الجيش السوري في وسط النبك وسخرية من تجدد مزاعم الكيماوي
يوم للصحو أخيراً. هكذا يمكن أن يغامر مقاتلو الجيش السوري في إبداء توقعاتهم حول كيفية انتهاء معركة النبك (القلمون ـــ شمالي دمشق)، بعد أيام من الجو الممطر، الغائم والبارد الذي أثّر سلباً على تحركاتهم. ساعات من الصحو مكّنت الضباط من رفع معنويات جنودهم لإحراز تقدّم ملحوظ. ساحة المخرج هي هدف الجيش الأول. «هل تتوقع سقوط النبك عسكرياً خلال الساعات المقبلة؟»، يجيب أحد القادة الميدانيين في الجيش: «أمرٌ وارد، إنما لا شيء مؤكد». دخان متفرق في الأجواء، بسبب الحرائق، يثير خشية سكّان النبك. شائعات «الكيميائي» تبث الرعب في كل مكان. فكرة استخدام الأسلحة الكيميائية تحرّض سخرية جنود الجيش، إذ يقول أحدهم: «قذيفة أدت إلى إصابة مختبر حارة مالك قرب المشفى الواقع تحت سيطرتنا، ما أدى إلى تسرّب بعض الغازات منه. لو استخدم سلاح كيماوي في المنطقة لتضرّر الجيش الذي يسيطر على الحي، وعلى شارع حمص. ولاختنق جميع أهالي حارة مالك». كلام الجنود يتقاطع مع كلام مدنيين في الحيّ الشرقي وحارة الفوقا، الذين لم يشعروا بأي شيء مريب. أحد المدنيين أكد أنّ هذه الشائعات انتشرت مع غياب الشمس أول من أمس، عندما «سقطت قذائف محدثة دخاناً أبيض تداخل مع لون الغيم وأشعة الشمس الخفيفة». وحسب رواية المدنيين، يقبع عشرات الآلاف من سكان النبك في الملاجئ. معلومات تربك ضباط الجيش وتحدّ من تقدّمهم مع قواتهم. وعندما يُسألون عنها تلوح ملامح الأسى على وجوههم، بعد «تعثّر فتح ممرات آمنة، بسبب خرق عناصر الجيش الحر لهدنة مؤقتة بغرض إخراج المدنيين»، حسب مصدر ميداني.
أطراف الحي الغربي خالية من أي أثر لمدنيين. أصوات اشتباكات عنيفة في عمق الحي، وفي شوارعه العريضة المُخرّبة. وسيلة التنقل الوحيدة والأكثر أماناً هي المدرعة الحربية. مظاهر البرد تخيّم على ملامح المقاتلين. شفاههم قد ازرقّت لشدّة الصقيع، رغم طلوع خجول للشمس عند الظهر. عيون مرهقة من قلة النوم، إلا أنها لم تمنعهم من متابعة الجولة وحماية الموجودين. يعتبر الحيّ الغربي بمثابة «النبك الجديدة». يمكن التوجه من الحي إلى كتيبة الدفاع الجوي الواقعة غرب النبك. تكررت محاولات لمهاجمة الكتيبة خلال الأيام الماضية، حيث تسللت مجموعات من يبرود عبر منطقة السحل لاستهداف الثكنة العسكرية، بهدف تخفيف الضغط عن مسلحي النبك ومنع تطويق البلدة بشكل كامل. يسيطر الجيش على شارع الهبشة شمالاً. يوازي الهبشة شارع أمين الشهير ببقالياته، والذي يتفرع عنه طريق الزراعة وحارة باسط. أشجار على جنبات الطريق المنظّم، احترق بعضها بفعل القذائف. إلا أنّ سيطرة الجيش على شارع الأمين وباقي الحي الغربي لم تمنع القناصين من كشف طريق حمص، الأمر الذي يؤجل فتح الطريق بسبب تمركز قناصين في بعض الأبنية العالية الواقعة شرقي استراحة طيبة الشهيرة. وإلى اليسار طريق يبرود الذي تتناثر عليه مبانٍ لم يكتمل بناء بعضها، وهو المرشّح ليكون طريق الهرب الوحيد الذي سينسحب منه المسلّحون «تكتيكياً»، بحسب سخرية جنود الجيش السوري.
يدخل الجيش بعض المساعدات الغذائية شمالاً، إلى المدنيين المتحصّنين في الملاجئ، من مخصصات محافظة حمص. ويذكر أحد الجنود في البلدة أن «أهالي النبك موالون بمعظمهم»، إلا أن «احتضان المسلحين من قبل النازحين إليهم، من حمص ومناطق أُخرى، هو الذي أدّى إلى توتر الأوضاع الأمنية داخل النبك». شائعة جديدة سرت في البلدة عن حصول مجزرة إحراق 40 شخصاً في أحد الأقبية داخل حي الفتاح. ويرجّح الجنود السوريون أن المجموعات المسلحة نفّذت المجزرة، قبيل الهرب من الحي خشية وصول قوات الجيش، في «محاولة للتغطية على هزيمتها المقبلة، كما جرت العادة». الوصول إلى شارع المستشفى يشبه الرقص على الجمر. المباني المكوّنة من طبقتين تجعل الطريق مكشوفاً أمام القناصين، كما يوحي ترتيب بنائها بأحوال أصحابها الميسورين. الشارع الشهير كان مركزاً لبيع الملابس. محالّه التجارية المتتالية تذكّر بأيام الازدحام السابقة، فيما يتموضع مستشفى القلمون الكبير في آخره. يركز القناصون وضعياتهم بانتظار مرور جندي أو مدني كي يكون صيداً ثميناً. عناصر الجيش يتحركون داخل الحي بواسطة المدرعات. بعضهم أصبح لديه خبرة في الهرب من القناص بين مفرق وآخر، بينما لا تحصينات للمدنيين إلا الملاجئ. في نهاية الشارع يقف جامع الغفري، الذي أصبح مهبطاً للقذائف من كل الاتجاهات، شاهداً على عنف الاشتباكات داخل ساحة المخرج الشهيرة الواقعة وسط البلدة، والتي وصلت إليها المعارك. الساحة الاستراتيجية تؤدي إلى شوارع رئيسية عدة وسط النبك، أبرزها: طريق المجمع الحكومي، الواقع بموازاة شارع المستشفى، والمرشّح للسقوط عسكرياً خلال الساعات المقبلة، بحسب ما يذكر الجنود. في بداية الطريق المذكور، يقع المركز الثقافي والمجلس البلدي الذي أعلنت الصفحات المعارضة انتخاب أعضائه منذ أيام تحت القصف والنار.
تطويق النبك من الشمال والجنوب
وفيما يحاصر الجيش و«قوات الدفاع الوطني» النبك من الجهة الشمالية، ترابط قوات من الجيش في الجنوب، لقطع الطريق أمام أي تواصل بين مسلحي النبك والمسلحين خارجها. تشرف قوات الجيش جنوباً على المنطقة الصناعية داخل تنظيم حارة المليطة التي كانت في الماضي تشتهر بأجبانها وألبانها. ولتأمين الطريق الدولي، أخيراً، تعمد قوات الجيش إلى إتمام سيطرتها على طريق العرقوب، بهدف قطع كل الطرق على مسلحي النبك، ما يُبقي يبرود مهربهم الوحيد كنهاية متوقعة لانتهاء المعارك القائمة في أية لحظة. جميع وسائل الاتصالات متوقفة في النبك، ريثما تنتهي العملية العسكرية. شدّة القذائف والانفجارات المسموعة في كل شبر من أرض البلدة المنكوبة تجعل الزائر يحتفل بموعد الخروج. قد تعثر على مدنيين يحاولون الخروج لتأمين بعض مستلزمات ذويهم الذين بقوا في الملاجئ. تحت جناح العتمة المتسللة إلى الأرجاء، والبرد المسيطر على كل شيء، تنتهي زيارة البلدة. خبر السيطرة على ساحة المخرج بشكل تام، جاء في طريق العودة من النبك باتجاه مدينة حمص، ما أثار غبطة الجنود. ويمكن الاحتفاظ بالمشهد الأخير أيضاً: الجيش وبعض المدنيين يتقاسمون بعض الأغذية المتبقية. مشهد لن يعجب الكثيرين، لكنه حصل، فعلاً أمس، في النبك.
غبار الحيّ الشرقي
معارك الحي الشرقي تتركز في بيوته الريفية المتلاصقة القريبة من المزارع. تتصل طرق الحي الضيقة مع طريق العرقوب، حيث يمكن التوجه إلى دير مار موسى الحبشي الشهير. طريق العرقوب المعروف يصل النبك بالناصرية والغوطة الشرقية جنوباً، وهو ما يستغله مسلحو المعارضة في تأمين خطوط إمدادهم. شارع حمص المقنوص يصفر للريح. لا وجود لأي مؤشرات للحياة هُناك. صناديق كرتونية تتناثر في أرجاء الشارع الذي كان مركز البلدة التجاري. لون الأشجار الأخضر أضحى رمادياً لشدة الغبار. يختلط الغبار بالضباب هُنا حتى تظن أن عوامل الطبيعة تتحد مع آثار العنف لحجب رؤية القناص وجهة سيرك. «طاقات» مفتوحة في جدران البيوت، ليست للفرجة، بل لعلها تحدّث من يشاهدها عن القذائف الهاطلة كالمطر على رؤوس سكانها المتحصنين في ملاجئهم. من هُناك يمكن رؤية طريق فرعي يؤدي إلى شارع النهر الذي يحضن ذكريات أهالي البلد. الذكريات أصبحت جحيماً في الوقت الحاضر، إذ يشهد الشارع ومزارع السقي التي تربط النبك بدير عطية اشتباكات ضارية في مزارع البلدة التي كانت في مرحلة ماضية منطقة الاصطياف بالنسبة إلى أهالي النبك. «من هذه المناطق اقتحموا دير عطية» يقول أحد الجنود. أحزان المقاتلين السوريين لا تقتصر على آلام طقس القلمون القاسي الذي ينخر برده العظم، بل تتعدّى ذلك إلى حديث كلّ منهم عن صديق فارقه خلال اشتباك على زاوية من الزوايا. على طلعة السرايا الموازية أصعب المعارك.
و«السرايا» موقع تاريخي هام تحتضنه المنطقة المسمّاة باسمه، والتي تمتاز بأزقتها الضيقة ترتفع إلى كتف تلّة صغيرة، تعتبر بمثابة «النبك القديمة». تتناثر عليها بيوت متلاصقة حتى الوصول إلى القمّة. تجاوره «الحارة الفوقا» المطلّة بدورها على طريق ساحة المخرج من الجهة الجنوبية. التوجه إليها خطير أسوة ببقية حارات الحي الشرقي، حيث تعتبر خطّ تماس خطراً بين الجيش السوري ومسلحي الجيش الحُر.
مرح ماشي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد