دمشق: بيت الضيق يتسع لثلاثمائة ألف نازح وشقيق
الجمل ـ حسان عمر القالش: لم يكن الموزاييك شاميّا هذه المرة في سوريا..كان لبنانيا خالصا. اليوم كان الدور علينا لنأخذ "كتفا" مع زملائنا الإعلاميين في لبنان,هم يبثون من تحت القصف والخطر صور وتقارير عن بشاعة العدوان الصهيوني وألام شعبهم, فنحن هنا نرصد آلام أبناء لبنان ونزوحهم, نتيمم بملامسة أكفّهم بتراب لبنان الأبي. هم يعتمرون "الخوذات" الواقية لتحميهم من غدر وقح لغارات عبثت بالوطن, ونحن نلبس خوذا أخرى مختلفة نضعها على قلوبنا لحمايتها من الانفطار واللوعة أكثر مما هي عليه.
محمود بربر, سائق تاكسي لبناني, جمع الجمع من أسرته التي تعدّ عشرين فردا منهم تسعة أطفال,وضعهم في سيارة نقل عمومي "فان" وشد بهم الرحال الى دمشق, توقفت رحلته عند مركز "الهلال الأحمر السوري", بدا في تجاوبه معنا لهفة أرخى عليها وجها لامباليا, للحديث وتسجيل صورة ولو بالصوت لما رآه وأسرته: نحن قادمون من "بر الياس", وصلنا قبل قليل والوضع مأساوي, فلا خبز في الأفران ولا ماء ولا كهرباء, كان كيس الطحين بـ20 $ وصار بـ40$, ولانستطيع التجول في منطقتنا.كان ينتظر عند الهلال الأحمر ليرى اذا ماكانوا سيأمنوا له مسكنا يأويه وأسرته, وأعطانا ملصقا للهلال الأحمر يعلن عن تقديم المساعدات, ووضع الرقم الرباعي(9338-011) في أعلى الملصق.
حال محمد هلال كانت أصعب وأشد تدل عليها سيارته الـ"هوندا سيفيك" موديل السبعينات تشبه الخنفسة أو الزلحفة عندنا, تكدس داخلها خمسة أشخاص الى جانب ثماني أطفال! والتي كان يجول بها في شوارع الشام على غير هدى, يبحث ويوقف الناس والسيارات ليسألهم عن مكتب الصليب الأحمر فقد كان متأملا بوعدهم مساعدته واسكانه. ثيابه الرثّة وحال الخدر التي مسحت وجوه الصغار والنساء أكدت قوله: لقد انطلقنا من "الناعمة" في الحادية عشرة ليلا وهذه وصلتنا – كانت الساعة الخامسة مساء – الطريق من الناعمة الى "البقاع" فقط استغرق سبع ساعات. وحدثنا عن (تجار الطريق) كيف يتلاعبون بأسعار التنقل والسفر: من بيروت الى البقاع يأخذون منك 100دولار عن الشخص الواحد, أما من البقاع فأجرة السيارة الى جديدة يابوس كاملة 500 دولار.
لكن حسام كان أفضل حالا مع سيارته الحديثة, التي أوصلته من "طرابلس" في أقصى شمال لبنان الى دمشق, كانت معالم الجديّة والتأهب تعصف بوجهه الأنيق الملامح, الى جانبه رجل متقدم في السن بدا أنه والده وفي المقعد الخلفي اصطفت النسوة والأطفال بترتيب مريح. لماذا لم تأت الى دمشق عن طريق بيروت؟ قال وبنفس تلك المعالم :الطريق بين طرابلس وبيروت مقطوع, لقد قصفوا مركزا للجيش على الطريق ما اضطرّنا لسلوك طريق طرابلس – حمص ودخول سوريا من نقطة "العبودية – الدبوسية" فهذا الطريق أسلم.
كانت عجقة دمشق وازدحامها أعلى بكثير من وقت الذروة في الأيام العادية, اذا بدأت مسيرك من بداية أوتستراد المزة باتجاه ساحة الأمويين صافحتك سيارات الأجرة اللبنانية أو السورية "الدودج" الواصلة من لبنان, تكشّر صناديقها عن حقائب وأكياس كبيرة حزمت كيفما كان وحشرت رغماً عنها ربما لتشهد مع أصحابها على رحلة نزوح مؤلم.
بعد تجاوز ساحة الأمويين باتجاه شارع المعرض تطالعك سيارات ضخمة بألوان زاهية ولوحات تحمل أسماء مدن متفرقة من الخليج العربي, قدمت هي الأخرى من لبنان, وأثقلت على اسفلت طرقاتنا الرقيق الحساس. ولا تكاد تصعد جسر فكتوريا وتطل بطرف عينك اليمنى الى الزاوية التي تبدأ من فندق "سمير أميس" صعودا الى محطة الحجاز, وبطرف عينك اليسرى الى منطقة البحصة والشارع الصاعد باتجاه المحافظة, حتى تلوح لك قوافل من الباصات والبولمانات بلوحاتها اللبنانية الحمراء, بعضها متوقف والى جانبه أكوام من حقائب السفر والبشر, والبعض الآخر يكمل سيره باتجاهات مختلفة.
نفس المشهد ينبعث على امتداد الوقت أمام الفنادق على اختلاف نجومها ودرجتها, سامي أوغلي سائق تاكسي سوري يعمل على خط بيروت – دمشق كان ينزل ركابه عند مدخل فندق "الميريديان" فصّل لنا الطرق المعتمد للوصول بأمان الى الحدود السورية: بيروت, طريق برمانة,ترشيش, ضهور شوير, زحلة, المصنع. طمأننا بدوره عندما سألناه بأنه حتى الآن لم يتأذى أحد على طريق السفر, ثم ودّع زبائنه ورفاق رحلته شبه الحربيّة المسافرين الى فرنسا على أول طائرة.
وبالحديث عن الفنادق فهي "كومبليه" كما يقول موظفوا الريسبشن أو الاستقبال, فلا وجود لغرفة واحدة شاغرة, الفندق ممتلئ لآخره, يعمل بأقصى طاقته, يضاعف العاملون ووردياتهم, هذه العبارات تكررت على ألسن جميع من التقينا من موظفي واداريي الفنادق.
أحدهم واسمه كنان قال لنا بوجهه الناعم ومحيّاه الباسم: لو كان عندنا ثلاثة فنادق أخرى كفندقنا هذا لامتلأت بيوم واحد. اقتحمت طاولته فتاة في السجع الأخير من العشرينات عرفنا أنها لبنانية من لهجتها, وربما من بنطالها المرقّط كزي الجنود وكأنها ترتديه تماشيا مع موضة الحرب, قالت له بعد أن خيب أملها بالعثور على غرفة: الـclining room – غرفة التنظيف – بيمشي حالها معنا, جايين بعد 12 ساعة سفر.
لاحظنا,وهذا ما أكدوه لنا أن غالبية النزلاء هم من السياح العرب الخليجيين النازحين من لبنان, يحجزون لليلة واحدة أو ليلتين بانتظار سفرهم وعودتهم الى بلادهم, يرفسون بدورهم نعمة السياحة عندنا ورخص الأسعار, ويديرون وجوههم لمصايفنا وطبيعتنا! فصار حالنا كمن هو "مضروب بحجر كبير" نسبة الى ماألمحت اليه زمرة من سياسيي لبنان من أن سوريا تسرق موسمهم السياحي, ولكن وكما يقول المثل أيضا" معلش..صيت غنى ولا صيت فقر".
لكن الحالة تتكثّف وتتداعى عندما تطأ أرض المطار, ابتداء من مواقف السيارات الممتلئة عن آخرها بسيارات وباصات وتكسيات من لبنان والخليج, تضيق بك الأنفاس داخل القاعات التي ترصرصت مقاعدها بكتائب من أولاد ورضّع ونساء ورجال, وتشحّمت أرضيّتها بأوساخ ونفايات العصائر والساندويشات والسجائر. الناس المترصرصون هنا معظمهم هارب من لبنان, استرخى بعضهم وتمدد بعدما أثقلت عليه الأحداث وساعات السفر, البعض استسلم لغفوة يهرب فيها من ذهول واقعه, والباقي اما تجمعوا الى حديث يمرر لهم دقائق انتظار رحلتهم, أو تفرقوا سارحين بأعينهم في اللا شيء بنظرات جامدة.
هذا الموزاييك سبق أن عاصرته سوريا ولبنان . . ماكان أجمله من فسيفساء من خشب الأرز وصنعة دمشق, لوكان في زمن آخر زمن بلا إسرائيل وبلا أمريكا.
الجمل
إضافة تعليق جديد