الرأي السديد الذي يتفق عليه الضيوف ومبارك شخصية العام الفولاذية
من بين البرامج الجديدة التي أطلقتها قناة الجزيرة في الذكرى الثانية عشرة لانطلاقتها، برنامج 'في العمق' الذي يقدمه الإعلامي علي الظفيري، وهو مذيع قضى سنوات في الجزيرة يقرأ نشرات أخبار، أو يجري بعض المقابلات، دون أن يتخصص ببرنامج يرتبط به حصرياً... حتى جاء (في العمق) ليحقق له هذا الامتياز، الذي جعل من آخرين نجوماً في ذاكرة المشاهدين، تبعاً لنجاح وتميز البرامج التي يقدمونها بالطبع!
في حلقة برنامج (في العمق) هذا، كان الموضوع هو الحصار العربي على غزة... ولعل طرح هذا الموضوع يندرج ضمن تغطية قناة (الجزيرة) المشكورة للذكرى الأولى للعدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة، التي تستحق أن يركز عليها الإعلام العربي، كي لا ننسى... وكي يعرف العدو الإسرائيلي لمرة واحدة على الأقل... أننا لم ننسَ، وان جرائمه لم تصبح سريعاً جزءاً من حدث إخباري قديم، وذكرى مجزرة تضاف إلى تاريخ من المجازر التي أصبح لها أرشيف منسي، ونائم في ذاكرة الكثيرين!
انطلق برنامج (في العمق) من مقدمة وجدانية لا تخلو من ألم... عرف فيها بالحصار لغة، على سبيل السخرية ربما، وقرأ فيها مقاطع طويلة لمحمود درويش (حاصر حصارك لا مفر) دون أن يذكر اسم الشاعر، بل نسبها إلى (لسان العرب) وقد كان واضحاً أن نسب القصيدة إلى لسان العرب... ليس سببه جهل اسم محمود درويش، بل التأكيد على رمزية قصائد هذا الشاعر الكبير التي صارت في وجداننا جزءا من لسان حال العرب فعلا!
وقد قدم البرنامج بعد ذلك معلومات هامة عن الجدار الفولاذي الذي تبنيه مصر على حدودها مع غزة... وأوضح عبر رسم توضيحي بالغرافيك، كيف تحكم مصر الحصار، سواء عبر سد حدودها مع غزة للقضاء على الأنفاق التي تهرب بها البضائع من تحت الأرض، أو عبر بناء جدار قام على طول الحدود البحرية من ميناء العريش، لتقطع طريق تهريب البضائع إلى غزة عبر البحر أيضاً!
الجدار كما أورد البرنامج مبني من فولاذ صنع في الولايات المتحدة الأمريكية، لا تؤثر فيه القنابل، وهو كما يرى بعض الخبراء أقوى من خط بارليف الذي بنته إسرائيل في سيناء، والذي عبره الجيش المصري في حرب تشرين عام 1973، في واحد من أكبر النجاحات العسكرية التي حققها الجيش المصري حينذاك... وليس غريباً أن يقارن الجدار الفولاذي بخط بارليف في القوة والمتانة... لأن المقارنة مع خط بارليف لها دلالة رمزية أيضاً، ذكرها محمد جميل منصور النائب في البرلمان الموريتاني الذي كان أحد ضيوف البرنامج، حين قال نقلا عن مقال نشر في إحدى الصحف الموريتانية: إن الزمن المصري يعتذر عن اقتحام خط بارليف ببناء الجدار الفولاذي!
على أن أسوأ ما في الأمر حقاً، هو مقولة حماية الأمن القومي لمصر التي أريد بها أن تدعم حملة بناء الجدار... فقد أوضح البرنامج أن طول الحدود البرية بين مصر والكيان الصهيوني يصل إلى أكثر من مائتين وعشرين كيلو متراً، وهي تشهد عمليات تهريب أيضاً، وطول الحدود بين مصر وليبيا أكثر من ألف كيلو متر وتشهد هذه الحدود عمليات تهريب مخدرات وسواها أيضاً، في حين لا تزيد حدود مصر مع إقليم غزة عن ثلاثة عشر ونصف كيلو متر... فكيف يكون إغلاق الحدود على سكان غزة المحاصرين بالاحتلال والجوع والتضييق حماية للأمن القومي... ولا يكون الأمر كذلك مع عمليات التهريب المتبادلة على الحدود الأخرى!
سؤال مرير إجابته لا تحتاج لاكتشاف... وليس أكثر مرارة من هذا السؤال فعلاً، سوى الفتوى التي أصدرها مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف، التي تؤكد أن بناء الجدار جائز شرعاً... متجاهلة حقائق وحقوق عدة، ليس أبسطها، مسألة حقوق الجار التي كفلها الإسلام حتى لغير المسلمين، فكيف بحقوق الجوار مع أخوة من أبناء الدين ذاته، يعيشون حصاراً خانقاً من أجل كسر إرادتهم تحت أبشع سلطة احتلال عرفها التاريخ!
وليس غريباً أن يعمد النظام المصري لاستصدار هذه الفتوى، رداً على الفتوى المحرجة التي أصدرها الشيخ يوسف القرضاوي ببطلان جواز بناء الجدار شرعاً... وكما قال الدبلوماسي والأكاديمي المصري الدكتور عبد الله الأشعل أحد ضيوف البرنامج: 'ثمة حاجة للاحتماء بالدين والأمن والوطنية لقطع ألسنة الناس'!
لكن مشكلة برنامج (في العمق) على أهمية بعض المعلومات التي أوردها، والكثير من الآراء التي قالها ضيوفه حول الموضوع المطروح، انه يشكل في المعالجة انتكاسة حقيقية لشعار قناة الجزيرة (الرأي... والرأي الآخر) إذ أن البرنامج اختار ضيوفاً ثلاثة متفقين في الرأي إلى درجة التطابق... وكل ما يقولونه على مدار وقت البرنامج، ما هو إلا تكريس أحادي لحالة ترفض بناء الجدار الفولاذي، وتسعى لتفنيد تبريرات وجوده!
أكثر من ذلك، فقد خرج مقدم البرنامج عن حياده الإعلامي كمقدم للبرنامج، حين أشار إلى ان هناك بعض الحجج التي تساق لتبرير تقديم الدعم للفلسطينيين منها: الانقسام الفلسطيني، والدور الإيراني الذي (يتم تضخيمه في الإعلام)... إن هذه العبارة الأخيرة غريبة فعلاً عن سياق عمل (الجزيرة) فلم يسبق أن سمعنا أن المقدم يسأل السؤال ويوحي للمجيب بالجواب... كما يحدث في تلفزيونات الإعلام الشمولي، والإعلام الخشبي!
وهكذا فمن الواضح أن قناة الجزيرة تتجه عبر بعض برامجها الجديدة... إلى استبدال شعار: (الرأي والرأي الآخر) بـ (الرأي الواحد) أو (الرأي السديد) الذي يتفق عليه جميع الضيوف، ويتفق معهم المحاور الذي يقدم البرنامج... كي نصل إلى نسبة إجماع بـ 99.99%!
طبعاً نحن لسنا ضد أن نكرس شيئاً من هذا الإجماع حين يصل الأمر بما يحدث على حدود غزة، فما من عربي به ذرة شعور إنساني يقبل بالجدار، ويقبل بتشديد الحصار العربي فوق الحصار الإسرائيلي، ويقبل بإغلاق المعابر الرسمية التي وجدت لتبقى مفتوحة، كي يلجأ المحاصرون إلى الأنفاق السرية، ثم يجرمون لأنهم حفروا أنفاقاً ويبنى جدار فولاذي يسد عليهم منافذ الأمل والحياة...
لكن من قال إن هذه القضية العادلة لا تغتني بوجود الرأي الآخر... ومن قال إن نقاش الضيوف الذين استضافهم البرنامج من مصر والكويت وموريتانيا، لن يكون أكثر موضوعية وأقوى حجة وبرهاناً بوجود الرأي الآخر... ومن قال ان إعلام الرأي الواحد... واللون الواحد... والاتفاق الضمني والعلني الواحد... والضجر الواحد... سيجعل الناس أكثر تعاطفاً مع القضايا العادلة، وأكثر استمتاعاً بمتابعة قناة (الجزيرة) في حلتها الجديدة التي يبدو أنها ستخرق ضوابط حلتها القديمة، بما كانت تتميز به من مهنية وحرفية عالية؟!
ـ عماد الدين أديب: الحرفية العالية والصدق المتواضع!
على قناة (دريم) المصرية الخاصة، أحرج الدكتور عبد الله الأشعل، الإعلامي عماد الدين أديب، الذي استضافه برنامج (العاشرة مساء) ليقدم لنا على مدى أكثر من ثلاث ساعات، قراءته الخاصة في أحداث وتحولات العام الذي انقضى، والذي اعتبر فيه أن الرئيس حسني مبارك هو أهم شخصية عربية لهذا العام، وأن بناء الجدار الفولاذي هو حق سيادي لمصر لا جدال فيه، ولا يحق لأحد أن يناقشه... وخصوصاً أن مصر على حدودها مع غزة لا تحارب الفلسطينيين، بل تحارب إيران وقطر!
وقد اتصل عبد الله الأشعل بالبرنامج، ليهنئ عماد الدين أديب على لعب دور المستشار الإعلامي للرئيس مبارك، وعلى ما بذله من جهد لتسويق النظام، وتبرير أخطاء النظام... الذي قال عنه الأشعل: إنه باق بقوة التزوير!
تحلى عماد الدين أديب أمام كلام د. الأشعل الموجع، برباطة الجأش والهدوء... وقال إنه يحترم الرأي الآخر، ويحترم من يصف نفسه بأنه ينتمي لـ(معسكر المقاومة)... لكن مع كل ذلك بقيت آثار الشعور بالتملق بادية على وجه عماد الدين أديب... لأننا في زمن لم يعد بالإمكان أن نخدع الناس... حتى لو تحلينا بمهارة وخبرة إعلامية كبيرة كالتي لدى أديب... الذي لم يلبث أن واجه اتصالات قاسية من مواطنين شعروا أن لقاءه المطول، لم يكن من أجل عيون مصر... بل تلبية لالتزامات وصداقات أخرى!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد