الصمت النبيل ولعبة الشطرنج بين سوريا ولبنان
الجمل- فادي عزام: ما يدور بين سوريا ولبنان" يشبه معركة الشطرنج مجرد صراع بين لونين والخاسر الوحيد هو الوقت"*
قانون اللعبة بين الأخوة الأعداء له نكهة خاصة لم تُعرف من قبل في عالم هذه الرياضة التي تدعي أنها رياضة الأذكياء.
فرضت اللعبة أبعادا ًجديدة لم تكن بالحسبان، بعد أن كان الهدف والغاية والطريقة هي بقاء عدد الأحجار ثابتا على الرقعة
فالوزير الأسود أصبح لا يسير بخطوط واضحة عندما يكون الطريق خاليا من البيادق، بل يقفز كالحصان معيدا بيدقا قتل على رقعة أخرى يُلبسه تاج الملك ويجعله يقوم بالتبييت مع فيل قطع خرطومه للتو.
ينحشر ملك الأسود في الزاوية يمسك صولجانا بكلتا يديه صائحا:
لن أترك الرقعة فاللعبة تنتهي عندما يخرج الملك.
يرد الوزير : لدينا ملك أخر، تستطيع الذهاب، فإذا ما أعجبك اذهب إلى الخصم وكن بيدقا هناك، ويضيف بحماس- قلَّ نظيره - مخاطبا الجموع فنحن هنا كلنا ملوك.
فيرد الجميع بصوت واحد
كلنا ملوك .. كلنا ملوك
وزير الأبيض يصر على اللعب بخمسة فيلة، لا يعبأ بالآراء القائلة أن التنافس بنزاهة يقتضي أن تملك فيلين فقط، فلم يعد مسموحا أن تخرج عن قانون اللعبة في الاتحاد الدولي، ولكنه بواسطة إعلام عبقري يكتب لافتات بخط "مفشكل "يعلقه على خراطيم " هذا ليس فيلا "فيبدأ جميع البيادق البيض بالترديد والصراخ والاستنكار.
ليس فيلا .. ليس فيلا
واستكمالا لنقلة غير محسوبة يبعث الوزير بحصانين يزودهما بسطول من الطلاء فيبدؤون بطلي المربعات السوداء باللون الأبيض، فينجح بخلخلة تحركات الخصم فكما يعرف الجميع، الفيل لا يتحرك إلا بشكل منحرف ضمن نطاق لوني محدد .
هنا يراجع الأسود تاريخه في المبارزة ويعقد أحلافا ويجلس ليدرس أساليب " بوبي فشر " بطل العالم الأمريكي " وعبقرية" كاسبروف" الروسي فيخطط بشكل محكم لعقد هدنة مع خصوم سابقين ويدعو بيدقاً غريب الشكل يستخدم كرأس حربة، فيرد على الأبيض بسلسة من النقلات الفجائية لتوسيع الرقعة ومطها وإضافة لون أزرق بدأ يُرى بوضوح في الشكل الجديد الذي أصبح بلا شكل، وبهجوم كاسح يسلح البيدق الغريب جنود الأسود بـ"مناكيش" يبدؤون بالحفر لإخراج حطام مبارزات سابقة، وأمام عدسات التصوير تنبش الأشلاء القديمة وخصوصا أن أماكنها معروفة للفريقين " لأنو دافنينوا سوا "
وللحظة يشعر الأسود بالزهو والغرور ويشعر أنه حرٌّ ومتحرر فيصيح "كش ملك " ومن فرط الحماسة يلفظ الشين غير منقوطة
يصفق الحشد
كش الملك... كش الملك
ولكن في لعبة كهذه، تكشيش الملك لا يعني خسارة المباراة، فيمكن حينها التضحية بالوزير والفيلة الخمسة مع القلعتين ومحاولة إنهاء اللعبة بالتعادل والتفويت على الخصم نشوة الانتصار يعني "قـَرَّع الدق "
لاحت بالأفق للأسود فرصة لترقية جندي للخط الأول عند الأبيض وأصبح هذا الجندي قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى وزير خطير ..
انصب هم الأبيض بمنع الجندي من التقدم، فمن غير المعقول لبيدق من الخطوط المكشوفة أن يصبح صاحب قرار
وأمام هذا الوضع نزل الجمهور من المدرجات وانحشر بالرقعة التي فخخت بالكامل وأضحت جاهزة للانفجار ولم يعد أحد يعرف شيئا من شيء، أصوات عالية وأخرى أكثر علوا.
صحفيون وجدوا عملا جديدا لا ينتمي للاعلام وأن كان يستخدم ادواته وتفتقت مواهبهم عن حاسة شم بوليسية وخبرة يحسدون عليها بعلم المتفجرات، محللون استراتيجيون لا يكادوا يغيبون عن الشاشات، سياسيون من مخلفات حروب أهلية وتحريرية عادوا إلى الصدارة ليرفعوا قبضاتهم التي ترشح بالدماء.
وتذكر الجميع بما يشبه لحظة تجلٍ غامضة هنا وهناك أن لديهم وطنا وشعباً.يمكن استخدامه وامتطاءه والتهديد به وسرق ما تبقى لديه من " مونة الشتاء"
خارج الرقعة جلس أربعة رجال واحد بعمامة يحلم بتصدير اللحى والعمامات إلى أرجاء الكون الأربعة، آخر بملابس"كاوبوي" والثالث يلعب بحمالة مفاتيح مربوطة ببعضها بنجمة سداسية، والرابع طاعن في السن أزرق العينيين يشرب نبيذ بوردومذكرا بأيام فحولته التاريخية .
الأربعة جلسوا ليراقبوا الرقعة واضعا كل واحد منه إصبعه في فم الأخر بانتظار من يقول أخ أولاً.
خارج الغرفة، تتابع الفصول دورتها وتتحرك الطبيعة الأم، تمد الحياة كل يوم تحاول أن تعلم الأطفال أن الأرض تتسع للجميع، تمنعهم من مشاهدة التلفاز
تحممهم بضوئها وتفركهم برغوتها، تحنو عليهم وهم يلثغون ويجاهدوا أن يكبروا بقلب صحيح معافى من الثقوب.
خارج الغرفة ثمة فتاة صغيرة لا تعبأ بالجميع أكتشفها زياد رحباني منذ الحرب الأهلية "الأولى " ،الفتاة ذات الأربعة عشر عاما تعزف على البيانو - بأصابع ممشوقة مصنوعة من الضوء – لحنا خاليا من الدم والألم ، وفتاة أخرى تصعد على تلة " دمر والهامة " تطير طائرة ورقية غير مكترثة بال"أواكس "
ثمة من يستيقظ قبل الفجر، يحلب الأبقار ولا يستمع للأخبار .. وإذا ما سألته عما يحدث سيقول:"حلوا عني" لدي شجرة زيتون تحتاجني.
ثمة بشر طيبين ورائعين هنا وهناك لا يعرفون شيئا عن الشطرنج، إنما الكثير عن الرقع في الثياب، لا يفهمون ما يحدث في الكواليس وبمجلس الأمن لكنهم يُتقنون شربَ العرقِ وارتجال ِ الزجل والميجانا، لا يعبأون بالأبطال التاريخيين ومدمني الهزائم والانتقامات الرخيصة والزعامات والعنجهيات القومية لكنهم يحبون التراب وتقليم الأشجار وأكل التبولة اللبنانية مع الكباب الحلبي .
ثمة الكثير من العشاق يجلسون ليبتكروا طرقا جديدة في التقبيل، ويحلموا بدفء كثير في الليالي الباردة، يتبادلون الهمس واللمس وينزلقون رويدا رويدا يتمددون على الأرض يفرشون تحتهم جرائد مليئة بالدم والتحريض والكراهية والغباء ويمارسوا الحب عليها كي لا تتسخ ثيابهم.
ثمة الكثير من الشبه والتشابه البعد والتباعد بين هنا وهناك، فليست العلاقات المميزة تُطلب أو تُصنع، فقواسم الاشتراك بين البشر لا تُصنف ولا تؤطر ولا تفسر فعندما" نصل لدرب مسدود سنعرف بأن علينا العودة للوراء "1
ثمة الكثير من الرائعين هنا وهناك، يعتكفون تحت مظلة الصمت النبيل منحازون لإرادة الحياة ضد سلطة الموت، للنور أبدا ضد العمى، للموسيقى ضد أصوات المفرقعات، للجمال ضد التخريب.
فماذا لو تكلم الآن طلال حيدر وجورج طرابيشي ومرسيل خليفة ومحمد كامل الخطيب وفواز حداد وحيدر حيدروابراهيم صموئيل فهؤلاء ومن شابههم لا "يعفطون" الغبار بل يمسحونه، تراهم بصمتهم النبيل يدينون كل هذه الفوضى كل هذه اللاجدوى
يكتبون ما يستحق القراءة بعد أن يخرس دوي الجعجعة ويصمت إزيز الرصاص
الجمل
إضافة تعليق جديد