الموت والحداثة كما تجليّا في «مرايا فرانكنشتاين»
من دون إعلان ولا أي مانفستو، يرسم عباس بيضون في «مرايا فرانكنشتاين» (دار الساقي 2011) وببراءة لا تنطلي على أحد، منهجاً في الكتابة السردية العربية يشي بقطيعة ذات دلالة. تلك القطيعة، لم يحدثها بل بلورها وكرسها بعد أن تلقاها في شكل أو في آخر من حفنة من سابقيه، على رأسهم محمود درويش في كتاباته النثرية. فأناط بالكتابة وظيفة انثروبولوجية غير مسبوقة وحدد لها جمالية ملائمة.
لمس الكاتب بحس مرهف وثقافة عالية الرباط السري الذي يشدّها إلى الموت، قبل أن يقف المؤلف بين يديه لاحقاً. إنها مجبولة بموت عايشه منذ الطفولة. غير أن أهميتها تأتى في نظري من الوعي الذي أحدثته معايشة الموت فجعله يعيد صوغ رؤيته لحياته الفردية وللإنسان في وجوده ومحدوديته، وتالياً لمشروعه الكتابي، أي معنى أن تكتب في هذا العصر العربي المتردد بين أحلام المشاريع الجمعية بكل نبلها وبين محاولة أن تحيا حياتك الفردية، وهي بطبيعتها فريدة فذة في عظمتها وبؤسها، فرادة حياة كل فرد آخر (...).
يساور الموت بكل وجوهه هذا الكتاب من الدفة إلى الدفة. لا يهجس المؤلف به هلعاً ولا ولعاً، بل باعتباره تتويجاً للحياة وجزءاً لا يتجزأ منه، فاختار اللحظة التي تليه موقعاً لعملية الكتابة. فعنده أن الكتابة لا تستوي فعلاً إلا إذا استوعبت الموت فتأملت الحياة من خارجها وفي كليتها حين تكتمل بالموت، أو بتعبير آخر لا يخلو من المفارقة: كتب ميتاً. ومن يكتب ميتاً يتحرر من وزر الموت نفسه.
منذ الصفحة الأولى من «مرايا فرانكشتاين» ترتطم بالموت يتواثب في وجهك ويساورك من كل جانب: كلاب هائمة مسمومة مقضيٌ عليها بالنفاق في ما يشبه «احتفال» طقوسي «لا ينقصه الطبل والضرب على الأواني المعدنية»، فيما يحكم على مأواها المفترض - ذلك «الحرش» الذي تتقاسمه مع البغايا، كما تشاء الرواية - بالاندثار. اغتيال معنوي يمارسه أهل المدينة ضد أهل الريف، «أصحاب العُقُل المتجولين». وابتداءً من المقطع الثاني تتلألأ مرايا الموت في جسد الراوي. صوت ينكره صاحبه، وهيئة صبوح تُمسخ في المراهقة إذ «طال الوجه حتى غدا كالحذاء وتضخم الأنف وقسا الشعر حتى غدا كالبلان»، حتى توهم الراوي أنه خلق من ذاته فرانكنشتاين ليرعبها. وتتغلغل أوجه الموت في الـ «أنا»، إذ طغى «التمَديُن» فنبذ أهل «النضج والتعقل» إيقاع الحياة التقليدية بأعيادها وأعراسها وموالدها، ولجأوا إلى «حياة بديلة» عنوانها سهرات رأس السنة، حيث «تعمم حق الخيانة» الزوجية، فانقلب الليل مسرحاً للحياة والنهار فراغاً مملاً. والتمدين يقتضي التحرر الجنسي اذ يمارس شهوانية مباشرة - ولا ضير من الحجاب ولا عليه - حتى بين ذوي الرحم الواحد. ويقوم الأرق ملاذاً للتفكير في مواجهة الموت، ملاذاً يوفر متعة حقيقية، متعة ممزوجة برعب يتزايد عند بزوغ النهار: «هذه ساعة أخافها كما يخافها مصاصو الدماء، أجد نفسي وحيداً للغاية فيها». ينجدل الموت والفكر لينشئا نسيج الحياة، متصارعين على حلبة الجسد. يعسر النطق ببعض الحروف الغريبة، ينداح الصوت نشازاً في مجامع الأصدقاء أو الرفاق، تتعثر الحركات (مفهوم «الأعثر») حتى في مناسبات الود والتأنق، تنفضح غربة الساقين تحت البنطال، ويشرد النوم من فرط «استقامة» الوعي (بل انتصابه كجلمود) بحيث لا يترك للغيبوبة مجالاً لاسترداد العافية، ويساور الجنون.
الموت، إذ يأتي لازباً ماحقاً أو يتسلل موارباً يبتسر الحياة ويسد بعض مساربها من دون أن يلغيها كلياً، الموت وما يلازمه من عنف ورعب، يسكن هذا العمل. لا يُثار بوصفه قضية انطولوجية، ولا يعالج كقضية اجتماعية، بل يقوم شاهداً وآية على وعي فردي لمسار تاريخي عنوانه الحداثة، ولموقع الجسد من الذات، وعي يعيد تشكيل الذات الفردية في مواقفها الحميمة والعامة ويفتح آفاقاً جديدة للذات المبدعة.
الموت والحداثة
يستعيض الراوي عن كلمة «حداثة»، المستهلكة من فرط ما وظفت في معارك ملتبسة، بكلمة «تمَديُن» المشتقة من وزن يحيل إلى التظاهر بأمر أو التلبس به. التمدين: الدخول في المدنية، أو بالأحرى في عالم المدينة، باقتباس مظاهرها دون جوهرها. والواقع أن الحداثة هنا هي المولد الأساسي (أو أقله الوجه الباطن) للموت. اقتباسها يقتضي القتل الفعلي (تسميم الحيوان وقطع الحرش) كما القتل المعنوي (موقف أهل المدينة من أهل الريف). وتبنّيها يفرض بتر الفرد من سياقه الريفي ودمجه قسراً في حالة مدنية متوهمة، كما يقضي بالموت على تقاليد تنظم إيقاع الحياة وتعبر عن نسغها الحي، كالأعياد الجماعية دينية كانت في الأصل أم اجتماعية. والتمرس بها يؤدي حتماً إلى قلب إيقاع الجسد المشروط بدورة الأرض حول الشمس، فيصبح الليل نهاراً مسخاً والنهار ليلاً مضاءً. فإذا بالانخراط فيها يلزمك تبني عقائد سياسية شمولية (الماركسية الفجة بدل إيمان غيبي مفروض) أو سلوكية منعتقة من أسرها ومن سياقها الإنساني، لا يبررها إلا كونها نقيضة لسلوكية الريف، شأن الموقف الجنسي المنفلت من عقاله الذي يراد له أن يقوم شاهداً على التحرر.
ثم إن علامتها الفارقة، «التعقل»، تقتضي التفكير، الذي لا ينفك الراوي يهدس بتجلياته لديه ويجهد في تحديد ظروف نشأته في الصبا الأول. ومن اللافت أن عملية التفكير تتلازم، وفق النص، مع ضروب من الهشاشة («لا أعرف متى شعرت بأنني أفكر، ولا أعرف صلة ذلك بنحولي وضعفي») والرعب، وأحياناً من الجنون تحيل إلى وجه من وجوه الموت. فكأن أول خطوة على طريق الحداثة هي أيضاً أول مناسبة للتعرف على الموت.
باستعماله مفهوم «التمَديُن»، يفصل الراوي بين مفهوم الحداثة بحد ذاته وأسلوب اقتباسه عملياً عندنا، وبذلك يعفي نفسه من نقاش نظري لا يجدي. ولكن شهادته تقوم حكماً دامغاً على ممارسة تشي بهشاشة فكر تبعي، يهرب من مطلق ديني ليرتمي في نقيضه لمجرد أنه نقيضه، فكر لا يجرؤ أن يواجه واقعه وثقافته ليرذل ما هو موات فيهما ويتخذ «العرق» الحي أساساً جديداً لبناء صلد. يخرج الاتّباعي من جلده ليدخل في جلد جاهز مسبقاً، فيجد نفسه بلا جلد وكذلك بلا لحم ودم: وجهاً لوجه مع الموت ومن دون أي سلاح. الحداثة حين لا تأتي ابتكاراً، تنيخ موتاً على الفرد والجماعة. لا حداثةَ في المطلق، الحداثة هي قدرة المرء على إطلاق طاقاته الكامنة، بالتفاعل إنسانياً مع كل أحد. وإن كان لا بد من مطلق فليكن الإنسان نفسه. ما أقرأه في هذه الشهادة دعوة ضمنية لاستئناف النهضة من موقع آخر، من موقع المكان الخاص وثقافته، ربما أسوة بما تحاوله شبيبتنا العربية في هذا الربيع الذي انبثق من قر شتاء طال، تحت راية حداثة متوهمة تبرر اغتيال الحريات وإنكار جوهر المواطنة.
أنا جسدي
من أهم ما يميز هذا النص امتلاؤه بالجسد ومسالكه. لا أخفي أنني، في قراءتي الأولى، شعرت بشيء من الحرج - لا بد متأت من خفر قد ينسب إلى تربية تقليدية - أمام ذلك الاستعراض الدقيق لتفاصيل وأحداث متصلة بالجسد تركز على هشاشة لا يباح بها عادة، فتساءلت في سر عن نفسي: ولماذا يتجشم صاحبنا ثقل هذا البوح بأمور لا مفخرة فيها ولا زاد للقارئ؟ وسرعان ما اكتشفت أن في هذا البوح الذي يتطلب نزاهة فكرية عالية يكمن الأساسي.
الجسد، إذ يتحول ويُبتذل، إذ تتعثر حركاته ويستعصي عليه التعبير عن النية المضمرة (دلق الكأس على فستان سيدة)، إلى أن يتعطل نظامه العصبي (الأرق واستعصاء النوم) فينقلب إلى تعبير بدائي وحشي (الصرخة)، الجسد هذا إنما هو الصورة الحسية عن الأزمة الفكرية الشعورية النفسية المتولدة من حداثة وحشية تقتحم الانسان فتفككه. حالة أشار إليها عبدالكبير الخطيبي في «الذاكرة الموشومة» في حديثه عن «جسد استنفد واقعه/ انسحب الواقع منه». لعلم النفس أن يحلل ويميز ما هو سوي مما هو منحرف وأن يقترح العلاج. ما يهمنا أمر آخر: الوعي بالجسد وجهاً ثانياً للروح، لا مقراً لها، ينفعل بها كما يفعل فيها، بحيث يمكنني القول: أنا جسدي.
في ثقافة فصلت انطولوجيا بين الروح والجسد، أناطت بالأول قيم السماء والفكر الثقافي، فيما تركت للثاني حق بهيمية يتوب عنها المرء حين يشاء شرط أن يسترها عن نظر الآخرين قدر المستطاع؛ في مشروع تحديثي مقتبس كما تيسر، تحتل الثقافة الذهنية فيه الحيز الشخصي والاجتماعي بأكمله من دون أن يترتب عليها أن تعيد صوغ الوعي الفردي في تصرفاته اليومية الجسدية الحسية؛ في عالم تسوده رؤية ماورائية غريبة عن مأساة الموت (فهو معبر من زمن محدود إلى آخر غير محدود) وفعل الزمن وترى إلى الجسد ثوباً ينزع وقد يستعاد... يأتي هذا النص انتفاضة ليشهد أن الإنسان بمعنى ما جسده: أنا جسدي أفيض به عني، جسدي يشكلني إذ أشكله، وروحي صورة ما عن جسدي. «التفكير لم يكن في الذهن فقط، كان يتم بالأيدي والأرجل والرأس ويتم بالمشي والركص بالتأكيد... كنت قادراً أن أفعل بالجسد شيئاً أفعله بالفكر»، يقول الراوي.
يتجاوز هذا الموقف المتجلي في نص عباس بيضون بما لا يقاس الدعوات الشائعة منذ فترة إلى التصريح بأمور الجسد، والجنس منها بخاصة. دعوات مشروعة وإن أتت غالباً في معرض استفزازي، أو بقيت شكلاً من الإيهام بالحداثة يعفي من الولوج إلى أعماقها. صحيح أن هذا النص يستعيد ليستكملها محاولات جرت على قلم سابقين، منهم صنع الله ابراهيم (تلك الرائحة، اللجنة...)، واتخذت مؤخراً «الجسد» بيرقاً ومنبراً للكتابة... غير أنه يتجاوزها بأشواط، وبذا يحكم ضمنياً، ومن دون ادّعاء أي سلطة، على هشاشة الفكر الثقافوي النهضوي، فكر لم يعرف كيف يتجسد في واقع مادي بشري ثقافي، فكر لم يتمفصل فعلاً على الجسد، الجسد الفردي كما جسد الجماعة. ليست الحداثة صورة فكر وحسب، إنها أيضاً شكل جسد يتصرف في المبتذل اليومي كما في العلاقة بالآخر - ولا سيما عندنا بالآخر المؤنث - أو في الالتزام بقضايا المجتمع كما بقضايا المصير.
جديد هذا النص أن الجسد فيه يتمفصل على الـ «أنا» الفردية ووعيها بذاتها، فيؤهل القائل أن يجابه الموت، لا كفكرة عامة، بل الموت الشخصي، فيجد السبيل إلى حياة ملأى تمثلت الموت ولا تني تجابه مأساته. المأساة! يقال إن المأساة لم تدخل في صلب الفكر العربي. بلى! كانت فاعلة في أدبنا المسمى عنوة «جاهلياً» («ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر...») قبل أن نستطيب في هذه الدنيا راحة الاتكاء على يقينيات ماورائية. وها هي تأخذ أبعادها في «مرايا فرانكنشتاين». لا أحد يصدق أن عباس بيضون خالق فرانكنشتاين أو صنيعته، ولكن الأكيد أنه وعى مأساة أن يكون هذا أو ذلك.
بطرس الحلاق
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد