الشتاء في حياة السوريين

06-01-2007

الشتاء في حياة السوريين

لعب الطقس منذ فجر الإنسانية دوراً كبيراً في صنع التحولات التاريخية, وصاغ علاقة المجتمعات البشرية والشرائح المجتمعية بالطبيعة وتغيراتها, فكان لفصول السنة ولا يزال في الذاكرة الشعبية دلالة إنسانية وطبيعية, ووسط هذه الذاكرة يعتبر الشتاء فصل العزلة والانزواء والضيق : ف ) الشتاء ضيق ولو كان فرح ) وهو فترة الانتظار والتهيئة للعمل.‏

- الشتاء في حياة السوريين فصل للركون في البيت إلى الدفء المنبعث من مدفأة المازوت والثرثرة حول النار,تحدثنا أم علي قائلة: (الشتا ونس) ..فيه تجتمع العائلة كلها حول المدفأة وأبريق الشاي, تتسلى بالحكايات والذكريات, وتأكل الفول والحمص المسلوق, وأحيانا حبات الكستناء (وقت الرخص )...).‏

ترسم أم علي بحديثها معنا صورة للشتاء في بيوت الأحياء الشعبية وفق منحيين اثنين: الثرثرة و الطعام المشروط برخص القيمة, والاستفادة من نار المدفأة التي نادراً ما يخلو سطحها من وعاء لتسخين الماء أو لسلق الفول و الحمص, أومن تحميص لرغيف خبز أو شوي لحبات الكستناء ..والصورة هنا لا تختلف كثيراً بين بيت وآخر في هذه الأحياء ما دامت الحالة المادية هي التي تنظم إيقاعها, ولكنها تغيرت مع الأيام واختلفت ما بين الماضي والحاضر لتبقى صورة مدفأة الحطب بجمراتها و صورة بابور الكاز وقد علا رأسه قطعة مثقبة من التنك لتوزيع وهج النار, شيء من الذاكرة الجمعية للسكان يستعيدونها في ما يشبه الحكايات التي تسبق أو تلحق بجملة (سقى الله تلك الأيام). ورغم ذلك أبقت بعض البيوت على مدفأة الحطب كنوع من الحنين أحياناً, أو استجابة لوقود متوافر رخيص (الخشب), ولم يغب بابور الكاز أيضاً عن دوره في تدفئة فراغ آخر في بيت لا تسمح الحالة المادية بوضع مدفأتين فيه, ولم تدخله بعد حضارة مدفأة الكهرباء, تقول أم علي:(غالبا ما كنا نلجأ إلى بابور الكاز في بداية الشتوية قبل تركيب مدفأة المازوت, أو لتدفئة غرفة الأولاد وقت الامتحانات, لكنه اليوم صار من الذكريات, (صوبيا الكهربا يا خالتي) أراحتنا من صوته ولكننا افتقدنا (ونسه) أيضاً دفء اليوم أكبر ولكنه خيره مسحوب..ناقص حب). تسوق أم علي حديثها معنا كما لو أنها تدين الحضارة, هذه الحضارة التي, كما فهمنا من حديثها الطويل معنا, جلبت كل شيء وأخذت في المقابل الحب والدفء اللذان حملهما ضوء الكاز ومدفأة الحطب على حد تعبيرها. وبفك مدافىء المازوت وغسيل بواريه, كما تقول أم علي , ونشر السجاد على الأسطح وشرفات المنازل, والبدء بتنظيف و(تعزيل) البيوت من دخان المدافىء الأسود تعلن الأحياء الشعبية في سوريا نهاية فصل الشتاء وبداية فصل الصيف.‏

- في بيوت الأحياء السورية الغنية لا يعتبر الشتاء أكثر من ظاهرة خارجية ستفرض إيقاعها عليهم من ناحية طبيعة الملابس وتقيد الحركة, أما في الداخل فحرارة التدفئة المركزية والمكيفات كفيلة بجعل الجو الداخلي في الشتاء لا يختلف عن أي يوم صيفي حار, وبالتالي لا تغيير جوهري في حياة سكان هذه البيوت اللهم ما تفرضه تبدلات الجو خارجها.‏

السيدة منى قالت إنها (تفتقد لتلك الصورة الرومانسية التي يحرص الكثيرون على رسمها لمدفأة المازوت أو الحطب..ولكنها في النهاية صورة عابرة وربما واهمة فمشاكل مدافئ المازوت من شحار وسواه وحدها كفيلة بإفساد هذا الجو الرومانسي).‏

وترى السيدة منى إن هذه الصورة الرومانسية للشتاء هي صورة نسبية تختلف باختلاف الظروف ف(مراقبة هطول المطر من شرفة بيتها (المزججة) في الطابق السابع ومراقبة حركة الناس تحت المطر وهم يحثون الخطا..له سحره الخاص).‏

ولا تنكر السيدة منى إن رتابة استخدام التدفئة المركزية تجعل الشتاء داخل البيت مجرد عابر بدون أي ضجيج, إلا إنه ((هيك أريح), وخصوصاً عندما يأتي وقت تعزيل البيوت, وعندها فقط تدرك قيمة التدفئة المركزية).‏

يبدأ شتاء السيدة منى مع ملأ خزانات المازوت الخاصة بالتدفئة, وإخراج الملابس الشتوية لغسلها وكيها, فضلاً عن مد السجاد في كامل البيت حتى المطبخ وجزء من الحمام..لتعود بعدها إلى (رتم حياتها الصيفي), مع فارق بسيط على صعيد علاقاتها الاجتماعية ف(النهار القصير والليالي الطويلة والباردة تجعل السهرات والحركة محدودة المكان والزمان).‏

- بعيداً عن البيوت ثمة صوراً مختلفة للشتاء في الشارع ترسمها رغبات الناس وأهواءهم..طفل يتسكع تحت الماء, يبحث عن بركها في الشارع يدخلها ليهز ماءها بقدميه يرقص مع رفاقه فرحين بالمطر, يغنون بفرح: (شتي يا دنيا شتي على صلعة جدي... شتي وزيدي بيتنا حديدي. ..عمنا عطا الله... رزقنا على الله). في الشارع ثمة من يحث الخطا, يقفز من تحت سقف إلى آخر احتماء من ماء المطر, ربما هو يتحسس من الابرد , ربما لديه موعداً أوعمل يريد أن يصله جافاً.إلى جانبه ثمة شابة وشابة يسيران بهدوء حالم , هما عاشقان وصورة المشي تحت المطر جزء جديد يضاف إلى سيرة حبهما, بعيداً من خلال الشرفة ثمة رجل سبعيني يراقب الحركة من خلف النافذة , هو ربما يتذكر صباه وربما يتذكر شبابه وحكاية حبه الأول وربما يحلم لو إنه يستطيع أن يتنزل إلى الشارع ..في الشارع ثمة من يتذمر من المطر الذي داهمه فجأة, ثمة من يحب المطر ويكره البرد الذي يجعله يصير في خيمة, ثمة من لا يرى في الشتاء إلا فصل الأمراض (كريب وسعال ورشح), ثمة من يراه شهر المصاريف...تختلف الصور وتتعدد وتبقى عبارة واحدة تجمع الجميع مع نزول أولى حبات المطر: (الله يبعد الخير).‏

-ألهبت بورصة أسعار المدافئ الجيوب قبل أن تحمل حرارتها الدفء للبيوت, فارتفعت أسعارها عاماً بعد عام على نحو أطاحت فيه بالعلاقة الحميمية بين الفقراء وفصل الشتاء بعد أن أصبح لسهرات الشتاء حول مواقد الدفء طعمها المر.‏

يقول خبراء السوق إن أسعار مدافئ المازوت وفي )الأسواق الشعبية( تبدأ بسعر 2000 ليرة ولا تنتهي عند ال 5ر17 ألف ليرة, وفي السوق باحت لنا الأسعار المعلنة بالتالي:‏

مدفأة من نوع صالون وبقياس كبير يصل سعرها إلى نحو 5ر17 ألف ليرة سورية فيما وصل سعر قياس الوسط منها إلى 11 ألف ليرة أما الصغير فلم يتجاوز 8000 ليرة فقط?!.‏

كما وصل سعر المدفأة العادية 3700 ليرة للحجم الكبير والمدور وصولاً إلى الحجم الأصغر الذي يباع أسوأ أنواعه ب(2000) ليرة سورية.‏

ولعل السؤال المطروح هنا بقوة من المسؤول عن ارتفاع أسعار المدافئ )الشعبية( ولماذا السكوت عن بعض أصحاب الحرف الصناعية التي تقوم بتصنيع المدافئ ممن قاموا برفع أسعارها بعد صدور قرار السماح بتصدير الخردة الملونة والتي تدخل في جزء من تصنيع المدفأة ما أدى إلى رفع الأسعار بصورة خيالية وبنسب وصلت في بعض الأحيان إلى نحو /300/ بالمئة من نسبة التكاليف.‏

أصحاب الاختصاص يقولون إن المدفأة مادة محررة السعر وليست خاضعة لرقابة التموين وهذا ما يسمى سياسة تحرير الأسعار باعتبار أن المدافئ أصبحت منذ سنوات خاضعة للمنافسة السعرية في السوق.‏

- تقسم أقوال العامة فصل الشتاء المؤلف من تسعين يوماً إلى قسمين: الأربعينية ( أو المربعانية ) و(الخمسينية). الأربعينية هي القسم الأول من فصل الشتاء وتمتد 40 يوما أولها 21 كانون الأول وآخرها 30 كانون الثاني وتُعد أشد أيام الشتاء قساوة ولذلك يرى الناس في ) المربعانية فحل الشتاء ), وكان الفلاحون دائمي الخوف من مربعانية الشتاء وهي تأتي بعد زراعة الحبوب فإذا أتت أيام المربعانية حلَّت الصقيع, وأتلفت المحصول أي البذور في الأرض , أما إذا أتت بالأمطار والثلوج فيكون الموسم خير وفير, وفي هذا يردد العامة المثل الشعبي ( إذا أقبلت آذار وراها وإذا أمحلت آذار وراها) كما يُقال (مطرة من آذار تحيي الزرع البار واللي ما بار). قسوة الأربعينية قد تبدو ثقيلة على الناس لذلك يقال أن (المربعية بتقول إذا ما عجبكم حالي ببعتلكم خوالي (أي السعود) .‏

- أما الخمسينية فهي القسم الثاني من فصل الشتاء أي الخمسين يوماً الباقية من الفصل وتمتد من أول شباط حتى 21 آذار وفيها يبدأ الطقس بالتحسن وتنشط الدورة الزراعية.‏

وتقسم الأيام الخمسين في الرزنامة الشعبية إلى أقسام أربعة طريفة عرفت بالسعود هي(الذابح , البالع , السعود , الخبايا ) فيكون كل سعد مدته 12.5 يوم(‏

سعد الذابح: ويعد سعد الذابح أول خمسينية الشتاء وهي فترة الشتاء التي تبدأ عادة في أول شباط وتنتهي في منتصف نهار 13 شباط, الأيام الثلاثة الأولى منه جزء من بذرة (الست) الصالحة لزراعة جميع الأشجار , يصعد فيه الماء إلى فروع الأشجار , يقطع فيه جذوع النخيل , يورق الخوخ والرمان والمشمش واللوز ولذلك يقولون : ) إذا أمطرت أقبلت وان أمحلت أدبرت ) وهنا تكون الحنطة قد ظهرت على وجه الأرض.‏

سعد بلع: وهي فترة تبدأ عادة في النصف الثاني من يوم 13 شباط وتنتهي في 25 شباط, ويقال أنه مهما أمطرت الدنيا في هذه الفترة فإن الأرض تبتلع المطر بسرعة, فتغور الماء في الأرض, وتبدأ التربة بالجفاف على وجه الأرض وعندها يظهر نبات الوحواح, ويقوم الفلاحون حينها بعزق وتطييب أرض الكروم وتبدأ عملية الكساح - وهي كلمة سريانية تعني التقليم.‏

سعد السعود: بسعد السعود بتدور الموية بالعود, والموية هي الروح والحياة, أي أنه في هذه الفترة يبدأ النسغ يسير في جذوع الشجر وأغصانه; وتبدأ هذه الفترة في 26 شباط وتنتهي ظهر يوم 10 آذار, وفيه يقال ) سعد السعود بيجَّمد التلج عالعود ) وفيه تتم عملية الكساح, أي تقليم دوالي العنب وزراعة( المقاتي) أي الجبس والبطيخ والقرع, وهناك مثل شعبي في هذه الأيام- أيام سعد السعود يقول : ( إذا طلع الوحواح شق على أرضك يا فلاح, إذا ثمرو مغطي كدرو ابشر بخيرو وثمرو وإذا ما غطى كدرو اقتل حالك بكدرو) و- الوحواح - نبات على شكل القصب إلا أنه رفيع وطويل الساق , ولفظة ( شق) الواردة في المثل تعني ) زُرْ )‏

سعد الخبايا: وهي فترة تبدأ ظهر يوم 10 آذار وتنتهي في 22 آذار, وبذلك تنتهي خمسينية الشتاء, ويبدأ فصل الربيع. ويقال أنه في سعد الخبايا بتطلع الحيايا(الأفاعي) وبتتفتل الصبايا.‏

- تقول الحكاية أن شخصاً اسمه سعد خرج على ناقته في سفر; فنصحه أبوه أن يتزود بفراء وقليل من الحطب اتقاء لبرد محتمل, فلم يسمع نصيحة أبيه معتقداً أن الطقس لن يتغير كثيرا أثناء رحلته, وهو في ذلك الوقت كان دافئا. ولكن ما أن بلغ منتصف الطريق إلى حيث يقصد حتى اكفهرت السماء وتلبدت بالغيوم وهبت ريح باردة وهطل مطر وثلج بغزارة فلم يكن أمامه سوى ذبح ناقته و هي كل ما يملك, حتى يحتمي بأحشائها من البرد القارس. لذلك ذبح الناقة فكان (سعد الذابح) وبعد أن احتمى في أحشائها من البرد, دب الجوع في سعد و لم يجد أمامه سوى أحشاء الجمل و لحمه للأكل و هكذا كان (سعد البلع), وما أن انتهت العاصفة و ظهرت الشمس حتى خرج سعد فرحا من مخبئه وفرحا بكتاب الحياة مجدداً بسبب ذكائه فكان (سعد السعود), و حرصا منه على متابعة طريقه دون مشاكل قام بصنع معطف له من وبر الناقة و بحفظ زادا له من اللحم المتبقي من الجمل بواسطة الثلوج أو بطرق قديمة تقليدية و هكذا كان (سعد الخبايا).‏

- من المعتقدات الشائعة في الريف السوري (وهي ذات أصل تاريخي ديني) عادة الاستسقاء فإذا أنحبس المطر وأجدبت الأرض خرج شيخ القرية وهو يلبس عباءته بالمقلوب مع عدد من الرجال والنساء والأطفال ويبدأ ون بالابتهال إلى الله والدعاء والناس يردَّدون خلفه, ثم يقوم بعض الصبية بصناعة ( أم الغيض ) وهي على شكل صليب من الخشب يضعون عليه قطعة قماش على شكل الوجه ويُلبسونها ثوباً لتصبح شبيهة ب ( المآتا ) أو فزَّاعة الحقول التي توضع لإبعاد الطيور والقوارض عن الزرع ويحملونها ويجوبون بها شوارع القرية وهم يرددون :‏

أم الغيض يا رَّيا‏

عبَّي حواضننا مَّيا‏

لَنغْسِل ونغتسل‏

ونلبس ثوب أبو عبية‏

ويخرج الناس إليهم, ومنهم من يتبعهم ويردد معهم, ومنهم من يردد دعاء الاستسقاء وأدعية أخرى خلف شيخ القرية.‏

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...