داريوش شايغان: التحدي الحضاري والحداثة
يُعد الفيلسوف الإيراني الفرنسي داريوش شايغان (1935) من أبرز الشخصيات الثقافية المتميزة بسماتها المتداخلة. اكتسب خاصية التركيب على مستوى هويته من أسرته ومحيطه الاجتماعي؛ أمه من أصول جورجية هربت عائلتها بعد الثورة الروسية، والده من الأقلية الآذرية في إيران، وقد تربى في محيط أسري مركب، يحضن إثنيات وديانات عدة. حين كان طفلاً دخل مدرسة تبشيرية فرنسية. يصف بيت طفولته الذي جمع مدرس الموسيقى الأرمني الإيراني، وطبيب العائلة الزرادتشي، والسائق الآشوري، واختلاط الإيرانيين في منزله بالمهاجرين القوقازيين والروس بــ «مأدُبة طويلة».
سافر إلى سويسرا لدراسة الطب غير أنه كان يميل إلى الأدب والفلسفة فقرر متابعة التخصص في العلوم السياسية، وتلقى محاضرات في ألمانيا ألقاها الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر بعد عودته إلى إيران العام 1960، درس اللغة والثقافة الهندية والسانسكريتية، وأسس في العام 1976 المركز الإيراني للدراسات الحضارية. وتحت إشراف المؤرخ والمستشرق الفرنسي هنري كوربان الذي يعتبر من أهم دارسي «الإسلام الإيراني» نال شهادة دكتوراه في الهندوسية والصوفية من جامعة السوربون (بيرنيل برامينغ، داريوش شايغان: الرجل الذي في الوسط)؛ شغل بعدها منصب أستاذ كرسي الفلسفة المقارن في جامعة طهران، علماً أنه نشر كتاباً عن كوربان في العام 2011 (Henry Corbin: Penseur de l’islam spirituel).
شايغان أول من استخدم مصطلح «حوار الحضارات» في مؤتمر عقد في طهران العام 1977، وهو المفهوم الذي اعتمده لاحقاً الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي. وضع مجموعة من المؤلفات في اللغة الفرنسية نُقل عدد منها إلى العربية ثلاثة منها عن دار الساقي «النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا» (1991)، «أوهام الهوية» (1993)، «ما الثورة الدينية؟ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة» (2004) وكتاب عن دار الهادي «الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية» (2007). أصدر في العام 2012 كتاباً في الفرنسية (La Conscience métisse) «الوعي الهجين» وحصل العام 2011 على الميدالية الفرانكوفونية في الأكاديمية الفرنسية.
يجمع شايغان ثقافات عدة، الفارسية والتركية والروسية والإنكليزية والفرنسية، وهو ملم في غالبية آداب التصوف والعرفان الشرقي، الهندي منه خصوصاً، ومطلع على مصادر الثقافة الإيرانية التقليدية، والثقافة الإسلامية، بالإضافة إلى الثقافة الغربية في محاضنها الفلسفية والأدبية الأساسية، ودارس للحداثة ومتتبع لمكوِّناتها الجوهرية. تمحور مشروعه الفكري حول الفروقات الأساسية التي أضافتها الثقافة الغربية الحداثية إلى الثقافة الإنسانية، وعمل على فكرة النقد الروحي لمكتسبات الحداثة بغية الحد من توغلها اللاإنساني الذي أضر بالروح البشرية فأفقدها سماتها، برغم مكاسبها النوعية غير المسبوقة، وهو بذلك يمارس عملاً مزدوجاً؛ وجهه الأول يتمثل في الاستقاء المفهومي والمنهجي والنقدي من الغرب، ووجهه ﺍﻵخر توظيف تلك العدة المستقاة في السبر عن الأزمات النوعية والطارئة في هذه الثقافة.
يتبلور طرح شايغان الأساسي حول ضرورة التحاق الحضارات التقليدية بالحضارة الغربية الحديثة، مؤكداً التعارض الكلي بين بنى الحضارة الكونية الحديثة (الغربية) وبنى الحضارات التقليدية (الهندية، الصينية، الإسلامية) التي لم تشارك التاريخ أعياده كما يقول؛ بمعنى أنها لم تشهد المخاض العسير لتشكل العقلانية المعاصرة التي عرفها الفرد الغربي عبر الصدمات الثلاثة: الأولى كانت، حسب فرويد، «الصدمة الكوسمولوجية»، أي تدمير «الوهم النرجسي» عند الإنسان. وهكذا تعلّم الإنسان أن الشمس لا تدور حول الأرض وأن الأرض لم تعد مركز الكون، بل هي نقطة غبار في هذا الكون اللانهائي. ولم يعد للإنسان مكان ثابت في الكون لأن الكون في صيرورة متواصلة، سيرورة تاريخية روحية في البداية (هيغل) وبيولوجية -طبيعية (داروين، سبنسر) واجتماعية- اقتصادية (ماركس). وبدل أن ينفتح أفق الإنسان نحو المجرات العليا، حيث تهبط الرسالات الإلهية، أخذ ينخفض حالياً نحو مستوى خطي من السيرورة التاريخية. وإذا اكتفت الثورة الكوبرنيكية بطرد الإنسان من محيطه، فالثورة الثانية، البيولوجية، انتزعته هذه المرة من حضن أجداده وأنبيائه؛ وفهم الإنسان، بمرارة كبيرة، أن نسبه السلالي لا يعود أبداً إلى أنبياء زمن النبوة، وأنه تحدّر من سلالة القرود الأقرب إلى الإنسان. وفهم أخيراً، مع الصدمة السيكولوحية، كما يستنتج فرويد، أن عقله ليس سوى جزيرة معزولة مستقرة على سطح محيط من القوى اللاواعية. غير أن الحداثة هي الآن في طريقها، مع نهاية القرن العشرين، لإحداث صدمة أكثر إنقلابية من سابقاتها: الصدمة المعلوماتية. (داريوش، شايغان، أوهام الهوية). يرى شايغان أن مشكلة الإسلام في مواجهة الحداثة تنبع من رغبته في «توكيد ذاته، مهما كلف الأمر، كحل بديل لمواجهة تحدي الحداثة... وبالتالي فإن إسلام الفقهاء هو وحده المسموع الصوت، وذلك على حساب كل هذه الثقافة العميقة التي شكلت مجد الروحانية الإسلامية». (داريوش، شايغان، أوهام الهوية).
يطرح شايغان في كتابه «ما الثورة الدينية الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة» رؤيتين: الأولى، توسيع إطار الحضارات التقليدية أو ما يسميه «التجمع الروحي الواحد» حيث إن الحضارات الإسلامية والهندية والصينية تتميز بتجانس بنيوي في التجربة الميتافيزيقية؛ والثانية، اعتماد رؤية حضارية شاملة للثقافات الشرقية والغربية، عزز خلاصته هذه في كتابه «الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية» محاولاً التحقق من جملة إشكاليات: هل الهيمنة الحاسمة للتفكير الغربي تساعد على التواصل بين الحضارات؟ لماذا لم يظهر العلم الحديث بمعناه الغربي في هذه الحضارات إطلاقاً؟ ما هي الفوارق الأساسية بين مقولات الرؤية «الأساطيرية» التي تمثل العنصر السائد في التفكير الآسيوي والتفكير الفلسفي في العالم الغربي؟ يؤكد شايغان في معالجته لمفهوم «التحدي المعاصر» أن الحضارات الآسيوية مكثت زمناً طويلاً خارج سياق التحولات الكبرى، ولكن مع مطلع العصر الجديد والاستعمار المنظم للبلدان الخاضعة لسيطرة التقنية الغربية، بات من المؤكد أن هذا السياق التاريخي لا رجعة فيه، وأن الحوافز التي تدفعه إلى الأمام غالباً هي نظام المنفعة والربح وليس التعاطي الروحي بين الحضارات.
في كتابه «النفس المبتورة هاجس الغرب في مجتمعاتنا» توصل شايغان إلى نتيجة مؤادها: «لا توجد اليوم إلا حضارة كونية واحدة هي الحضارة الغربية وقيمها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وأن المجتمعات التقليدية لا تستطيع مقاومة هذه الحضارة وخلق أنموزج حضاري جديد وكل مقاومة أو فكر مقاوم لهذه الحضارة الغربية لا ينتج عنه إلا مزيداً من التغرب اللاواعي، وأن قيم الحضارات التقليدية قد انتهى زمنها كأرضية سياسية أو اقتصادية ولكن بقي فقط دورها الروحي».
يعتبر شايغان أن مغامرة الحداثة تمتاز بجانبين، فهي من جهة إيجابية جداً لأنها تحرر الإنسان من تلك الوصاية المزدوجة التي يسميها كانط قداسة المقدس وجلالة السلطة، أي وصاية الدين والسلطة السياسية، والتي أدت بعد مغامرات عقلية في أوروبا الى تكريس العلمانية؛ ومن جهة أخرى سلبية إذ أفقدت الحداثة العالم (الغربي) طابعه السحري والرمزي، الذي أطلق عليه الفيلسوف الإيراني «انفكاك السحر» أو خيبة الأمل، ويخلص إلى أنه لا بد للجانبين هذين من أن يتلازما.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد