حساب جارٍ للسلاح: مليارات الدولارات لديمومة الحرب السورية
ما تكلفة رصاص يوم واحد من القتال في سوريا؟ سؤال قلما يطرح في ضوء الانشغال المحلي والخارجي بنتائج المعارك الدائرة، وأثرها السياسي والعسكري على الواقع الميداني والمواقف الدولية، فقرار المجموعات المسلحة فتح جبهات جديدة هنا وهناك، وإطلاق الجيش السوري عمليات عسكرية، كلها تطورات ذات تكلفة مالية كما هو الحال مع تكلفتها البشرية. وأهمية مقاربتها إحصائياً لا تتعلق فقط بتحديد نسبة ما تمثّله من إجمالي الخسائر الاقتصادية المترتبة على هذه الحرب، بل بإثارتها لمسألة مصادر التمويل وقنواته، ولا سيما لجهة الدول الإقليمية والغربية.
لكن في ظل الغموض الذي يكتنف أدوار بعض الدول، ودرجة تورطها في الأزمة السورية، وتعدد مرجعيات وخطوط إمداد المجموعات المسلحة والتنظيمات التكفيرية، فإن الحديث عن أرقام ثابتة لحجم المبالغ المخصصة لتوريد السلاح والذخائر يبدو حالياً صعباً، الأمر الذي يجعل من جميع الأرقام المتعلقة بهذا الملف مجرد تقديرات، ترتبط دقتها وموضوعيتها بالجهة المعدة لها، إنما ذلك لا ينال من أهميتها في محاولة تحديد ملامح لهذا الإنفاق، الذي كان يمكن أن يكون فعالاً في صناعة السلام، عوضاً عن إسهامه في تذخير بنادق السوريين ضد بعضهم بعضا.
يذهب كثيرون إلى القول إن الحرب أسهمت على نحو واضح في «عسكرة» الاقتصاد السوري الرسمي وغير الرسمي، إن كان ذلك عبر اضطرار الحكومة تحت ضغط الأوضاع الأمنية إلى زيادة اعتمادات المؤسسة العسكرية لتوفير ما تحتاج إليه في حربها ضد المجموعات المسلحة، وهذا أمر تؤكده تصريحات المسؤولين الحكوميين، أو من خلال استنزاف المجموعات المسلحة والتنظيمات التكفيرية لموارد المناطق الخاضعة لسيطرتها، وإطلاقها لأنشطة اقتصادية غير مشروعة مرتبطة بالعنف بغية تمويل عملياتها، وجمع ثروات كبيرة كما حدث في المنطقتين الشمالية والشرقية.
في تقريره «الاغتراب والعنف» يؤكد «المركز السوري لبحوث السياسات» أن «الزيادة الاستثنائية في النفقات العسكرية الرسمية تعد جزءاً من الخسارة الاقتصادية، بما أنها تعيد تخصيص جزء من موارد الموازنة التي كانت تنفق في الخدمات العامّة، بما في ذلك التعليم، والصحة، والرفاهية الاجتماعية، إلى إنفاقها على السلاح والأمن. علاوة على ذلك، وبما أن الزيادة في النفقات العسكرية والتصنيع العسكري تُعامل عموماً على أنها بنود من خارج الموازنة، فإنها لا تدخل في احتساب خسارة الناتج المحلي الإجمالي. وبما أن البيانات الشفافة غير متوافرة، فمن الصعوبة بمكان تقدير مدى الزيادة في حساب النفقات العسكرية». لكن المركز يعود ليبيّن أنه «بالاعتماد على الأدلة التطبيقية المقارنة من دول أخرى، فإن الإسقاطات تشير إلى أن النفقات العسكرية من خارج الموازنة في سوريا ازدادت سنوياً خلال الأزمة بما يعادل 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي في 2011، و11% عام 2012، و16.2% عام 2013، و13.2% عام 2014». وبناء على هذه النسب يقدّر المركز حجم الزيادة في النفقات العسكرية منذ بداية الأزمة ولنهاية عام 2014 بنحو 10.9 مليارات دولار.
مثل هذه التقديرات، بغض النظر عن مدى دقتها وقربها من الواقع، لا تتوافر عند محاولة رصد تكلفة ما تستهلكه المجموعات المسلحة والتنظيمات التكفيرية من سلاح وذخائر لعدة أسباب منها:
ــ تعدد وتنوّع الجهات المحلية والإقليمية والدولية الممولة لصفقات تزويد المجموعات المسلحة بالسلاح، فهناك اليوم على الخارطة الإقليمية والدولية دول تجاهر علانية بذلك بحجة مناصرتها لـ«الثورة»، وأخرى تفعل ذلك من خلف الستار، فيما تغض دول ثالثة الطرف عن نشاط منظمات وفعاليات اقتصادية مؤسساتية وشخصية تمارس عملية التمويل وإرسال السلاح.
وهنا يجب التمييز بين إجمالي التمويل الخارجي للمجموعات المسلحة، الذي يمثل وفق المعلومات المتداولة غربياً أرقاماً مخيفة، والتمويل المخصص لشراء الأسلحة وشحنها للداخل السوري.
ــ اتساع سوق السلاح في المنطقة، الذي أصبح يوفر السلاح لشريحة واسعة من الأشخاص على نحو فردي ومباشر، ويمكن الاستدلال على فعالية هذا السوق من خلال الارتفاع الهائل في أسعار الأسلحة والذخائر من جهة، ونسبة عمليات تهريب السلاح إلى إجمالي عمليات التهريب بين دول المنطقة، وتحديداً تلك المتجهة نحو سوريا من جهة ثانية.
ــ ضبابية المعلومات المتعلقة بالنسبة التي يمثلها السلاح المستولى عليه من بعض المواقع العسكرية إلى إجمالي السلاح الذي تستخدمه المجموعات المسلحة. ففي الوقت الذي تدعي فيه كثير من المجموعات المسلحة أن معظم سلاحها هو من المستولى عليه من بعض المواقع العسكرية، تؤكد المعلومات وعمليات الاستقصاء الغربية أنه ولأسباب قانونية وسياسية، فقد حرصت الدول الممولة على توريد سلاح مشابه في النوع والمنشأ للسلاح الذي تستخدمه وحدات الجيش السوري، تجنباً لأي ملاحقة أو مساءلة قانونية دولية قد تحدث أو لا تحدث مستقبلاً.
إلا أن العميد المتقاعد محمد عيسى يحدّد ثلاثة مصادر رئيسية لتمويل المجموعات المسلحة إلى جانب مصادر أخرى خفية، ووفق ما أوضح لـ«الأخبار» فإن المساعدات المباشرة التي تقدمها دول الخليج (السعودية ــ قطر ــ الكويت) والبالغة قيمتها نحو 11 مليار دولار قائمة المصادر وإن كانت تتدفق تحت لافتة دعم الشعب السوري، أما المصدر الثاني فهو ما يتحصل عليه تنظيم «داعش» من بيع النفط والغاز في سوريا والعراق، والتقديرات تقول ببيعه نحو 100 ألف برميل بقيمة يومية تراوح ما بين2-3 ملايين دولار، وثالثاً هناك أموال الزكاة المتحصلة في دول الخليج خاصة والدول الإسلامية عموماً.
في الخفاء هناك مصادر أخرى وفّرت للمسلحين والتكفيريين الإمكانات المالية اللازمة، وبحسب عيسى فإن هناك مصدرين، الأول الأموال التي بحوزة التنظيم الذي يقوده عزت الدوري، التي ساندت تنظيم «داعش» الإرهابي بحكم التحالف القائم بين الجانبين، والثاني يتمثل في التمويل الاستخباري الذي تقدمه دول كتركيا، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا... الخ، وهي تحويلات غير منظورة. وهناك مصادر أخرى كالعائدات المتأتية من تجارة المخدرات، والمتاجرة بالأعضاء البشرية وبالبشر، والخطف مقابل الفدية، وسرقة ونهب المنشآت العامة والخاصة... وغيرها.
على أرض الواقع، وإن كان هناك تفوق كمي ونوعي للجيش السوري، إلا أن ذلك لا يقلل من حجم السلاح الموجود لدى الطرف ال’خر، ووفقاً لما يقوله ضابط ميداني فإن هناك «كما هائلا من السلاح بين أيدي المجموعات المسلحة، وهذا يمكن الاستدلال عليه من خلال طريقة تعامل هؤلاء مع السلاح، فمثلاً يلاحظ أن الهدف الذي يمكن أن يستهدفه أحد الجنود بقذيفة صاروخية واحدة، يطلق عليه المسلح عدة قذائف... ليس لأنه غير مدرب، وإنما نتيجة سهولة حصوله على الذخائر، وتوافرها على نحو يدفعه نحو الاستهلاك غير المدروس».
الأمر الآخر الذي يؤكد حجم الأموال الهائلة المرصودة لتوريد السلاح إلى سوريا، يتمثل في نوعية هذا السلاح، سواء كان فردياً أو متوسطاً أو ثقيلاً، ففي البداية كان البارز هو الضخ الكمي للسلاح الفردي، وتدريجياً بدأ السلاح النوعي والثقيل بمختلف مستوياته يتصدر اهتمامات «التسليح الخارجي» المدعوم بقرارات من الجامعة العربية وبعض الدول الغربية.
مهما كانت التقديرات حول الأموال التي جرى ضخها لتأجيج الأوضاع في سوريا، فإنها باتفاق كثير من السوريين حرمت البلاد تحقيق المزيد من التقدم في سلم المؤشرات التنموية، والأهم أنها كانت كافية لصناعة السلام والاستقرار في هذا البلد... وفي بلدان عربية أخرى، عوضاً عن إزهاق أرواح آلاف السوريين، وتخريب وتدمير عدد هائل من الممتلكات العامة والخاصة، لا بل إنها كانت على حساب مساعدات الإغاثة التي يحتاج إليها السوريون المتضررون، فمثلاً ما تخصصه دول الخليج لمساعدات الإغاثة سنوياً قد لا تتعدى قيمته ما تخصصه هذه الدول للمسلحين عندما يجري توجيههم لفتح جبهة جديدة.
500 طن ذخيرة
تكشف حدة المعارك في كثير من المناطق، وعمرها الزمني الطويل، عن استهلاك ضخم للسلاح والذخائر على يد المجموعات المسلحة، فعندما تحتاج منطقة كالمليحة من الجيش السوري إلى نحو 130 يوماً للسيطرة عليها، فهذا يؤشر إلى عدة استنتاجات، أبرزها مخازن السلاح الكبيرة التي وفرت للمسلحين هذه المواجهة الطويلة، وهذا حال كثير من المناطق التي دخلها الجيش أو التي لا تزال تحت سيطرة المجموعات المسلحة كمناطق جوبر والمليحة وكسب ومورك والمنطقة الجنوبية... وكذلك الأمر بالنسبة للمعارك والعمليات التي تطلقها المجموعات المسلحة والتكفيرية كهجوم تنظيم «داعش» على مدينة عين العرب، الذي استمر عدة أسابيع، وهجوم «جبهة النصرة» وشقيقاتها أخيراً على مدينة إدلب، وهو هجوم قاده وسانده أكثر من 10 الاف مسلح وفق بعض التقديرات، وإذا جرى عكس هذا الرقم على متوسط عدد الطلقات التي يستهلكها المقاتل في المعركة، والبالغ وفق تقديرات ضابط ميداني بنحو 4-5 آلاف طلقة، وسعر الطلقة المقدر بنحو 125 ليرة فقط، فهذا يعني أن الهجوم على إدلب استهلك من مقاتلي «النصرة» أكثر من 3 مليارات ليرة أو ما يعادل 12 مليون دولار ثمناً لطلقات البنادق فقط، وهذا ما تؤكده المعلومات التي نشرت مؤخراً، ونسبت إلى جهات أُطلق عليها «القيادات العسكرية في المعارضة»، وجاء فيها أنه في معركة السيطرة على مدينة إدلب استخدمت المجموعات المسلحة نحو 500 طن من الذخيرة، فضلاً عن صواريخ «تاو» الأمريكية التي كانت بالمئات، ويتراوح سعر الواحد منها ما بين 11-20 ألف دولار
زياد غصن
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد