الهدنة السورية تفشل.. والمعارك تشتعل
لم تحظَ الهدنة السورية، منذ سريانها في شباط الماضي، بأية إدارة جادّة تسعى إلى ضبط التجاوزات ومحاسبة المسؤولين عن الخروق، فكان أن أدّى تراكم الخروق وانتقالها من مستويات صغيرة إلى مستويات أكثر اتساعاً وخطورةً، إلى تلاشي الهدنة نهائياً وعودة التصعيد العسكري إلى سابق عهده على مختلف جبهات القتال التقليدية.
وأصبح من المتعذِّر وسط جبل الخروق الذي ارتفع على سطح الهدنة أن يجري البحث عن توزيع المسؤوليات بين الأطراف المختلفة. كما تضاءلت الآمال بإمكان إعادة فرض الهدنة من جديد، خصوصاً في ظل التعثر الذي يواكب محادثات جنيف وانعكاس ذلك على الميدان بالضرورة.
وثمّة تساؤل بات مشروعاً يتعلق بمدى التزام ثنائي التفاهمات الروسي ـ الأميركي بمبدأ الهدنة ومدى حرصه على فرضها على الأطراف كافة، لأن الصمت المطبق حيال الخروق الواسعة التي تنتهك الهدنة إما أنه دليل على رفع الطرفين، أو أحدهما، الغطاء عن الهدنة، أو أنهما باتا عاجزَين عن إلزام الأطراف بها.
وقد سبق لموسكو أن أعربت عن تذمّرها من الرفض الأميركي للتوصل إلى اتفاق لضبط الهدنة، والرد على الطرف المسؤول عن خرقها، حتى أن روسيا هدّدت صراحة بأنها ستلجأ إلى الرد على الخروق من طرف واحد. كما طلبت واشنطن من موسكو ضرورة الضغط على النظام السوري لإيقاف خروقه للهدنة. وكانت محصلة ذلك أن الخروق استمرت، حتى أصبحت الهدنة غير ظاهرة لكثرتها، وأصبح مجرد الحديث عن وجودها يستدعي السخرية.
وقد سرت الهدنة منذ يوم السبت في 27 شباط الماضي، ونصت في ما نصت عليه على «التزام الأطراف، باستثناء جبهة النصرة وداعش بوقف العمليات العدائية وعدم محاولة السيطرة على مناطق جديدة، وفي حال تعرّضها لهجوم تستخدم فقط قوة متناسبة للرد». كما نص اتفاق الهدنة في الفقرة (د) على «إحالة السلوك غير الممتثل على نحو مستمر من قبل أي من الأطراف إلى وزراء المجموعة الدولية لدعم سوريا لتحديد الإجراء المناسب، بما في ذلك استثناء هذه الأطراف من ترتيبات وقف الأعمال العدائية، وما توفره لها من حماية».
لكن هذه البنود بقيت حبراً على ورق، أما على أرض الواقع، فكانت الأمور مختلفة تماماً. فلا دور لوزراء المجموعة الدولية لدعم سوريا في دراسة الخروق وكيفية الردّ عليها، مع غياب كامل للضوابط التي تحدد ماهية الخروق وطبيعة «الرد المتناسب»، الأمر الذي أدّى إلى ذوبان الهدنة بفعل حرارة التصعيد العسكري غير المسيطر عليه. ومع ذلك بقيت فائدة الهدنة الوحيدة أنها تحولت إلى ذريعة لشن هجمات جديدة بحجة الرد على خرقها.
وفي تصعيد جديد من شأنه إسقاط ورقة التوت الأخيرة عن الهدنة، أطلقت مجموعة من الفصائل المسلحة، صباح أمس، معركة جديدة امتدت من جبلي الأكراد والتركمان في ريف اللاذقية إلى سهل الغاب في ريف حماه الغربي.
ولم يكن مستغرباً أن يبرر البيان رقم (1) إطلاق هذه المعركة بأنه جاء «ردّاً على الانتهاكات والخروق من قبل جيش الأسد». وأعلن البيان تشكيل «غرفة عمليات رد المظالم» من اجتماع حوالي عشرة فصائل، أهمها «أحرار الشام» و «جيش النصر» و «جيش العزة» فيما اختفى اسم «جبهة النصرة» و «جند الأقصى» و «التركستانيين»، برغم قيامها بالدور الأكبر في هذه المعركة.
وفي مفارقة واضحة، فإن المعركة التي أريد لها أن تكون رداً على «المظالم» والحفاظ على «ثوابت الثورة»، استُهلّت بقيام انتحاريين من «جند الأقصى»، أحدهما سعودي الجنسية يُدعى أبو مصعب الجزراوي، والثاني تركستاني اسمه ابن حسين التركستاني بتفجير نفسيهما بعربتين مفخختين في سهل الغاب. وهو ما يطرح أمرين جوهريين، الأول يتعلق بدور المقاتلين الأجانب في ساحات القتال وعلاقتهم بتسخين الجبهات لإفشال الهدنة، خصوصاً أن موضوعهم يشكل أحد أبرز العوائق التي تواجه العملية السياسية، والثاني يتعلق بالعلاقة التي تربط بين «وفد الرياض» مع جماعات متهمة بقربها من تنظيم «داعش»، مثل «جند الأقصى»، إذ من اللافت أن تأتي الهجمات المنسقة بعد ساعات فقط من مطالبة رئيس «وفد الرياض» أسعد الزعبي بالردّ على أي صاروخ من الجيش السوري بعشرات الصواريخ، وكذلك بعد تهديد كبير المفاوضين محمد علوش بإشعال الجبهات.
وهذا التنسيق العملياتي بين فصائل محسوبة على «وفد الرياض» وبين فصائل متهمة من قبل المعارضة نفسها بالولاء لتنظيم «داعش» من جهة، وبينها وبين «جبهة النصرة» و«التركستانيين»، وهي مستثناة من الهدنة، من جهة ثانية، يُعد انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن بخصوص تصنيف «داعش» و «جبهة النصرة» كتنظيمات إرهابية لا يجوز التحالف معها، وكذلك انتهاكاً لاتفاق الهدنة الذي أوجب على «مجموعة عمل وقف إطلاق النار» أن تقوم بـ «تحديد الأراضي الواقعة تحت سيطرة داعش وجبهة النصرة وأي منظمات أخرى يعتبرها مجلس الأمن إرهابية». لكن هذا البند كان مصيره مثل مصير تكليف الأردن بوضع قائمة المنظمات الإرهابية، والذي أدّى تجاوزه وعدم الإصرار عليه، إلى اختلاط الحابل بالنابل وفقدان القدرة على التحكم بتطورات الساحة السورية ووضعها على طريق الحل.
ميدانياً، أعقب التفجير الانتحاري الأول الذي نفّذه الجزراوي هجوم مجموعات «اقتحاميين» على بلدة خربة الناقوس، التي اضطرت وحدات الجيش للانسحاب منها بهدف تشكيل جدار ناري لمنع تقدّم المسلحين باتجاه مناطق أكثر أهمية، لا سيما جسر الحاكورة الذي أصبح مهدداً بعد سيطرة المسلحين على تلة الدبابات ومجموعة من الحواجز المنتشرة بمحيطه، وأصبحت الاشتباكات تدور بالقرب من فرن الدخّان. وتكمن أهمية جسر الحاكورة أنه الجسر الوحيد على نهر العاصي القادر على حمل آليات ثقيلة ونقل إمدادات، وهو ما دفع المسلحين لاستهدافه بالتفجير الانتحاري الثاني الذي نفّذه التركستاني. وأشارت الأنباء الأولية إلى تدمير الجسر.
أما في ريف اللاذقية، فقد استهدفت «معركة رد المظالم» مناطق مختلفة في جبل التركمان وأخرى في جبل الأكراد، أهمها جبل القاموع وجبل القلعة وتلة الملك في محيط كنسبا، وقد أعلنت صفحات المسلحين على مواقع التواصل الاجتماعي سيطرة المهاجمين على نحشبا والمازغلي، لكن تبيّن أن الثانية لم تخرج عن سيطرة المسلحين، بينما الأولى تشهد معارك كرّ وفرّ منذ ثلاثة أسابيع. بينما تركزت المعارك في جبل التركمان على نقاط سبق أن حاول المسلحون السيطرة عليها من قبل دون جدوى، أهمها برج البيضا الذي شهد معركة عنيفة قبل أربعة أيام.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد