ثلاثون عاماً من «الساداتية» العلنية والسرية

20-04-2007

ثلاثون عاماً من «الساداتية» العلنية والسرية

بعد ثلاثين سنة إلا بضعة اشهر على رحلة الرئيس انور السادات الى القدس التي استتبعت مقاطعة عربية شاملة لمصر يتأهب العرب بشبه اجماع لتكريس «كامب ديفيد» واوسلو ووادي عربة نهجاً نهائياً في التعامل مع اسرائيل تحت شعار تفعيل مبادرة السلام العربية وتنفيذ قرارات قمة الرياض. والمسألة تبدو وكأنها القاء للسلاح من طرف واحد بعد ستين عاماً من الصراع, واعلاناً صريحاً عن انتهاء النزاع, واضفاء مشروعية كاملة على كل الاتصالات السرية والعلنية مع اسرائيل استعداداً للتطبيع الكامل على كل المستويات.

ايهود اولمرت يقول ان حرب تموز 2006 ساعدت على مزيد من التقارب بين اسرائيل ومعسكر المعتدلين العرب, وصحيفة «هآرتس» الاسرائيلية تقول ان المبادرة العربية فرصة ذهبية لاسرائيل واختراق للآفاق السياسية المسدودة وتعويض عن الهزيمة العسكرية الاخيرة, لكن اللجنة الوزارية العربية لتفعيل «المبادرة» التي اجتمعت في القاهرة قبل ايام قررت ان عزم العرب على إقامة سلام عادل وشامل وانهاء النزاع العربي ­ الاسرائيلي «فرصة تاريخية» لاقامة مفاوضات مباشرة والتوصل الى حل نهائي.
والقراءة الهادئة في «المبادرة» وآليات تفعيلها تكشف عن مجموعة حقائق كبيرة لعل ابرزها:
­ ان الولايات المتحدة لم تكن يوماً راغبة في حرمان اسرائيل المكتسبات الاستراتيجية التي حققتها في الاراضي المحتلة ولم تكن يوماً وسيطاً نزيهاً في الصراع بل طرفاً معادياً ومنحازاً. ومن شأن تحريك المبادرة من جانب العرب فتح باب المناورة امام تعديل وتكييف بنودها في ما يتعلق بحق العودة والقدس والحدود والأمن الاسرائيلي بحجج انتزاع الموافقة الاسرائيلية على مشروع السلام, الامر الذي يحرم «المعتدلين العرب» من آخر اوراقهم, ويعطي اسرائيل فرصاً جديدة لتحقيق مطامعها في الارض والمقدسات.
­ ان العلاقة بين العرب المتهافتين على السلام والولايات المتحدة لا تخضع لقاعدة الندية والمصالح المشتركة, وانما لتحالف عضوي ثابت من صنع واشنطن. فالعرب المعتدلون يستمدون أمن انظمتهم من الحماية الاميركية والرضى الاميركي, مع عدم إغفال التأثير الاسرائيلي في هذه المعادلة, وواشنطن تعوَّل عليهم كمرتكز لنفوذها في المنطقة, واي تعديل على بنود «المبادرة» وارد استجابة للضغوط الاميركية, وطبيعة المطالب التي حملتها كوندوليزا رايس الى حكام المنطقة قبل انعقاد القمة التاسعة عشرة في الرياض دليل ساطع على ذلك.
­ ان العرب يبدون متلهفين لتسويق ما يطرحون من افكار وقد قرروا تشكيل وفد وزاري يضم الاردن, السعودية, مصر, سوريا, فلسطين, قطر, المغرب ولبنان, والامين العام للجامعة العربية, وترتيب سلسلة من اللقاءات والاجتماعات الجماعية او الفردية مع الامين العام للأمم المتحدة واعضاء مجلس الأمن واللجنة الرباعية الدولية والاتحاد الاوروبي والبرلمان الاوروبي والاتحاد الافريقي ومنظمة الدول الاميركية ومنظمة المؤتمر الاسلامي وحركة عدم الانحياز واليابان والنروج... تنفيذاً لقرار قمة الرياض الرقم 367, على ان تتولى مصر والاردن تسهيل بدء المفاوضات المباشرة مع اسرائيل. هذا التلهف الذي يذهب الى حد الالتزام المسبق بتشكيل فريق عمل موسع للاتصال المباشر بالحكومة الاسرائيلية, يتجاهل مجموعة معطيات لعل ابرزها ان ايهود اولمرت بات ضعيفاً للغاية بعد تسعة اشهر على هزيمة تموز /يوليو, وهو عاجز عن التورط في اتخاذ قرارات استراتيجية. كما يتجاهل ان اسرائيل ليست مستعجلة على «السلام العربي» لأنها تقيم علاقات سرية وعلنية مع معظم الدول العربية من دون مقابل, ثم انها تملك ميزان قوى متفوقاً وقوة نووية يفتقدها العرب وهي ليست مضطرة لدفع فاتورة السلام كما يراها الطرف العربي. ثم ان الولايات المتحدة واسرائيل تدركان جيداً ان خيار العرب الاستراتيجي الجديد نابع من عجز ووهن وليس من قوة او ارادة قومية جامعة وان الوضع العربي المزري اضعف من القدرة على ردع اسرائيل او ارغامها على القبول بأي مبادرة. بكلام آخر ان التسول العربي للسلام يحرم العرب من فرصة التفاوض الحقيقي من موقع متكافئ او متكافئ نسبياً في الحد الادنى من التكافؤ.
­ ان الترحيب الاميركي بطرح المبادرة وتفعيلها يثير الكثير من الريبة, وكذلك تصريحات ايهود اولمرت القائلة بأن «المبادرة تعبير عن تغيير ثوري في الموقف العربي من اسرائيل», وقد سبق لارييل شارون ان صرّح في العام 2002 بأن هذه المبادرة لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به.
ماذا يعني هذا كله؟
انه يعني بوضوح كامل ان هناك خطة اميركية لتوسيط المعتدلين العرب في فتح باب التطبيع مسبقاً مع اسرائيل بذريعة كسر الحاجز النفسي واعداد اسرائيل من الداخل لمشروع السلام, ومنحها الأمان في المنطقة كي تقدم على هذا السلام, وقد يقترن ذلك باستدراج زعماء عرب لا يقيمون علاقات دبلوماسية مكشوفة مع اسرائيل للقيام بزيارات شخصية في ما يشبه بيع القضية التاريخية مجاناً. هذا التوجه لا يأخذ بعين الاعتبار ان حق العودة عقبة اساسية امام السلام المنشود, وان اصرار اسرائيل على القدس الموحدة عاصمة أبدية وعلى كل مكتسباتها في القدس وما حولها من مستوطنات واضح جداً, وان اسرائيل لا تنوي العودة الى خط الرابع من حزيران /يونيو/ 1967 بل تطالب بتعديلات واسعة على الحدود بحجة توفير حدود آمنة, كما تطالب باستبدال بعض الاراضي خصوصاً في «منطقة المثلث» للتخلص من زخم سكانها العرب, ثم ان الجدار قابل للتحرك والالتفاف طبقاً لنقاط التعديل التي سترسو عليها المفاوضات. وهكذا يكون «السلام العربي» والتطبيع الشامل مرادفين لانهاء حالة الحرب بين اسرائيل والفلسطينيين من جهة, وبينها وبين العرب جميعاً والمسلمين جميعاً من جهة اخرى على قاعدة واضحة هي «الارض في مقابل السلام» لكن الارض خاضعة للأخذ والرد والمساومات المفتوحة.
وفي تقدير العارفين ان التعقيدات المتعلقة بارساء مثل هذا السلام كثيرة, منها مصادر مياه الشرب والري وهي وحدها كفيلة بتفجير حروب جديدة, فضلاً عن السيادة على المعابر والاجواء والحدود والاغوار والمبالغة في المطالبة. بـ«ضمانات دولية» لابتزاز الدول الكبرى المعنية وتأجيل البحث في ملف العودة. وقد يتبلور طرح اميركي ­ اسرائيلي جديد يقول بتأجيل البت في قضية القدس وقضية اللاجئين الى موعد لاحق بحيث يتكرر الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الفلسطينيون في اوسلو, وهو خطأ أعفى الاسرائيليين من التزاماتهم المعلنة في موضوع الدولة الفلسطينية ونسف كل المواعيد والوعود المتعلقة بالكيان الفلسطيني.
وباختصار ان طرح تفعيل المبادرة العربية في ظل الظروف الكئيبة التي يعيشها العرب يبدو في غير مكانه وزمانه لأن العرب مجتمعين ومنفردين لا يملكون القوة التفاوضية اللازمة, وهم لم يملكوا منذ بدء الصراع قراراً مستقلاً يفرض آلية تنفيذ قرارات الامم المتحدة والشرعية الدولية بدءاً بالقرارين 181 و194 وانتهاء بالـ 242 والـ273 والـ 383, وكل حلول ممكنة تبدو منذ الآن حلولاً دولية تواطئية على حقوق الفلسطينيين التاريخية, وكل مفاوضات ممكنة تبدو تكراراً لمأساة اوسلو. والمشكلة في النهاية هي ان اسرائيل ترفض الاقرار بحق العودة لأنها تريد نفسها وطناً قومياً لليهود, استناداً الى وعد الهي في ارض الميعاد الخالية من السكان, واخطر ما في المسألة الادعاء الاسرائيلي بأن الخطر الحقيقي الذي يتهددها بمرور الزمن هو الخطر الديموغرافي الفلسطيني على هويتها ووجودها, وهي تملك اوراقاً اخرى تحتفظ بها لمرحلة التفاوض النهائي وسوف تطرحها للرد على المطالبة بحق العودة. اهم هذه الاوراق إثارة ملف التعويض عن املاك اليهود العرب الذين هجروا اوطانهم «قسراً», وهي مسألة اطلقها موشي دايان صبيحة يوم 7/6/1967 عندما دخل القدس محتلاً إذ قال «ها نحن قد عدنا الى القدس وبقي ان نعود الى املاكنا في يثرب».
في ظل هذه المعطيات يمكن القول ان مؤتمرات القمة العربية, الواحد تلو الآخر, كانت محطات تاريخية للهزيمة التي شكلت العنوان الدائم في الحروب العربية ­ الاسرائيلية. ومنذ مؤتمر الخرطوم الذي انعقد في 28/8/ 1967 لمعالجة آثار هذه الهزيمة كان العرب قد قرروا سراً التفاوض حتى في ظل اللاءات الشهيرة. وبعدما وقعت مصر اتفاقية فك الاشتباك 18/1/1974 ووقعت سوريا اتفاقية مشابهة 13/5/1974/ وجد الفلسطينيون انفسهم في متاهة خارج خطوط الحرب والسلام, فجاء مؤتمر الرباط يعترف بأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وترك الفلسطينيين يقلعون اشواكهم بأيديهم. وبعد سنين من النضال والمقاومة بدأت القيادة الفلسطينية التأقلم مع الشروط الاميركية والاسرائيلية ودخلت في مفاوضات الحل السلمي. في 13/9/1993 تبادلت المنظمة الاعتراف مع اسرائيل وصولا الى توقيع اتفاقات «اوسلو ­ 2» في 28/9/1995, ونظراً لتمادي العجز العربي عن المواجهة حصل ما حصل في الاراضي الفلسطينية المحتلة التي تعاني اليوم من الحصار والتجويع والانقسامات الداخلية وما يشبه الدوران في الحلقة المفرغة.
بقية القصة معروفة بدءاً بقمة بيروت, مروراً باتفاق مكة, وصولاً الى قمة الرياض التي كلفت لجنة عربية تسويق مبادرة السلام على اساس ان الفلسطينيين «توحدوا» في السعي من اجل هذا «السلام». لكن حركة السلام العربية سوف تظل بطيئة في ضوء الخلل الدائم في توازن القوى وقطار السلام العربي الذي لم يهتد بعد الى مساره خلال السنوات الخمس الاخيرة, لا يزال عرضة للتوقف في اول الطريق بالرغم من اصرار العرب على القول بأن الفرصة تاريخية وان السلام خيارهم الاستراتيجي.
وباختصار يمكن القول ان عدد الساداتيين الطامحين الى زيارة اسرائيل تضاعف مرات عدة خلال الثلاثين سنة الاخيرة, ويمكن الاستدلال على ذلك من قرارات اجتماع الـ13 الاخير في القاهرة التي تأتي بعد شهر على انعقاد قمة الرياض وخمس سنوات على إطلاق مشروع السلام السعودي العربي في قمة بيروت, وكل ما وفرته وسائل الاعلام السعودية من تمويل وترويج لانجازات القمة التاسعة عشرة, في الصحف والمجلات وعلى الشاشات الفضائية الخليجية والمصرية والاردنية من اجل تصوير المؤتمر وكأنه اكثر القمم العربية جدية وتميزاً, لا يقدم ولا يؤخر في هذه الحقيقة. اما تكليف لجنة لتسويق السلام العربي فلا يعدو كونه نوعاً من الاستجداء المذل في زمن الهزيمة العربية. وليس سراً ان كل القمم العربية من أنشاص الى الرياض إذا استثنينا قمتي الخرطوم 1968 وبغداد 1981 كانت مسلسلاً من العجز والتراجع, وان قمة الرياض الاخيرة توجت هذا المسلسل بوضوح كامل. ومعروف ان قمة الخرطوم مثلت خروجاً على القاعدة باتخاذها قرار «اللاءات» الرافضة للصلح والاعتراف والتبادل, بدفع من مصر جمال عبد الناصر رداً على هزيمة حزيران يونيو 1967, وان قمة بغداد مثلت الاستثناء الثاني في اتخاذ القرار الحاسم بمحاسبة مَنْ خرج على هذه اللاءات عندما قررت مقاطعة السادات وعدم الاعتراف بـ«كامب ديفيد» ومفاعيله, ونقلت مقر الجامعة العربية الى تونس, مع التأكيد على ضرورة التمييز بين مصر الرسمية ومصر الشعب. يومذاك كان ذلك بدفع من عراق صدام حسين ومعسكر «الصمود والتصدي» العربي الذي نشأ بعد الرحلة الساداتية.
والقمة العربية الأخيرة وما تلاها من قرارات على مستوى اللجنة العربية للمبادرة تشكل التزاماً عربياً واضحاً ­ ومن طرف واحد ­ بالذهاب الى اسرائيل, أياً كانت الظروف والملابسات التي تحيط بها الخطوة, والتزاماً آخر باتخاذ الاجراءات اللازمة لبناء الثقة, الامر الذي يمنح المهرولين الى التطبيع شيكاً على بياض للمرحلة المقبلة.
يبقى سؤال مزدوج: كيف تنظر واشنطن الى المبادرة العربية؟ وما هي القراءة الاسرائيلية المعلنة في التحرك العربي الجديد؟
الجواب الممكن حتى الآن هو ان كوندوليزا رايس التي تحضر الى المنطقة مرة كل اربعة او خمسة اسابيع من اجل الدفع بالتسوية السلمية, ليست بعيدة عن التحرك العربي الاخير, علماً انها اعلنت غير مرة ان معسكر الاعتدال العربي يفترض ان يتوحد في وجه «الخطر الايراني», وكل شيء يدل على ان الادارة الاميركية الحالية تدرك اكثر من السابق ان القضية الفلسطينية قضية محورية في مشروع إعادة هيكلة الشرق الاوسط, وما يواكبه من حرب على «الارهاب», وان كل تدهور في اوضاع الفلسطينيين ينعكس سلباً على المصالح الاميركية, وان كل خطأ يرتكب في فلسطين له تداعياته المباشرة على المشروع الاميركي ككل.
ومراجعة استطلاعات الرأي الاخيرة في اسرائيل تكشف ان 46 بالمئة من اليهود يعتبرون المبادرة العربية اساساً صالحاً للتفاوض حول السلام فيما يقول عدد مماثل من المستطلعين ان على اسرائيل ان ترفضها فوراً. وتحليلات الصحف الاسرائيلية التي تناولت الموضوع تتلاقى على ان الطرح العربي «فرصة ذهبية» لاسرائيل من اجل فتح صفحة جديدة مع العالم العربي, وفي هذه الصحف كلام كثير عن ضرورة اغتنام الفرصة لاجراء مفاوضات مباشرة على مختلف المسارات, وضرورة عقد لقاء اقليمي بمشاركة اسرائيل واللجنة الرباعية الدولية والرباعية العربية السعودية, مصر, الاردن والامارات بالاضافة الى السلطة الفلسطينية وبعثة من الجامعة العربية من اجل التمهيد للتفاوض.
انها البداية في مشروع حوار مباشر يقود الى توسيع دائرة التطبيع, وهو مشروع تدعمه واشنطن بقوة لأغراض استراتيجية في المنطقة, ومن السابق لأوانه التكهن بانطلاقته ولو ان قطار السلام العربي لا يزال في محطة التشكيك.
 

 

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...