التكفيريون يعدمون «أبا الآثار التدمرية»

20-08-2015

التكفيريون يعدمون «أبا الآثار التدمرية»

رفض التدمريّ، ابن الثانية والثمانين، مغادرة مدينته حين احتلَّها «داعش» في 21 أيار الماضي. كان مستعداً لكل الاحتمالات: «سأبقى فيها حتى ولو قتلوني». هذا ما حدث أمس الأول. اختار التنظيم إعدامه بقطع الرأس أمام عشرات المتفرجين، والتهمة: مناصر للنظام السوري. هو خالد الأسعد، أحد أهمّ الخبراء في عالم الآثار.خالد الأسعد في صورة تعود للعام 2002 نشرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية
شغل خالد الأسعد منصب مدير آثار تدمر منذ العام 1963 ولغاية العام 2003. وبعد ظهر أمس الأول، أُعدم على أيدي «داعش» في المدينة الأثريَّة، «ثم قاموا بكلّ همجيَّة بنقل الجثمان وتعليقه على الأعمدة الأثرية التي أشرف هو بنفسه على ترميمها وسط المدينة»، بحسب المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا مأمون عبد الكريم الذي قال: «أعدم داعش أحد أهمّ الخبراء في عالم الآثار، لقد كان يتحدَّث ويقرأ اللغة التدمريَّة، وكنَّا نستعين به لدى استعادة التماثيل المسروقة لمعرفة في ما إذا كانت أصلية أم مزورة».
تحت جثَّته، وضعت لوحة تُعرِّف عن الضحية، كتب عليها: «المرتدّ خالد محمد الأسعد»، والتهمة: مناصر للنظام السوري، لأنه مثَّل بلاده في مؤتمرات في الخارج، كما أنَّه يتواصل مع شخصيات أمنيَّة سورية.
وخضع الأسعد لاستجواب مع ابنه وليد، المدير الحالي لآثار تدمر، لمعرفة مكان تواجد كنوز الذهب «ولكن لا يوجد ذهب في تدمر»، وفق عبد الكريم الذي أشار إلى أنَّ «هذه العائلة متميزة، فالابن الآخر محمد والصهر خليل ساهموا بفاعلية في حماية 400 قطعة أثرية خلال هجوم التنظيم على المدينة».
«لقد توسلنا إلى خالد أن يترك المدينة، لكنَّه كان يرفض دائماً.. وكان يجيب: أنا أتحدَّر من تدمر، وسأبقى فيها حتى ولو قتلوني»، يقول عبد الكريم.
وكان الأسعد خبيراً في المديرية العامة للآثار والمتاحف، حيث شارك بوضع استراتيجيات علمية في مجال الآثار. وخلال فترة ترؤسه لآثار تدمر، حقَّق إنجازات هائلة في ترميم عدد كبير من القطع الأثريَّة، كما شارك في العشرات من بعثات التنقيب الوطنية والمشتركة، خصوصاً في مدينة تدمر، مكرساً خمسين عاماً من حياته لها ليعدَّ بحقّ «أبا الآثار التدمرية».
وللأسعد العديد من الكتب والمؤلفات التي وضعها بمفرده أو بالتعاون مع علماء آثار سوريين وأجانب، ومنها: «تدمر أثرياً وتاريخياً وسياحياً»، و «المنحوتات التدمرية»، و «الكتابات التدمرية واليونانية واللاتينية في متحف تدمر»، و «دراسة أقمشة المحنطات والمقالع التدمرية»، و «أهم الكتابات التدمرية في تدمر والعالم»، و «زنوبيا ملكة تدمر والشرق».
يذكر أنَّ الباحث من مواليد مدينة تدمر العام 1934. حاصل على إجازة في التاريخ ودبلوم التربية من جامعة دمشق. عمل العام 1962 رئيساً للدراسات والتنقيب في مديرية الآثار في دمشق، ثم في قصر العظم حتى نهاية العام 1963، ثم مديراً لآثار تدمر، وأميناً لمتحفها الوطني لغاية العام 2003. شارك في المشروع الإنمائي التدمري خلال الفترة 1962-1966، حيث اكتشف القسم الأكبر من الشارع الطويل وساحة الصلبة «التترابيل»، وبعض المدافن والمغائر والمقبرة البيزنطية في حديقة متحف تدمر، واكتشف عدداً من المدافن التدمرية المهمة، ومنها مدفن بريكي بن امريشا، عضو مجلس الشيوخ التدمري.
كما عمل في عدد من المؤسسات الدولية والإقليمية والعربية، كمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ـ «اليونسكو»، والمفوضية الأوروبية والاتحاد الأوروبي ضمن مشاريع متعلِّقة بتدمر وبالآثار السورية عامة، وشارك في معارض وندوات أثرية دولية، وهو حاصل على عدد من الأوسمة منها وساما الاستحقاق برتبة فارس من رئيسي الجمهورية الفرنسية وجمهورية بولونيا ووسام الاستحقاق من رئيس الجمهورية التونسية.

السفير

إعدام خالد الأسعد: تدمر رهينة حرب
تتفوَّق بروباغندا «داعش» على نفسها مرة تلو الأخرى لجذب الانتباه إلى ملفِ الآثار الذي تتحكَّم فيه. كان الحدث المؤلم في تدمر هذه المرة، حينما قرَّر «داعش»، بكل جبروته، أن ينفذ حكم الإعدام بقطع رأس عالم الآثار السوري، خالد الأسعد.
خالد الأسعد كان «حارس الزمان» في تدمر. كلّ عالم آثار يأتي إلى المدينة كان يزوره، وكل بعثة أثرية تنقّب في الجوار، تتشارك خبراته التي تمتدّ لأكثر من 50 سنة. الرجل الذي كان يقرأ الكتابة التدمرية وكأنها لغته الأم، كان مدير موقع تدمر لأكثر من ثلاثة عقود، وله عدد كبير من الكتب والمنشورات حول الحضارة التدمريَّة. هو من ركائن علماء الآثار السوريين ومثّل بلاده مراراً في المؤتمرات العالميَّة، فكانت تلك جريمته بنظر «داعش» فسُجن وعُذّب، وأُعدم بسببها.
تأتي وفاة خالد الأسعد لتضع تدمر تحت الأضواء مجدداً. فالموقع منذ شهر أيار الماضي رهينة حرب. حربٌ يعتمدها التنظيم لترهيب الغرب. تكتيكياً، الموقع ملغّم. كلّ عملية ضدّه تكون كلفتها «لؤلؤة الصحراء». وإعلامياً، الموقع ساحة قتل. فالإعدام الجماعيّ يتمّ في المسرح الروماني برسالة واضحة: بما أنَّ هذا الموقع مهمّ لكم، فنحن أسياده وأسياد مخاوفكم عليه!
خوف السوريين على تدمر يوازي خوفهم على حلب، وبصرى الشام ومواقع ماري ودورا اوروبوس... سوريا تنزف آثارها وتبكي تاريخها وأولادها على حد سواء. ولكن خوف العالم على تدمر، يأتي من جذورها الرومانية. فبين تدمر والغرب أوصال تاريخيَّة عميقة. أعمدتها ومسرحها ومعابدها الرومانية تتشابه وتتشارك تاريخياً مع تلك المنتشرة في المتوسط، وكلّ تهديد لها، يشعر به الغربيون وكأنه في عقرِ دارهم. و «داعش» مدرك ذلك، لذا يمكن اعتبار إعدام خالد الأسعد بمثابة رسالة ترهيب لأهالي تدمر أولاً، والسوريين ثانياً، وللغرب ثالثاً، ومفادها: كل مَن يتقن لغتكم، ويلتقي معكم في النظر إلى التاريخ، سيكون مصيره الموت.
ما ينساه «داعش» أنَّ لكلّ شيء نهاية. أكبر الحضارات انتهت، ولكن آثارها بقيت لتبهر البشر عبر الزمن، مثل تدمر، أما أسوأ الحضارات، فأيضاً انتهت وكان مصيرها النسيان.


جوان بجاني - السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...