الكتاب والعلاقة الشائكة بين الرقمي والمطبوع
أعدت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية تقريراً، في عددها الصادر أمس، يتناول واقع التطور الذي يشهده عالم صناعة ونشر الكتب اليوم.
في البداية أشار التقرير إلى مقولة سابقة تعود لأوكتاف أوزان يتحدث من خلالها عن مستقبل الكتاب في مؤلفه «نهاية الكتب» الصادر في العام 1894، حيث يقول «إذا كنتم تفهمون من كلمة كتاب، الأعداد الكبيرة من الكراسات المطبوعة، والمصفوفة، والمخيّطة، والمغلفة بغلاف مذكور عليه عنوان الكتاب، أعترف لكم بصراحة بأني لا أعتــقد أبداً بأنّ ابتكار غوتنبرغ لن يترك يوماً ما».
ويضيف التقرير أنّ الوقوف على مدى تطور العلوم جعل الصحافي والكاتب أوزان يرى بأنّ المكتوب سيستبدل بالصوتي، وأنّ المطبوع سيستبدل بالسمعي. وهذا ما يشبه نوعاً ما رسم ألبير روبيدا في أواخر القرن التاسع عشر، أيضاً، الذي يُظهر امرأةً تتمدد على أريكتها، وتضع ما يشبه سماعات في أذنيها لتستمع إلى ما تقدمه مكتبة صوتية عالمية من أدب وموسيقى.
وفي هذا السياق، لفت التقرير إلى ما بدأه الباحث والناشر أليسندرو ليدوفيكو من أبحاث تهدف إلى الوقوف على أصول ومنشأ تلك «التنبؤات» حول عالم النشر، التي لم تتحقق بشكلها التام حتى اليوم.
ويقول الباحث في مجال الإعلام في كتابه «ما بعد الطباعة الرقمية» إنه «إذا عدنا إلى التاريخ، نجد أنّ انتهاء حقبة الورقيات كان يعلن عنها في كل مرة تظهر وسيلة جديدة»، ويشير هنا مثلاً إلى التلغراف، والفونوغراف، والراديو، ومن ثم التلفزيون وأخيراً جهاز الكومبيوتر.
ويشرح أنه بالتوازي مع تقدّم مجال المعلوماتية، انتشرت بروباغاندا «المكاتب الخالية من الأوراق، والمظّهرة بشكل رائع في الفيلم الدعائي «بايبر وارك اكسبلوجين»، المعد في العام 1967 من قبل جيم هنسون، حيث يفاخر أحدهم بأن آلته الكاتبة باستطاعتها تخزين المعلومات على شريط تسجيل». ويضيف أنّه في مقابل عبارة أوزان، «يجب أن تختفي الكتب»، والتي لخص من خلالها رؤيته في العام 1894، نجد اليوم، وبعد أكثر من مئة عام، عودة الخطاب نفسه، الذي يتمثل اليوم بتشويه الفترة الـ«ما قبل رقمية»، ويروّج للكتب الالكترونية. في المقابل، يرى لودوفيكو، الذي يملك خبرة كبيرة في المجال نظراً لإدارته، أيضاً، هيئة تحرير مجلة «نورال» المتخصصة في عــالم الرقميـــات، أنّ جهاز الكمبيوتر لم يمنع يوماً العالم من الاستمرار في الطــباعة، ولم يؤد إلى استبدال النــص المطــبوع بآخر رقمي بشــكل تام.
ويستعيد في كتابه تاريخ تطور العلوم وتأثيرها على الطباعة، ويستكشف العلاقة المستجدة بين الورقي وعالم التخزين الرقمي. وبدل التركيز على تضادهما، يهتم الباحث بالطريقة التي يمكن من خلالها لهذين النموذجين من التكامل في ما بينهما، وإنتاج أمور «هجينة» نوعاً ما. ويخلص أنه «بعد فترة طويلة من التطور المتوازي، فإنّ الرقمي والمطبوع أجبرا اليوم على التمازج، وهنا تبدأ المشاكل».
من جانبه، ووفقاً للتقرير، رأى مدير «أمازون»، من خلال إطلاق آلة الكتاب الالكتروني «كيندل»، أنّ إحدى مشاكل الطباعة الورقية تظهر، أيضاً، في الإعلام المطبوع، الذي شهد بدوره تبدلات، حيث يتم استبداله بالرقمي، واللجوء إلى متابعته عبر الشاشات الالكترونية.
من دون الدخول في تفاصيل هذه العلاقة الشائكة والمستجدة منذ فترة بين ما هو مطبوع وما هو رقمي، فإنّ الباحثين لا يغفلون أمراً مهماً والمتمثل بالإشكاليات التي يطرحها الانتقال إلى العالم الرقمي، وما يطرحه من أسئلة حول كيفية أرشفة النصوص والمخزون الثقافي، وما يواجهه الناشرون من سرقة «الحقوق الفكرية» عبر النسخ والانتحال.
وفعلياً، وبعيداً عن التمييز بين العالمين، وبعيداً عن العمليات التفضيلية بين ما هو مطبوع وما هو رقمي، يبقى أن الأكيد هو أنّ العالم الرقمي، والانترنت بشكل خاص، يفتح الباب واسعاً أمام حرية انتقال المعلومات في العالم بشكل يصل في بعض الأحيان إلى ما يشبه العبثية، وهـــذا ما يطـــرح إشكاليـــات الدقة في نقل تلك المعلومات، أو حتى إشكالية احترام الحقوق الفكرية.
في المقابل، من المؤكد أيضاً أنّ طرح هذه الإشكاليات لا ينفي ما مفاده بأننا في طور الانتقال إلى ما هو أسهل وأوفر بكثير، أكان من خلال سهولة اقتناء المعرفة، ووفرتها، أو حتى من خلال نشرها.
ويبقى القول أنّ عالم الطباعة والنشر اليوم، يشهد أزمة قد تتحول إلى خانقة، وذلك في حال اكتساح «الكتاب الالكتروني» لعالم صناعة الكتب، ما يهدد، أيضاً، المفهوم الاصطلاحي للكتاب، وهذا ما سيدخلنا في عالم جديد لم يعرف العالم مثيلاً له خلال التطور التاريخي لشكل الكتاب وبنيته، والمنتقلة من اللفائف، إلى المجلدات أو ما يعرف بـ«كودكس»، وصولاً إلى الأشكال الحديثة، التي يمكن اعتبار أن آخر تطور فعلي شهدتها هي بانتشار الكتب الصغيرة الحجم والمعروفة بـ«ليفر دو بوش». تلك الكتب الصغيرة وإن ظهر عدد منها في بدايات القرن العشرين أو ما قبل ذلك، إلا أنّها عرفت النجاحات الكبيرة في منتصف القرن المذكور في فرنسا مع قيام دار «آشيت» بنشرها تحت إشراف هنري فيليباتشي.
(«السفير»)
إضافة تعليق جديد