البرد وإهمال السلطات المختصة أذلا المسافرين وقتل بعضهم
الجمل ـ سعاد جروس: بعدما جرى معه ليلة الأربعاء- فجر يوم أمس الخميس، نعتقد أن الزميل الإعلامي فرحان مطر سيغير اسمه من فرحان مطر إلى ( فوبيا المطر)، لا لشيء، وإنما فقط لأنه يعيش في بلد تستعين على مواجهة جائحات الطبيعة بحكومة معطلة ـ بدون شَدّة أو شِدة ـ يعني حكومة في حالة إجازة مزمنة تتفاقم في أوقات الكوارث والأعياد، والقدر الأحمق الخطى شاء أن يقضي نحبه عم الزميل "فرحان" يوم الاربعاء في دمشق، ولأن المتوفى من الرقة قرر ابن الفقيد والزميل فرحان نقله الى الرقة، وتم التحرك من دمشق عند الخامسة والنصف مساءً، وكانت الأمور مقبولة رغم سوء الأحوال الجوية وتساقط الثلوج، مع الوصول الى منطقة قارة، وكانت الساعة قد قاربت السادسة والربع تباطأت حركة السير ضمن حالة من الفوضى اختلط فيها اتجاهي سير الذهاب والإياب، وكان هناك جرافة تعمل على فتح الطريق وورشة لرش الملح ، مع ذلك وقبيل الوصول الى منطقة حسياء ، توقف السير تماماً ليس بسبب تراكم الثلوج، فسماكتها لم تتجاوز العشرة سنتمترات، وإنما بسبب الفوضى والازدحام الشديد، مع استمرار تدفق السيارات من الجانبين لتتكدس في أربعة ارتال طويلة، تراوح تقديرها بين 1000 والـ 3000 سيارة إلا أن الزميل فرحان رآها 100 ألف، وعاد وأكد أكثر من مرة أنها تقدر بمائة الف سيارة ، فقد كان المشهد مرعباً في بحر من السيارات.
الزميل فرحان وقبل توقف السير تماماً قام بالاتصال مع الـ 115 (نجدة الطرق) وقيل له أنهم رشوا أكثر من 100 طن من الملح ، وأرسلو مائة رجل إنقاذ بإدارة 12 ضابطا ، وقال فرحان في اتصال مع (الجمل) أنه رآى بعضاً من فريق النجدة قبل الوصول الى حسياء وبعدها لم يعد يرَ غير السيارات المتوقفة، وعندما حاول الاتصال مجدداً جاءته الإجابة بأن اصبروا، فسأل: ترى كم سيطول الانتظار ساعة ساعتين ثلاثة ؟ فقيل له عليكم بالصبر ثم الصبر ثم الصبر.
وما السبيل لغير الصبر في ليل بدا وكأنه، ممتداً كأرتال السيارات، بلا نهاية.. ثمة ميت في السيارة ينتظره أهله في الرقة مع المشيعيين، وبرد قارس يقصف أطراف البشر ويلزمهم بالتقوقع داخل السيارات، التي أبقت محركاتها شغالة خشية أن يتم إيقافها فلا تعاود العمل في درجة حرارة 5 تحت الصفر، ويقول الزميل فرحان الذي وصل الرقة بعد ثلاثة وعشرين ساعة أن أسوأ ما تعرضوا له هو انقطاع إرسال الهواتف الخليوية في منطقة حسياء وفقدان الاتصال، لقد كانت كارثة حقيقية، وقد رأيت طفلة صغيرة بعمر سنة ونصف تموت أمام عيني بسبب الاختناق، وبعد العثور على طبيب بين آلاف المسافرين قال أن الطفلة تعاني من نقص الأوكسجين الناجم عن الازدحام وعمل محركات السيارات و نصح الطبيب بإسعافها الى مستشفى دير عطية ، ويظن مطر أن الطفلة فارقت الحياة فقد كان من المستحيل أن تتحرك أي سيارة بالحد الأدنى من السرعة .
الصبر الذي نصحت به نجدة الطرق استمر من الساعة السابعةمساء ولغاية السادسة صباحاً، إذ أخضع الجميع لعيش أجواء تشبه أجواء فيلم غرق السفينة تايتانك، مع فارق أن فخامة ورفاهية فيلم التايتنك وما شهده من قصص حب وغرام عوضت سلفاً ضحايا كارثة الغرق، إلا أنه في برمودا قارة حسياء، لا مقدم ولا مؤخر يعوض انتظار 12 ساعة والمبيت في السيارات على طريق دولي بانتظار بزوغ فجر ليلة ليلاء بكل معنى الكلمة، فلا أحد في الحكومة المستجمة سيحاسب على تقصير أو إهمال، لأن ماحدث تتحمل مسؤوليته كاملة الأقدارالسوداء والحظوظ العاثرة ، لا المعنيين بالأرصاد الجوية ولا المسؤولين عن إعلام الناس بسوء حالة الطرقات ، وتوجيه نداء عاجل لوقف حركة السفر بعد انقطاع الطريق، كذلك لن يتحمل المسؤولية المعنيون بإرسال وحدات انقاذ تتفقد ما يدعى مجازاً "مواطنين" من اطفال ونساء وشيوخ، كما لن يحاسب السائقين الذين تسببوا بالفوضى فقد ضاعت الطاسة في العجقة ، كما ضاع سائقوا حافلات (الهوب هوب) الذين غرروا بركابهم من المجندين الذاهبين لقضاء عطلة العيد عند أهلهم ونصحوهم بإخلاء الحافلات ليولوا الأدبار تاركين ركابهم التعساء في العراء يتوسلون أصحاب السيارات المتوقفة مقعداً فيها يأوون اليه.
المشهد كما وصفه لنا الزميل فرحان مطر وغيره من شهود العيان لم يكن مأساوياً بقدر ما كان مهيناً ومذلاً ، لآلاف المواطنين خطيئتهم الأصلية أنهم سوريين، وعليه استحقوا الطرد من رعاية الدولة، ليعانوا قهراً لم يسلم منه حتى الميت الذاهب الى مثواه الأخير، وما زاد في مشاعر الإذلال، أنه ومع شروق شمس الصباح واقتراب الساعة السابعة تمكن بعض المسافرين من معاودة الاتصال بالنجدة فجاءهم الجواب أنهم لن يتمكنوا من تحريك ساكن على هذه الطريق الدولية، لإنقاذ الآلاف المؤلفة المتجمدة في سياراتها قبل الساعة الثامنة موعد وصول السيد وزير الداخلية الى مكتبه، أما محافظة حمص فلم يرد على ذكرها أحد ربما لأنه معلوم سلفاً وحسب إعلانات التلفزيون السوري الموقر أنها منخرطة لأذنيها في تحضير احتفالات العيد في تدمر الأثرية!! وموظفو المحافظة يلاحقون جباية مخالفات المرور وساعات الكهرباء والماء ... من الفقراء البخلاء الخبثاء ...وما جرى من ازدحام وتكدس على طريق دمشق ـ حمص لا يدخل في دائرة اختصاصهم.
حين هلّ وزير الداخلية كهلال العيد ، إذ حضر من دمشق وأحضر معه جحافل الأمن والإنقاذ ليصل في التاسعة صباحاً ومعه الفرج.
والمفارقة أن المسافرين كحلوا أعينهم برؤية ضباط برتبة نقيب ولواء وعميد كانوا معهم محتجزين في سياراتهم يمارسون يوغا الصبر السورية شأنهم شأن سائر المواطنين المغضوب عليهم ولاالضالين، ولدى تقدم أحد المسافرين من أحدهم وكان برتبة نقيب وسؤاله متى ستتحرك الدولة لإنقاذنا، أجابه النقيب أنا مثلكم محتجز ولا اعلم شيئاً، قبل أن يعزف رقم جهة ما فهم أنه يستفسر منهم عما فعلوه لانقاذ الناس، ولم يسمع الواقفون الجواب الذي جعل سيل شتائم النقيب تتدفق كالبركان، لتتهم الموجودين على الطرف الثاني من خط الاتصال بالكذب والنفاق والتقاعس، فالناس يموتون وهم لا يتحركون، ولم يترك النقيب شتيمة في قاموس الهجاء إلا واستخدمها سوى تهمة الفساد، ففي هذه الحالات يتم الحديث عن إهمال لا عن فساد يجعل من التقصير من نوافل هذا الواقع.
وكانت الساعة قد قاربت الواحدة من بعد ظهر يوم الخميس حين بدأ تحرك السيد وزير الداخلية يؤتي ثماره في حلحلة الأزمة، لكن ليس قبل انحلال مفاصل البشر من البرد، وليس قبل توقف قلوب أهل فرحان مطر الذين لم يعودوا يفكرون بفجيعتهم بعزيز بقدر ما هم قلقون على مصير أعزاء تركوا ليواجهوا مصيراً مجهولاً لدى توقف السير وقطع الاتصال لأكثر من 12 ساعة.
ولولا الحزن لزغرد آل مطر فرحاً بنجاة ولديهما والسائق، وجثمان الفقيد، من أكبر اختناق مروري تشهده سوريا؛ سوريا التي وصفها أحد الموظفين النجباء في الحكومة بأنها تعيش بهجة الأعياد والإجازات ، لدى سؤاله من زائر لدمشق عن سبب الازدحام الخانق في شوارعها، إذ لا فرق بين الساعة الثانية عشر بعد الظهر والساعة الثالثة بعد منتصف الليل، من حيث عجقة السير.
حقاً ليس هناك ما هو أكثر بهجة من معايدة الحكومة للمواطنين بليلة استثنائية تحت الثلج، تغني مخيلة الدراميين الشباب لانتاج المزيد من الكوميديا السورية السوداء. للموسم الرمضاني القادم. وكل عاصفة وبلدنا بأحيائها وأمواتها بخير.
الجمل
إضافة تعليق جديد