ربلة الصامدة في شريط حدودي مهجر:العيش من دون مداخيل

18-09-2013

ربلة الصامدة في شريط حدودي مهجر:العيش من دون مداخيل

تغرد ربلة السورية في ريف القصير خارج سربها. لا يمكن لقاصدها أن يتخيل أنه سيجد حياة وبلدة، سواء من ناحية جوسيه على الحدود مع مشاريع القاع أم من جهة حوش السيد علي على ضفاف نهر العاصي على الحدود مع الهرمل.
يستوجب الوصول إلى ربلة قطع طريق ملتوية بين الأحراج والبساتين الكثيفة من جهة الحوش، وأخرى مهجورة وموحشة وسط القرى المدمرة في حال ولوجها من المعبر الشرعي في جوسيه.
أدت المواجهات التي شهدتها قرى ريف القصير، وبالتحديد الشريط الممتد نحو خراج عرسال ومشاريع القاع، إلى تهجير جميع القرى، باستثناء بعض العائلات في النزارية. وحدها ربلة الواقعة في قلب المنطقة شهدت تهجيراً محدوداً. نحن نتحدث هنا عن جوسيه وأخواتها. من جوسيه الخراب إلى العاطفية والنزارية والدوسرية والديابية، وفي الشريط نفسه تقع ربلة. يعيد خوري الرعية باخوس عازار صمود البلدة إلى إرادة الحياة التي يتحلى بها أهلها. فالقرار بعدم التهجير عن ربلة واضح وصارم: «نحن من هذه الأرض، ولن نتركها لأحد، ولن نتهجر عنها مهما كانت الضغوط».
عمل أهالي ربلة بالمثل القائل «من ليس له أرض ليس له عرض». لذا، اتفقوا جميعهم على أنَّ «من يريد أن يأخذ ضيعتنا فلن يأخذها إلا على جثثنا».يروي أهالي ربلة أن «أبناء الطوائف الأخرى ساعدوا جدودنا في نقل الحجارة وبناء كنيستين» (سعدى علوه)
نأت ربلة بنفسها منذ اندلاع الأحداث في سوريا انسجاماً مع الموقف المعلن لغالبية مسيحيي بلاد الشام. نأي بالنفس «لم يجنب البلدة بعض الاعتداءات»، كما يقول مختارها صلاح فياض. اعتداءات أدت إلى سقوط نحو عشرين ضحية من شباب البلدة نتيجة القصف والقنص في البساتين والحقول وعلى الطرق.
نأي بالنفس
يشير أبو طوني، من مصطبته حيث فرش حصيرة واتكأ على وسادتين على زاوية طريق فرعية في ربلة، إلى أن البلدة «لم تعرف الصراعات مع محيطها، حتى أن جيراننا من أبناء الطوائف الأخرى ساعدوا جدودنا في نقل الحجارة من كنيسة مار الياس التاريخية في جوسيه إلى ربلة والقصير حيث شيدوا كنيستين». دير مار الياس نفسه الموجود في جوسيه تعرض للقصف والعبث بمحتوياته، وهو ما يحز في نفوسهم «لم نؤذ أحداً». ومثل معظم الصامدين هناك، يسجل أبو طوني دوراً «للغرباء في الوصول إلى ما وصلنا إليه». فالغريب لا يمت بصلة إلى ابن المنطقة، «لم يشاركه الخبز والملح ولا صعاب الحياة، ولا يعرف أهل بيته، وباختصار لا يهتم به ولا بالتعايش القائم بيننا».
أدت الاعتداءات، وفق المختار، إلى تشكيل لجان شعبية من شباب البلدة للدفاع عنها. ووصل عدد الشباب في اللجنة الشعبية إلى «نحو ثلاثمئة شاب، ساهموا مع الجيش النظامي السوري في حماية ربلة ومنع تحويلها إلى ساحة معركة». يسجل المختار فياض «اهتماماً كبيراً من السلطات السورية بالبلدة». وعليه تم إرسال قوة كبيرة لحمايتها. ويشير إلى أن وجود «حزب الله» على مشارف ربلة جعل المسلحين يحسبون الحساب لمحاولة احتلالها «كانوا يعرفون أن شباب الحزب لن يتركوا البلدة وأهلها وحدهم». جاهدت ربلة للصمود خلال الأحداث. سلك أهلها الطرق العسكرية المؤمّنة للعودة ببعض ما يسد رمق الأطفال بالدرجة الأولى، والأدوية الضرورية لعدم تفشي الأمراض. وجاءها بعض العون من جمعيات من خارج سوريا. حتى أن بعض سكانها اللبنانيين، ممن يعملون في لبنان، واظبوا على المداومة في وظائفهم. هؤلاء لم ينقطعوا عن البلدة، ومنهم مدير مدرسة حوش السيد علي. وكانوا الأكثر عرضة للمخاطر، «حتى أن البعض منهم قد قضى على طرق البلدة»، كما يؤكد الأهالي.
ضفاف العاصي
تحاول ربلة تخطي المواجع. ويأمل المختار والأهالي أن تكون الأمور قد وضعت أوزارها نهائياً في المنطقة في القصير وريفها ومن حولهم، «محنة وبتمرق»، يقولون. «المحنة الأشد» عاشتها ربلة مع خطف المسلحين 218 شخصاً من البلدة إبان الأحداث. «كانوا يريدون منا أن نكون طرفاً، ولكننا أبينا». وأدت التدخلات والوساطات من أكثر من جهة وصمود الأهالي الدور البارز في الإفراج عن المخطوفين.
ومع محاولة استئناف الحياة، بدأ «الربلاويون» إحصاء خسائرهم. فالبلدة التي تسترخي اقتصادياً على نحو اثنين وعشرين ألف دونم من الأراضي الخصبة، قطعت مرحلة المواجهات بعد نحو سنتين من عمر الأزمة لتجد أن بساتينها قد يبست، ومحاصيلها قد بارت، وأن اهلها قد صرفوا مدخراتهم للعبور من الأحداث. «تحتاج إعادة الثروة الحرجية المثمرة في البلدة إلى أكثر من عشر سنوات من الجهد والمتابعة»، يؤكد المختار. مع الأشجار المثمرة تخسر المنطقة ثروتها الحرجية التي كانت تنمو على ضفاف العاصي والبساتين. وحكمت المواجهات العسكرية بين الأطراف المتنازعة قطع كثير من الأشجار ومن الطرفين تحسباً لأعمال التسلل والهجمات وانكشافها.
واليوم، ومع استمرار الحديث عن تسلل ووجود مسلحين وعناصر من «جبهة النصرة» في الجرود المرتفعة المفتوحة على يبرود ومنها على الريف الدمشقي، وكذلك الإشارة إلى الجرد العرسالي معها، يبدو أن التوجه يستمر نحو مزيد من قطع الأشجار، وهو ما يفقد المنطقة إحدى أهم ميزاتها الطبيعية والاقتصادية والمناخية والبيئية طبعاً.
قبل الأحداث كان أهالي ربلة من أكثر السكان يسراً على صعيد الوضع المادي. «كنا نعيش على الزراعة»، يقول المختار، مشيراً إلى أن البطاطا «الريبلاوية» كانت «وجه السحارة» والمنتجات السورية. اليوم لا بطاطا في ربلة، بعض أشجار الجوز صمدت، «وما أدراك ما الجوز الربلاوي»، كما يتغزلون بمحاصيلهم. غزل يعيدونه إلى معنى اسم بلدتهم، فـ«ربلة» تعني باللغة الأرامية «الأرض التي أخصبت». كانت البلدة مقصداً لتجار الخضار من محيطها وصولاً إلى حمص، وكان بعض تجار الشام يقصدونها لجودة منتجاتها أيضاً. اليوم يجاهد «الربلاويون» لتخطي أزمة شح الموارد في مقابل «جنون الأسعار».
يشير المختار فياض إلى أن المواطن كان يعيش بعشرة آلاف ليرة سورية «مَلكاً» في بلاده. «اليوم، لا تكفيه مئة الف ليرة سورية، ولا سبيل لجني المال». كان كيلو اللحم الغنم بخمسمئة ليرة سورية، أصبح اليوم بـ1700 ليرة، والرواتب لم تتغير، بل إن الليرة فقدت قيمتها. وكان كيلو الخضار لا يتعدى الخمس عشرة ليرة سورية. اليوم لا يمكن شراء البندورة بأقل من ستين ليرة.
اللبنانيون والغلاء
يبلغ عدد سكان ربلة نحو ثمانية آلاف نسمة. عدد اللبنانيين منهم نحو ألف نسمة كحد أقصى. وتعتبر البلدة المسيحية الوحيدة في ريف القصير، وتمتد عائلاتها نحو القصير نفسها التي تحتوي على نحو عشرة آلاف مسيحي كانوا يعيشون فيها. وتضم نحو خمسمئة نسمة من الطائفة العلوية.
اليوم تستضيف ربلة نحو خمسين عائلة مهجرة من القصير. «كل مسيحيي القصير يريدون العودة إلى المدينة ولكنهم ينتظرون إعادة بناء منازلهم»، يؤكد بيار الأحمر الذي يستضيف عائلة مهجرة في منزله.
يبدي أهالي ربلة ارتياحاً لتوقف المواجهات في القصير وريفها: «ارتحنا طبعاً»، ولكن الفرحة الكبرى تظهر على العائدين من التهجير نحو لبنان. تقول أم فارس (45 عاماً) إنها وبعد نحو عام من النزوح نحو لبنان، عادت لتتلمس جدران منزلها غير مصدقة أنها ستنام ليلتها تلك تحت سقف غرفتها «والله ما صدقت». تروي قصصاً محزنة عن النزوح و«مذلته». عن اضطرارها إلى العمل في محل لبيع الألبسة بثلاثمئة ألف ليرة، ومن التاسعة صباحاً ولغاية السادسة مساء. تحكي عن زوجها وابنها اللذين لم يتركا عملاً إلا وجرباه: «ومع ذلك لم تكف مداخيلنا نحن الثلاثة لتأمين إيجار الشقة والمستلزمات الضرورية للعيش». تقول إنها مرضت وإنها قصدت الشام لتتطبب بعدما عجزت عن تحمل كلفة الاستشفاء في لبنان: «ما بعرف كيف عايش اللبنانيين، بلادهم نار وشعلانة». وحدهم اللبنانيون المكويون بنار الغلاء في بلادهم ينعشون الحركة الاقتصادية في ربلة اليوم. يقول أحد التجار إن صديقاً له من تجار الجملة كان يأتي بنحو ثلاثة أطنان من المواد الغذائية مرتين في الأسبوع بالشراكة مع تاجرين آخرين. اليوم، أصبح كل تاجر يأتي بثلاثة أطنان في اليوم، والزبائن «لبنانيون»، كما يقول.
تسترخي ربلة وسط شريط من القرى المهجرة. وما أن يحل وقت العصر حتى يفترش كثير من أهلها مصاطبهم على حوافي الطرق وأرصفتها، يُخرجون أباريق القهوة والشاي ويعودون لعيش أمسيــات بعيـــدة كادت أن تصـــبح مجــــرد ذكريات.

سعدى علوه

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...