المرأة السورية في التاريخ.. صورة مريم المجدلية
فايز مقدسي : تاريخيًّا، لا نعرف الكثير عن شخصية مريم المجدلية. فقط نعلم، وكما تخبرنا النصوص الإنجيلية، أنها من مدينة مجدل في فلسطين، ولذلك لقّبت بالمجدلية. ونعرف أيضًا، ولو على نحو غامض ومبهم، أنها قامت بدور كبير في حياة المسيح بعد أن تعرفت عليه، وصارت من أقرب الناس إليه، وهي تقوم بدور هام جدًا في حياة المسيح قبل وبعد موته.
وهي الشاهد الأول على قيامة المسيح من الموت بعد الصلب، كما تخبرنا الأناجيل القانونية الأربعة. ونعلم أيضًا، ولكن ليس على وجه التأكيد أنها كانت بغيًّا، وللأمر دلالته الرمزية فيما يخص صورة المرأة السماوية العذراء والزوجة، كما رأينا أثناء حديثنا عن عشتار ومن تبقى من السيدات السوريات السماويات. ولما التقى بها المسيح لأول مرة، كان اليهود يستعدّون لجلدها بتهمة الزنى. ولقد أنقذها المسيح من الجلد بعبارته الشهيرة: “من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بأول حجر”.
هكذا تم التعارف، وهكذا أمست المجدلية أقرب الناس إلى قلب المسيح، مما جعل بطرس أو(صخر) يحتج ّعلى تفضيل المسيح لمريم على جميع التلامذة، كما نقرأ في إنجيل (توما) غير المعترف به كنسيًّا. كما أن إنجيل (يعقوب)_ أيضًا غير رسمي_ يذكر أن المسيح تزوّج من مريم المجدلية، والأمر يبقى غامضًا على كلّ حال. وهي وحدها كانت تسمح لنفسها أن تنادي المسيح بصيغة (رابوني) أي تصغير صيغة (ربي) واللفظة لا تعني إلهي بل معلّمي أو أستاذي.
ثم وبعد موت المسيح، وهو في الـ33 من العمر، لم يعد أحد يذكرها. ولكن هناك نصوصًا قديمة غامضة ومتفرقة تم العثور عليها تأتي على ذكرها. حيث نعلم أنها وبعد أن طردها اليهود من فلسطين، أبحرت مع أحد التلامذة إلى مدينة (مرسيليا) في فرنسا، ثم استقرت في منطقة جبلية قريبة من مرسيليا. وهنا يجب أن نذكر أن لاسم مرسيليا على المتوسط دلالة رمزية، لأن اسم المدينة جاء من اللغة الكنعانية الفينيقية في صيغة (مرسى-أل ) يعني مرسى الله وهو الاسم الذي أطلقه البحارة السوريون الفينيقيون على المرفأ بعد أن هداهم الله وحيث نجوا من عاصفة بحرية مخيفة. ثم تحول الاسم مع الزمن إلى صيغة مرسيليا ولا يزال الى اليوم.
بعد أن استقرت مريم المجدلية على الهضاب المطلة على البحر المتوسط في وسط جنوب فرنسا، اختارت حياة العزلة والتنسّك، وعاشت حوالى 30 سنة كما تذكر المصادر. ولا تزال المنطقة التي عاشت فيها مريم في فرنسا تحمل إلى اليوم اسم lES SAINTES MARIES DE LA MER
مريم سيدة أو قديسة البحر في صيغة الجمع بالفرنسية. ونرى هنا كيف أن مريم المجدلية تصبح مثلها في ذلك مثل إننانا وعشتار وعنات ومريم العذراء، سيدة المياه أو البحار ورحم العالم المؤنث. ولقد زرت المكان قبل سنوات، فلم أجد سوى بعض الأضرحة القديمة، دون أي دلالة على اسم معين. ولكن يجب أن نذكر أن المكان أضحى في فرنسا مكانًا مقدسًا يقصده الكثير من المؤمنين ليحجوا إلى قبر المجدلية، رغم أنه ما من شيء يؤكد أن ضريحًا قائمًا في هذا المكان. غير أننا نلاحظ في المنطقة التي نتحدث عنها العديد من المنحوتات القديمة التي تمثل مركز الأنوثة عند المرأة، رمز التكاثر والخصوبة والعذراء والأم. ولهذا الأمر دلالة لا تخفى.
إضافة إلى ذلك، فهناك في المنطقة نهر صغير يجري عبر الجبال، يقول الناس إنه تشكل من دموع مريم المجدلية التي كانت لا تكف عن بكاء المسيح. ونذكر هنا أيضًا أن عنات السورية كانت ربة ينابيع، وان اسم مريم يعني، وكما سلف، سيدة المياه أوالبحار. والكثير من البحاثة يعتقدون أن مريم المجدلية هي آخر تجسّد زمنيًّا لإننانا وعشتار وعنات وعشتروت وأفروديت (بالأغربقية) وفينوس (باللاتينية) ومريم العذراء أم المسيح.
وهناك نص قديم مدون باللغة القبطية المصرية يذكر أن مريم المجدلية تراءت لشخص في الحلم، وقالت له إن مريم العذراء ومريم المجدلية هما شخص واحد: المرأة العاشقة والمرأة الأم العذراء في آن واحد.
النصوص الغنوصية السورية ( 200 م.) تذكر أن مريم المجدلية كانت تمتلك على معرفة عليا(غنوص باليونانية) بأمور العالم باعتبار أن المسيح أخبرها بأسرار لم يطّلع غيرها عليها. ومريم المجدلية هنا تبدو كرمز الحكمة والمعرفة. وهناك نصّ مصري قديم اسمه باليونانية Pistis Sophia
ويعني الحكمة. وهو يعود إلى القرن الثالث بعد الميلاد، نرى فيه أن المسيح يمجّد أمه العذراء مريم، ثم يؤكد أن المجدلية هي على رأس تلامذته، وعلى كل إنسان أن يتعلم الحكمة منها، وكل أسرار ما لا يزول.
وهناك ربة سومرية غير معروفة كثيرًا اسمها ( ليليت)، ذكرتها النصوص التوراتية بعد أن اقتبستها وجعلت منها أول امرأة خُلقت مع آدم ومن التراب نفسه وفي الوقت نفسه، وليس من ضلعه كما تمت الإضافة فيما بعد، لإعلاء شأن الرجل على المرأة. وهنا نرى (ليليت)، يعني المتألهة، تعتبر نفسها مساوية لآدم وترفض الخضوع له. ولما يطلب منها (يهوه) معاشرة آدم جنسيًّا ترفض أن تكون تحته لأنها ليست أقل مكانة منه. ثم لا تلبث (ليليت) أن تتمرد وتكتشف كل أسرار اسم يهوه الخفية ثم تصنع لنفسها أجنحة وتطير بعيدًا عن الجنة،÷ لتحيا في حرية على شاطئ البحر، كما تذكر الحكاية.
وهنا نرى مرة أخرى ارتباط المرأة بمياه الخصوبة، وكونها رحم العالم ورحمته. فهي هنا الخالقة والحاذقة وسيدة الحكمة والمعرفة.
تلك هي صورة المرأة السورية كما كانت في الفكر السوري القديم، وعبر تاريخ طويل عمره آلاف وآلاف السنين، تسنده النصوص المكتوبة، وليس بتاريخ يعتمد على الروايات الشفهية ولا على الإسناد الشفهي.
وأين الماضي من اليوم؟
في ختام هذه الصفحات، أثبت فيما يلي نشيدًا سومريًّا_ بابليًّا قديمًا حول سيدة السماء السومرية إننانا
أو، وبالسومرية
نين_ ان_ كي
NIN-AN-KI
أي سيدة السماء والأرض
وسيدة السماء الأمورية_ البابلية عشتار و(إيشا) بالحثية السورية
والنص للشاعر البابلي القديم 2000 ق.م، والذي كان يحمل اسم
أغو-شايا
Agu-Shaya
يقول النص عن لسان إننانا أو عشتار:
ألستُ أنا الملكة التي تملك
على كل ملكات وملوك الأرض؟
ألست أنا الملكة التي تعظمها حاضرة بابل؟
ألستُ أنا ملكة العدالة؟
ألستُ أنا ربّة البيت؟
أنا خليقة الله المقربة منه.. أنا آخذ بيد الرجل وأقوده إلى أحضان المرأة
أنا أمسك بيد المرأة وأجعلها في أحضان الرجل
أنا أجعل الرجل يتجمّل لتحبّه عروسه
وأنا أجعل العروس تتزيّن لتلهب نار الشهوة عند عريسها
أنا أشعل نار الحب بين العريس وعروسه.
إن شئتُ جعلت السيد عبدًا
والفقير المحروم أصير له أمًّا وأعطيه العلم
أرحّب بالمرأة السعيدة
وأمدّ يد العون للمرأة التي تبكي موتاها
أنا أطعم المواشي وأجعلها تستريح
إذا رفعت يدي إلى الأعلى فإني ألمس السماوات
وبخطوة واحدة أقطع فيافي الأرض بأجمعها
ما هو أسود أجعله أبيض
وما هو أبيض أجعله أسود
أنا المحراث يشقّ تراب الحقول الواسعة
أنا الملكة السماوية والتاج على رأسي
أبي منحني السماء. ثم قال لي: ها هي الأرض ملك لكِ
أنا الملكة المتوجة
ما من ملاك إلاّ وينحني أمامي
أبي منحني السماء والأرض
جعلني أُشهر سيفي فلا يقهرني أحد
أنا إعصار صعب أن ُيقاوم
أبي جعلني كالعاصفة
أبي قال لي قد جعلت السماء غطاء لرأسك
والأرض نعلًا لقدميك
ثم ألقى عليّ الرداء الإلهي أنا ملكة السماء والتاج على رأسي.
ترجمة: ف.مقدسي
إضافة تعليق جديد