الشيعة: مسألة ولاء أم مسألة دور؟
لا أحد يعرف نوايا الرئيس المصري حسني مبارك من وراء حديثه عن ولاء الشيعة في العالم العربي لايران وليس لأوطانهم. هل هو يريد ان يؤسس موقفا سنيا عربيا ضد ايران تمهيدا لضربة اميركية، أم هو يبرر العجز العربي عن معالجة مشكلة العراق وهو يغرق في الحرب الأهلية السنية الشيعية. لكن الرئيس مبارك لم يحصر حديثه في المسألة العراقية بل تحدث عن الشيعة باطلاق وهو بذلك يجردهم من عروبتهم ووطنيتهم ويجزم بأن ولاءهم هو لدولة غير عربية بما يوحي ان الاجتماع السياسي عند الشيعة معقود على مذهبهم لا على دينهم الاسلامي العام، ولا على قوميتهم العربية. ورغم الأهمية الخاصة لصدور هكذا موقف عن رئيس اكبر دولة عربية سنية لم تعرف التعصب المذهبي في تاريخها، إلا ان إثارة <المسألة الشيعية> لم تبدأ مع الرئيس المصري، فقد سبق للملك الاردني عبد الله الثاني ان تناول ما أسماه الهلال الشيعي الذي يتكون في المشرق العربي، وتذمر وزير خارجية المملكة العربية السعودية، سعود الفيصل، من النفوذ الايراني في العراق وعزا اليه صعوبة الحل السياسي الداخلي وتعقيدات الأوضاع الأمنية. ولا تختصر الوقائع عند هذا الحد، فالحديث عن الشيعة بدأ من أفغانستان والنزاع المذهبي يتكرر في باكستان، اما لبنان فلا يمكن مقاربة مشكلاته دون الإحاطة بواقع الشيعة.
إذاً، هناك <مسألة شيعية> تفرض نفسها، لا يمكن إنكارها او تجاهلها كما كان الأمر قبل ربع قرن، قبل الثورة الايرانية، وقبل الحرب الأهلية في لبنان، وقبل انتفاضة الشيعة في جنوب العراق، عهدَ صدام حسين وبعض الحركات المسكوت عنها في دول الخليج العربي. الى هنا نحن نتحدث عن وقائع، لكن في اي سياق يمكن وضعها من الناحية التاريخية والسياسية، هل في سياق السؤال عن ولاء الشيعة كما فعل الرئيس حسني مبارك، وكما تفعل بعض القوى اللبنانية تجاه شيعة لبنان، أم في سياق الدور الذي يلعبه الشيعة في الوقت الراهن؟
تاريخيا، كان ولاء الشيعة دائما لأوطانهم ولعروبتهم. في لبنان لم يكن للشيعة اي مشروع مختلف عن سائر المسلمين الآخرين الذين التحقوا بالحركة العربية ونادوا بالدولة العربية الواحدة الى ان انخرطوا تدريجيا في الكيان اللبناني.
وفي ظروف الحرب الأهلية اللبنانية عبّر الشيعة دائما عن موقف اكثر كيانية من الآخرين، بل لعلهم في مبادراتهم السياسية ومطالبهم كانوا محافظين جدا في موضوع الهوية اللبنانية، وقادتهم ولا سيما الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين أول من أطلق مصطلح <لبنان كيان نهائي لجميع بنيه>. وفي ممارستهم السياسية، ولأسباب لا يتسع ذكرها، من بينها تحملهم عبء القضية الفلسطينية والصراع مع اسرائيل في الجنوب، كانوا الأكثر تحفظا تجاه الانفلاش الفلسطيني وتوسعه وفوضاه. ولعل تغييب الامام موسى الصدر كان بسبب ذاك الواقع. قضية الشيعة في لبنان من حيث تحولها الى مشروع سياسي خاص نشأت بفعل الحرمان والإهمال التاريخيين، وبسبب سياسة التهميش والإلحاق اللذين عاناهما الشيعة من النظام السياسي الطائفي، ومن تفاقم مشكلة أمن الشيعة في الجنوب مع تصاعد الاعتداءات الاسرائيلية وتخلي الدولة عن واجباتها الوطنية ومسؤوليتها عن الجنوب من جميع وجوه تلك المسؤولية. فإذا كان هناك من مشروع شيعي خاص، فهو هذا المشروع بأخذ قضية الدفاع عن الجنوب وادارة شؤونه دون التخلي طبعا عن مطلب المشاركة في ادارة البلاد والتعبير السياسي عن الوجود والحضور في مختلف المجالات.
في العراق كان الشيعة جزءا اساسيا من المكون الوطني العراقي الحديث. بل لعلهم كانوا عماد ثورة العشرين الوطنية ضد الانتداب وكافة النضالات الاستقلالية، ونزعوا مع ذلك للانكفاء عن طلب السلطة لعدد من الاعتبارات لها صلة بتواجدهم على اطراف السلطة المركزية والمدينية، ولاوضاع اجتماعية وبعض الثقافة المذهبية. لكن تاريخ الشيعة لم ينقطع يوما في الدفاع عن العراق الموحد حتى في أصعب المراحل والظروف ومنها الحرب العراقية الايرانية. حافظ الشيعة على وطنيتهم على حساب مذهبيتهم. لكن الظلم الذي لحق بهم والاضطهاد والقمع اللذين أصاباهم إثر انتفاضتهم عام 90 و,91 قادتهم الى ما يشبه المشروع السياسي الخاص يذكيه ويغذيه انخراط قيادتهم الدينية في العمل الوطني، وصعود الاسلام السياسي بشكل عام في المنطقة والانحسار الكامل لأي مشروع سياسي وطني قومي او علماني او يساري او ليبرالي. بعد انتفاضة عام 90 خرجت النخبة الشيعية من العراق وتحولت الى مشروع يهدف الى الاطاحة بالسلطة وقد توسلت في المرحلة الاولى الدعم الايراني يوم كانت الولايات المتحدة لا تزال في مرحلة الاحتواء المزدوج للعراق وايران. ومن ثم التحقت بالمشروع الاميركي الذي يستطيع ان يؤمن لها اسقاط نظام صدام. وفي خارطة المعارضة العراقية وللاسباب التاريخية المعروفة لم يكن السنة يمثلون قوة وازنة. فقد كان النظام العراقي يقيم سلطة أصلا على جسم طائفي وجهوي وعائلي تنتظمه ايديولوجية حزب البعث القومية، التي ما لبثت في الحرب مع ايران ان اتجهت في اتجاه ديني ومذهبي واستحضرت محطات تاريخية من الصراع العربي الفارسي والصراع السني الشيعي.
بعد الاحتلال الاميركي للعراق انفتح الصراع على السلطة فكان من الطبيعي ان يبحث شيعة العراق عن دورهم وموقعهم استدراكا لهذا الغبن التاريخي الذي لحق بهم وظلوا يهجسون بامكان اعادة بناء السلطة من حول العصب السني السابق، فيما السنة تحولوا الى أقلية اكثر من ذي قبل بفعل انفصال الأكراد. وبينما لجأ السنة الى المقاومة وجعلوا من بين أهدافهم منع الهيمنة الشيعية على السلطة، لجأ الشيعة الى موقف يهادن الاميركيين لتعزيز امتلاكهم للسلطة. وما شذ عن ذلك في ظاهرة التيار الصدري تم احتواؤه لاحقا مع اتساع دائرة الصراع وانكشافها، ومع تبلور حركات اسلامية سنية سلفية تلعب دورا رئيسيا في المقاومة ويتعزز بذلك الانقسام السياسي المذهبي في العراق.. لكن الشيعة يتناغمون الآن مع الدور الايراني في مواجهة اميركا وتلك هي عقدة الموقف. وكان متوقعا مع الحرب الاميركية على العراق ان تنهار حدود هذا البلد امام مداخلات الخارج. فالعراق يتوسط دولا اقليمية قوية لها معه وشائج من العلاقات التاريخية المعقدة من تركيا الى ايران ومن المملكة العربية السعودية الى المملكة الاردنية الهاشمية الى سوريا. فهل كان يمكن لمصالح الدول هذه ان تحجب عن العراق مع هذا الاحتلال الاميركي الذي يطمح الى ان يجعل العراق نقطة انطلاق للتوسع في المنطقة. من العبث إذاً الحديث فقط عن مسألة شيعية في العراق وحتى عن مسألة طائفية فقط. في العراق تتجمع الآن مشكلات المنطقة كلها وتتلاقى صراعات الدول والمصالح والمشاريع المختلفة، ومن العراق تنطلق فكرة الشرق الاوسط الجديد ويتحدد مستقبل دور اسرائيل. ولهذا بالذات، أقدمت الولايات المتحدة على تدمير مؤسسات الدولة العراقية والجيش العراقي وأرست معطيات الانقسام والتشرذم والفوضى. لم يكن الاميركيون يريدون للعراق ان يحكمه الشيعة، كانوا يسعون الى ان يحكموا العراق بقوى موالية لهم أخطأوا في تقدير حجمها ووزنها، كما أخطأوا في تقدير رد فعل الشعب العراقي عموما ولم يحسبوا الحساب لمقاومته ولطبيعة هذه المقاومة. وأخطأوا أخيرا في تقدير الدور الذي يقوم به النظام العربي الرسمي في دعم موقفهم في العراق ومساعدتهم على احتوائه مجددا ضمن هذا النظام. لقد انفجرت الازمة العراقية بكل أبعادها وهي تطرح اليوم مصير جميع الكيانات العربية ومكوناتها تحت مشروع الهيمنة الاميركية. في هذا السياق تبرز المسألة الشيعية العراقية وتبرز ايضا المسألة الشيعية اللبنانية والسورية والخليجية لاحقا، ليس بوصفها مسألة شيعية وحسب، بل بوصفها مسألة إعادة تكوين الاجتماع السياسي العربي في ظل الفوضى الاميركية. إذاً، ليست المسألة في ولاء الشيعة بل المسألة في دورهم غير المنسجم مع النظام الرسمي العربي. فاذا كانت المنطقة الآن قد دخلت في عصر تحولات جديد تنهار معه حدود الانظمة السياسية او يصعد الاسلام السياسي بوصفه قوة المواجهة مع الهيمنة الاميركية فليس الشيعة هم العنوان الوحيد لذلك. ففي العراق مقاومة سنية وفي فلسطين مقاومة سنية. وفي بقية العالم العربي حركات سياسية اسلامية سنية، في مصر والسودان والمغرب، وهذه الحركات تتطلع اليوم الى ايران بوصفها نقطة الارتكاز في تحدي المشروع الاميركي الاسرائيلي وليس في أولوياتها تلك النظرة المذهبية التي يحاول النظام العربي الرسمي وقواه ان يعطيها لهذا الدور الايراني كما يفعل الرئيس مبارك او السعودية او الاردن او بعض القوى السياسية في لبنان.
هناك إذاً، مسألة ايرانية، ومسألة شيعية، ومسألة اسلام سياسي سني وشيعي، تخلخل جميعها النظام الرسمي العربي. ولا يستطيع أحد ان يقلل من أهمية ذلك وخطورته حيث تتقوى الروابط المذهبية وتتخطى حدود الكيانات الحالية، وحيث يحصل النزاع المذهبي السياسي على السلطة وحيث ترتفع حركات المعارضة ذات الطابع الطائفي والمذهبي، كل ذلك يفتح الطريق امام صراعات الدول ومصالحها ويدخل الشرق الاوسط في حروب أهلية واقليمية نتيجة غياب مشروع مركزي جاذب تتقاطع عنده مصالح الشعوب والجماعات.
ولم تصل الامور الى هذا الحد إلا لأن النظام الاقليمي العربي قد فشل ليس فقط في ان يبني ولاء عربيا واحدا، بل لأنه فشل بأن يبني وطنيات محلية مع نظام التجزئة. ومسألة الحرمان الشيعي في لبنان والعراق والخليج جزء من صورة كيانات تم بناؤها على مصالح فئوية وجهوية وطائفية تقوت باقتصادات تابعة وطفيلية تحكمها الامتيازات في ظل غياب دولة القانون، وفي غياب التنمية وفي غياب الحريات وفي غياب الديموقراطية. فهل يستطيع العرب ان يبدأوا مسارا آخر عناوينه محددة، في مقاومة الاحتلال والهيمنة الغربية وتوحيد المنطقة في جبهة سياسية ضد الخارج واطلاق حركة إصلاح في أنظمتها السياسية تؤمن المشاركة والديموقراطية وترسي قواعد للتنمية الحقيقية كمدخل لمعالجة المشكلات الطائفية وغيرها
تقي الدين سليمان
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد