكر محاولات لم يكتب لها النجاح بذلها صنّاع مسلسل «طالع الفضّة» (2011)، بخاصّة الفنّان عبّاس النوري، والمخرج سيف الدين السبيعي للجمع بين الصديقين القديمين مجدداً في هذا العمل التلفزيوني، ليكون من نصيب رفيق السبيعي نجاحٌ استثنائي بدور «طوطح اليهودي»، أثبت فيه قدرته على التجدد في الثمانين من العمر، كأنه انتصر أخيراً للممثل بداخله، في مواجهة سطوة «أبو صيّاح». دورٌ قال عنه الراحل: «كاتِبَا العمل (عنود الخالد، وعبّاس النوري) رسما ملامح شخصية أقرب إلى المثالية، وهذا سبب محبتي لها، فطوطح متعلق بالمكان الذي ولد وعاش فيه، وجذوره ضاربة في أعماق الشام، ولا يستطيع أن يفارق رائحة النارنج، إلى جانب معرفته الشاملة بكل الأشياء، والعواطف، والواقع، والحِكَمْ التي تبرز من خلال حديثه، وتعامله مع باقي شخصيّات المسلسل. كنت سعيداً بأداء الدور، صحيح أنني تعبت كثيراً، لكّن هذا التعب زال بظهور النتيجة». ولم يجد ضيراً من القول بأنّ دور «طوطح» لم يكن معروضاً عليه، وطلبه على وجه التحديد من ابنه المخرج سيف، وقيل في الكواليس إنّ الاسم المقترح لأداء الدور كان بدايةً دريد لحّام.
على مدى ستة عقود، قدّم رفيق السبيعي عشرات الأدوار التلفزيونية المميزة، تحت إدارة أربعة أجيالٍ من المخرجين، كما في مسلسلات: «لك ياشام»، «الخشاش»، «دمشق يا بسمة الحزن»، «صلاح الدين الأيوبي»، «مبروك»، «صقر قريش»، «مرايا»، «فسحة سماوية»، «عن الخوف والعزلة»، «عمر»...
وبما يملكه من كاريزما «الزكرت الشامي»؛ كان دور «الزعيم» في المسلسل الشهير «أيام شاميّة» (1992)، فاتحة لتصّدر أدوار الزعامة في معظم المسلسلات التي تنتمي إلى هذا النوع من الأعمال، ليختم مسيرته التلفزيونية بدور الزعيم «أبو راغب» أحد أبطال «بنت الشهبندر» (إخراج سيف الدين السبيعي)، و«الشيخ صالح» في مسلسل «حرائر» تحت إدارة المخرج باسل الخطيب. علماً أنّ المسلسلين عرضا خلال موسم دراما رمضان 2015.
وشهد عام 2016 أداء الراحل دوره السينمائي الأخير، وللمفارقة كان أيضاً أمام كاميرا باسل الخطيب، في فيلم «سوريّون.. أهل الشمس»، ليترك في أذهان محبيّه الصورة الأخيرة، للأب المتسامح... أيقونة لا يدنس قداستها كل ذلك الجحود والنكران، والحقد الذي يسيطر بسواده على سنواتنا العجاف. صورةٌ تتقاطع حياتياً مع صورته كأب، وقف بشموخ خلال تلقيه العزاء بابنه البكر عامر قبل عامين... ابن رحل بعيداً عنه، وكان بينهما خلاف سياسي، وتباين في المواقف إزاء الصراع في البلاد.
بفيلم «سوريّون»، اختتم فنّان الشعب مسيرة سينمائية قدّم خلالها أكثر من خمسين عملاً، بينها فيلمان للأخوين رحباني، وقف فيهما أمام السيدة فيروز هما «سفر برلك»، و«بنت الحارس»، ومن أفلامه أيضاً: «أحلام المدينة»، «الشمس في يومٍ غائم»، «الليل»، «صندوق الدنيا»، «الليل الطويل»، إلى جانب الأدوار التي أدّاها في موجة الأفلام التجارية خلال سبعينيات القرن العشرين.
وللإذاعة حكاية أخرى، روى فيها ذكرياته في برنامجه الشهير «حكواتي الفن»، عبر أثير إذاعة دمشق، التي شارك فيها بعشرات المسلسلات الإذاعية، وقدّم برامج عديدة... إذاعةُ لطالما رددت صدى أغنياته على مسارح دمشق وحلب، كمونولوجيست: «يا ولد لفلك شال»، «تمام تمام هدا الكلام»، «شروال أبو صياح»، «لا تدور ع المال»، «حبوباتي التلموذات»، «شيش بيش»، «قعود تحبك»، «الحب تلت لوان»، «الخنافس»، وأغنياتٍ أخرى أدّاها خصيصاً للسينما كـ «زحليقة وتلج»، «ليش هيك صار معنا»، و«الاوتو ستوب».
وتبقى في البال أغنيته للشام التي غنّاها في 2012 من كلماته وألحان سمير كويفاتي: «أنا سوري من أرض الشام وعطر الياسمين الفواح... مهما درت وشفت بلاد.. غير بحضنا ما برتاح».
«أبو عامر» سيلف شاله اليوم، ليودعه محبّوه من منزله في منطقة المزة إلى مثواه الأخير؛ مقبرة «باب الصغير» في حضن الشام، المدينة التي ولد ونشأ فيها... وتتلقى أسرته العزاء في صالة «جامع الأكرم» أيام الجمعة، السبت، والأحد بين الساعة السادسة، والثامنة مساءً.
محمد الأزن
«حمام الهنا» يقفل أبوابه على جيل لن يتكرّر
برحيل رفيق السبيعي، أغلق «حمام الهنا» أبوابه تقريباً. سيلتحق برفاق درب كثيرين سبقوه إلى العالم الآخر، أمثال نهاد قلعي، وفهد كعيكاتي، وياسين بقوش، وناجي جبر. سيصعب علينا إحصاء ميراثه في المسرح والغناء والسينما والإذاعة والتلفزيون. هو « أبو صياح» الشخصية الدمشقية الأصيلة بشرواله وطربوشه وشاربيه. كاركتر عابر للأجيال، مزيج من عبق حي البزورية العريق، وأسوار القلعة، عبوراً إلى نوادي التمثيل الأهلية في خمسينيات القرن المنصرم، صاحب الأغاني الانتقادية التي لم تطوها قيم الحداثة.
على الضفة الأخرى، هو الممثل بأقنعته المختلفة، المتمرّد على رغبة العائلة بأن يكون خيّاطاً. سيطرّز قماشة أخرى بروحه المتوثبة لصناعة البهجة. كان قدوم فرقة علي العريس اللبنانية إلى دمشق فرصة للممثلين الهواة أن يختبروا أدواتهم على الخشبة. هكذا تسلّل رفيق السبيعي إلى كواليس المسرح، قبل أن يلتحق بفرقة سعد الدين بقدونس، التي كانت تجول المدن البعيدة والأرياف لتقديم عروضها، من دون التفكير في مشقة المواصلات وعدم وجود فنادق للنوم، فكانوا ينامون في أروقة المسرح. يتذكّر بأن أول أجر حصل عليه كان ليرة واحدة عن كل عرض. بتأسيس «المسرح الحر»، صعد عتبة أخرى في سلّم الفن بصحبة عبد اللطيف فتحي. ورغم مشاركته في بعض عروض المسرح القومي»، إلا أنّ بصمته كانت أكثر ألقاً في عروض المسرح الشعبي. ستتوضح شخصية « أبو صياح» شكلاً وموقفاً في فيلم « سفر برلك» للمخرج هنري بركات (1967)، وستتبعه عشرات الأشرطة مع فورة سينما القطاع الخاص في سبعينيات القرن المنصرم، حتى أنه باع عمارة كان يمتلكها كي يموّل فيلماً من إنتاجه هو «نساء للحب» (1974). وبالطبع لن ننسى حضوره الأخاذ بدور الجد في فيلم «أحلام المدينة» (1983)، و« الليل» (1992) لمحمد ملص بدور شكري القوتلي، وكان ظهوره السينمائي الأخير في فيلم « سوريون» (2016) لباسل الخطيب.
بتأسيس التلفزيون السوري مطلع الستينيات، كان رفيق السبيعي شاهداً على تلك الحقبة بالأبيض والأسود بصحبة دريد لحام ونهاد قلعي. تمثيلية «مطعم السعادة» (1960) كانت فاتحة لأعمال تلفزيونية لا تحصى تنطوي على مقدرة استثنائية في منح الشخصية خصوصيتها البيئية، لجهة الشهامة والأصالة، ومعنى «القبضاي». فقد كان على الدوام صورة حيّة للشخصية الشامية، وستفتقد الشام عبيرها بغياب صاحبها. رحل «حكواتي الفن»، وبقيت ذكرياته على أثير إذاعة دمشق شهادة عن جيل لن يتكرّر.
خليل صويلح
«فنان الشعب» مُتعدّد الكارات الإبداعيّة
روح رفيق السبيعي لن تغادر حي البزوريّة، ومئذنة الأموي، وأدراج قصر العظم. هو الطفل الذي اعتاد اختصار الطريق إلى بيت خاله في حيّ العمارة، بعبور الجامع الكبير من باب الصاغة إلى باب الكلّاسة، مارّاً بضريح صلاح الدين. أحبّ الذهاب مع أخيه الكبير توفيق إلى حلقات الذكر، وإنشاد أشعار ابن عربي وابن الفارض في مسجد نور الدين الشهيد.
شبّ على حلم الفن، متحدّياً إرادة الأب، وظنون المحيط. لم يكن الأمر سهلاً في الشام القديمة بعد الاستقلال، ما اضطرّه إلى البدء باسم فنيّ هو «رفيق سليمان». كثيراً ما عاد إلى بيت العائلة تسللاً عبر الأسطح المجاورة. غير أنّ الشاب الحالم، لم يفهم التمرّد على أنّه «انحراف» أو تطرّف. النشأة رسّخت داخله الإخلاص لأخلاقيات المجتمع، فحرص عليها خلال مشواره. الفن يعني الإرشاد والتوجيه والإفادة العامة. أيّ فهم دون ذلك مرفوض، ولا يعني شيئاً. كذلك، سهّلت عليه التقاط تفاصيل الشخصية الشعبيّة ذات السلوك القويم والصفات الحميدة: مروءة وشهامة، وشوارب مقدّسة، وكلمة كحدّ السيف. المظاهر راسخة: صوت رجولي، ومشية عريضة، وشروال، وشال، وخال، وطاقية، وعصا. هكذا، لم تكن ولادة «أبو صيّاح» صعبةً. كذلك، لعبه على الخشبة وخلف المايكروفون وأمام العدسة لاحقاً.
سلسلة من الأسماء بصمت على بداية رفيق السبيعي. عمل ملقّناً في فرقة الرائد العبقري عبد اللطيف فتحي مطلع الخمسينيات، إضافةً إلى فرق أخرى مثل علي العريس وسعد الدين بقدونس ومحمد علي عبدو. سنحت الفرصة بغياب الممثّل أنور المرابط عن عرض لفتحي، يقوم فيه بدور الحمّال، فاستغلّها كما يجب. هذا قاده إلى عبقري آخر هو حكمت محسن، الذي ضمّه إلى عالمه المبهر من الكاركتيرات الشعبيّة المشتقة من الشارع الدمشقي العتيق. كتب له خصيصاً في الإذاعة، ثمّ نقله إلى الشاشة. في عام 1955، شكّل ثنائياً مع ممثّل لبناني من أصل يهودي يُدعَى توفيق إسحق، في إذاعة الشرق الأدنى التابعة لبريطانيا.
طبعاً، توقف العمل مع العدوان الثلاثي على مصر. أوّل مدير للتلفزيون السوري صباح قباني أعجب بشخصية أبو صيّاح، في مسرحية عن نصّ للمصري أبو السعود الإبياري، فجمعه بالثنائي دريد ونهاد. بدأ معهما في تمثيلية «مطعم الأناقة الجوّال» (1961)، قبل صنع السحر في أعمال أشهر من التعريف. بالتزامن، سيطر المغنّي والمونولوجيست رفيق السبيعي على الطقطوقة واللون الشعبي الناقد، مستفيداً من إرث سلامة الأغواني ونصوح ومطيع الكيلاني وفؤاد محفوظ وسعيد فرحات، وألحان عدنان قريش وزهير منيني، وكلمات بسيطة بعضها بقلمه. حقق شهرة واسعة في مسارح ونوادي دمشق. تابع في «نهوند» (1962) مع حكمت محسن، و«7 * 7» (1963) تحت إدارة رائد آخر هو خلدون المالح، حتى أنّه أرسل إلى مصر لنشر لهجة «الإقليم الشمالي» بصوت أبو صيّاح، واتباع دورة في الإخراج الإذاعي. أيضاً، لم يتخلّف عن المشاركة في تأسيس المسرح القومي عام 1960.
خلاصة تلك المرحلة أنّ رفيق السبيعي وصل إلى مشروع دريد ونهاد ناضجاً، مكتملاً. هو متعدّد الكارات الإبداعيّة، ومتشرّب لتجارب عدد من الروّاد والمؤسّسين. نهاد قلعي لم يبتكر شخصيته في المقالب والحمّام والأوتيل، كما فعل مع البقيّة. هذا منحه نوعاً من الاستقلاليّة والتفرّد. مكّنه من التحليق خارج سرب «صح النوم» متى أراد. «سعدو حنّي كفّك» رفض الخضوع لسطوة أبو صيّاح. تجرّأ على الكاراكتير، متجاوزاً جبن العديد من زملائه. ذهب إلى شخصيات بعيدة، قبل العودة إلى ملعبه الأثير. عدم القبول بالمرسوم سلفاً من أدوار ومكانة، كلّفه أثماناً وأعمالاً وخلافات طويلة الأمد.
«داعيكم أبو صياح معدّل ع التمام» مثل أعلى للشريحة الشعبيّة، بأخلاقه وسلوكه وخفّة دمّه وحلاوة روحه. ليس صعلوكاً طائشاً مثل «غوّار الطوشة»، أو غلباناً مسكيناً كـ «حسني البورظان»، أو قبضاياً أزعر من طراز «أبو عنتر» (ناجي جبر)، أو درويشاً أبله على غرار «ياسينو» (ياسين بقوش)، أو ضابطاً هزلياً من نوع «بدري أبو كلبشة» (عبد اللطيف فتحي). هو الزكرت، الجدع، ذو الجمال المرتبط بالفحولة والرجولة، صاحب الفعل المحسوب والحرف الوازن. كل ذلك صنع منه «فنان الشعب» دون سواه من الأشهر والأقدم.
قدّم رفيق السبيعي تنويعات واضحة على أبو صيّاح. أدوار مثل الزعيم في «أيام شاميّة» و«ليالي الصالحيّة» و«طاحون الشر» و«قمر شام»، والمختار في «أهل الراية» أمثلة على ذلك. شارك في أعمال لا ترقى لإمكاناته وتاريخه. في المقابل، تفوّق على نفسه في أخرى، مثل فيلمي «أحلام المدينة» و«الليل» لمحمد ملص. «طوطح» في «طالع الفضة» ذروة نادرة في قدرة ممثّل على الإتيان بالجديد بعد نصف قرن من العمل. لا أحد مثله يقدر على تشخيص الفيلسوف الدمشقي اليهودي. دور بديع رفضه دريد لحام، ونقل عنه كثيرون ندمه على ذلك بعد عرض المسلسل.
في يوم ما، أهداه الرئيس السوري أمين الحافظ مسدّسه الشخصي. هذا يقود إلى علاقة رفيق السبيعي وجيله مع السلطة. جيل متحفّظ، مهادن، مهذّب، حريص على عدم الإزعاج والاستفزاز على الصعيد الشخصي، رغم أنّ «مسرح الشوك» من أكثر التجارب الفنيّة مشاكسةً وجرأةً. هذا لم يثنِ رفيق السبيعي عن إطلاق لسانه، خصوصاً في السنوات الأخيرة. هاجم دراما البيئة الشامية المزيّفة للواقع. انتقد ارتهان الدراما السوريّة برمّتها لأموال الخليج، وانقيادها لأجندات محطّاته. من أكثر منه أهلاً للقول الفصل؟ جدّ الفنّانين أهدى حياته للإبداع. عمره الفني أكبر من عمر الدراما السوريّة نفسها. وداعاً.
علي وجيه
شهادات محبّيه ورفاق دربه: قامة إنسانية كبيرة
بدت منى واصف شديدة التأثر عند تلقيها خبر رحيل فنّان الشعب. قالت بأنها رأته أول من أمس عند باب مصعد المبنى الذي يتشاركان سكنه كجيران منذ سنواتٍ طويلة: «رأيته واقفاً.. كما أحبّ أن يكون حتى آخر لحظةٍ في حياته. هذا الرجل يشبه الأشجار التي تموت واقفةً. هو الجار، والصديق، والأستاذ المهذب الخلوق الذي لن يتكرر... من أولئك الناس الذين يتركون وراءهم بصمةً في حياتنا، ووجعاً كبيراً. أتشرف أنني عشت في زمنه وزمن دريد لحام أطال الله بعمره».
آخر الأعمال التي جمعت منى واصف برفيق السبيعي «بنت الشهبندر» (2015).
أما الملحن أمين الخيّاط (نقيب الفنّانين السوريين بين عامي1967 و1980)، فقد وصف الراحل رفيق السبيعي بـ «المكافح جداً الذي تعب في صناعة اسمه كما يليق بفنّان كبير يستحق ما وصل إليه من مكانة».
تعود الصداقة التي جمعت بين الخياط والسبيعي إلى العام 1957. وعن ذلك يقول: «تعرفنا إلى بعضنا في مسارح حلب، وأمضينا معاً ثلاثة رمضانات، تشاركنا فيها طعام الإفطار. وقتها أخذ على عاتقه طبخ الطعام لنا، أنا وهو والممثل الراحل محمد خير حلواني، وكم كان نفسه طيباً في الأكل. هو مثال للإنسان الصادق الشفّاف، خسرت بوفاته صديقاً صدوقاً، وخسرنا بوفاته فنّاناً كبيراً، أثرّت أغنياته الانتقادية في جيل من الشباب السوري التي طالما رددها، لحنّت له خمس أغنيات له، إلى جانب ملحنين سوريين كثر، من بينهم سهيل عرفة أطال الله في عمره، وآخر أغنياتهما معاً «لا تزعلي يا شام» سجلها بصوته قبل أشهر في إذاعة دمشق. هذا هو رفيق كما عرفته.. لم يتوقف عن العطاء، والكفاح حتى آخر أيّامه».
آخر المخرجين السوريين ممّن عمل معهم الراحل رفيق السبيعي، المخرج باسل الخطيب، الذي وصفه بـ«القامة الإنسانية الكبيرة، لا الفنيّة فقط، ومن يعرفه عن قرب، يمكنه تلمس تلك الخصال فيه.. هو كان فعلاً أباً محبّاً للجميع».
وقال الخطيب في رثاء فنّان الشعب: «ربما شاءت الأقدار أن نتعاون معاً في آخر فيلم ومسلسل شارك فيه، وأشعر بالندم والأسى بأن هذا التعاون أتى متأخراً، هو خسارة كبيرة لنا، وسيترك خسارة كبيرة برحيله، قامة فنيّة في غاية التواضع، لا يعييها التعب، لديه ولاء لمهنته نفتقده كثيراً اليوم، وأرجو أن نتعلم منه كم تحتاج هذه المهنة للشغف والحب. يؤسفني أنني لم أتمكن من رؤيته رغم إطمئناني على صحته قبل أيام، ووعدي بزيارته، لكن القدر لم يمنحني فرصة توديعه كما أحب. لروحه الرحمة والمغفرة، والعزاء، لعائلته ولنا.. لمحبيّه».
محمد الأزن
رثاء فايسبوكي
سامر رضوان: ليس مقبولاً أن تجمعَ قامةً كبيرةً في زنزانةِ كلامْ . وأن تحاولَ نَحْتَ الموجةِ على شكلِ طاقةِ زهرْ.
إنه اعتداءٌ على الوردة، وأدواتِ اللغة، وطبيعةِ تَكَوُّنِ الشلالْ. فعندما يغادِرُكَ الكبار، ترتجفُ الورقةُ أمامَ سوادِ ظلِّ القلمْ. حتى وإن أرادَ القلمُ إضافةَ مِساحةِ بياضٍ فوق بياضِها. إنه ارتجافُ الفراقْ، وارتجافُ القلبْ، وارتجافُ الذاكرةْ.
لقد جمع رفيق السبيعي محطاتِ حياته في حقيبةِ الدنيا، تاركاً صندوقَ دنياه بيننا. فقد كان كريماً حتى في رحيله. أحدُ آباءِ الذاكرة، واللونُ الأصيلُ فيها، والصانعُ الماهرُ لمعنى العفويةِ المشغولةِ على طَعمِ رغيفِ الخبز.
برحيل العملاقين: خالد تاجا ورفيق السبيعي... نفقد أحد عشر كوكباً من غير نقص.
* سيف السبيعي: رحل الزعيم... وترك دمشق أمانة بين يديكم
* ديمة قندلفت: رحلت قامة عربية، قامة سورية، قامة دمشقية... ستفتقدك شامُك، وستبقى فيها شجرة شامخة، نستظلّ بظلّها ما حيينا..
كل الرحمة لروحك #رفيق_سبيعي
* شكران مرتجى: الله شوبحبك يا أبو عامر وبعرف قديش كنت تحبني من ملقاك ريحة عطرك مابنساها... وكل اللي بحبهم عم يروحواسلملي ع بابا وعلى نضال
الله يرحمك ويصبر سيف وهبه وصبا وصباح وأحفادك وكل محبينك....كنا بدنا نزين المرجة معك
* الممثل علاء قاسم: هرم آخر من أهرامات الفن السوري يغادرنا.. منك تعلمنا الاكابرية و النضافة والاناقة والرتابة والالتزام والاخلاص لشغلنا... رفيق سبيعي... خسارتنا فيك لا تعوض.. حنانك ودفاك كأستاذ كبير ح نفتقدهم لزمن كتير طويل.. لروحك كل السلام .. لترقد في عليائك بسلام..
* الممثل يامن الحجلي: لقد ترجل فارس دمشقي عتيق بعد رحلة فنية غنية ستبقى طويلاً في الذاكرة السورية والعربية... وداعاً يا زعيم وداعاً ابو صياح وداعاً لهذه القامة الفنية الكبير التي صنعت لنا الطريق الذي نسير عليه اليوم..
* الممثل فادي صبيح: ما اصعب كلمات الرثاء أيها الزعيم.... أبو صياح يا روح الشام... وداعاً
* الممثلة ميسون أبو أسعد: راحوا الكلمات مني بروحتك عننا.. معرفتك والشغل معك ومحبتك النا شرف كبير .. كلماتك وطيبتك ونصايحك مستحيل أنساها .. يالله هالخبر شو صعب .. يا الله غيابك شو خسارة النا كلنا..
الله يرحمك ويصبر عيلتك الصغيرة وعيلتك الكبيرة يلي هي نحن وسورية كلها يلي حبيتها من كل قلبك.
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد