البرازيل «أرض الميعاد» الفلسطيني
إنها حكاية مأساة تتجدد وفصل آخر من مشاهد الآلام، يوم أن ضاقت بلاد العرب ــ بما رحبت ــ عن مجموعة من أبنائهم المستضعفين ليجري تهجيرهم إلى (البرازيل) في أقصى جنوب غرب الأرض.. مشهد عار جرى تحت سمع وبصر الأمجاد ستطارد أعناقهم لعناته، فكأن أساطين النظام الرسمي العربي أقروا سراً فيما بينهم نفض أيديهم من فلسطين ــ هذه اللقيطة وأبنائها ــ إلى الأبد.
تقول حيثيات القضية : إن دول الجامعة العربية مجتمعة ــ ويا ليتها لم تجتمع ــ عجزت عن إيجاد مأوى لـ (117) لاجيء فلسطيني خرجوا من العراق فراراً بأنفسهم (نساء وأطفال وشيوخ) قبل أن تنالهم أيدي ميليشيا الذبح الشيعية الناقمة على كل ما هو عربي هناك.. وخلال أربع سنوات لم يجدوا سوى صحراء العراء العربية ملاذاً لهم، على الحدود الأردنية مع العراق، في مخيمات تعرضوا فيها لأسوأ أنواع الحياة. أطفالهم دون مدارس، ومرضاهم دون مستشفيات، وجوعهم لا طعام له، غير الخوف والتشريد والتهديد بالقتل، حتى رقت لهم قلوب البرازيليين فعرضوا استضافتهم لـ (أسباب إنسانية) وبعد تدخل مفوضية شؤون اللاجئين.
جاءت عملية التهجير لهؤلاء اللاجئين بعد رفض عربي رسمي لاستقبالهم، وإن كان رفض غير معلن، إذ لم تتقدم أي من الدول الـ (21) بعرض استضافتهم على أراضيها، بما في ذلك الأردن التي كانوا موجودين في صحرائها، باستثناء السودان التي رفض طلبها لأسباب لم تعلم.
وربما جاء هذا الموقف العربي متطابقاً مع الأهداف الصهيونية بعيدة المدى، والتي دائماً ما يعبر عنها مسئولون إسرائيليون بأن إسرائيل ــ التي رفضت عودتهم إلى الضفة ــ لن تسمح بعودة لاجىء فلسطيني واحد ضمن أي اتفاق. وهو نفس المسعى لدى الإدارة الأمريكية التي تحاول من وقت لآخر تمرير نهج تصفية القضية الفلسطينية، وعلى رأسها حق العودة، لتكتمل بذلك الدائرة المأساوية على المشردين من أبناء هذا الشعب.
ولما لم يجد هؤلاء المستضعفين بلداً واحداً يستقبلهم، وأغلق العرب الأبواب في وجوههم، هاربين كالعادة أمام معاناتهم، جاءهم الفرج من أقصى أصقاع الأرض، من البرازيل. إذ قال الأمين العام لوزارة العدل، لويز باولو باريتو : إن "البرازيليين فتحوا أذرعتهم مرحبين"، مضيفاً: "سيتمتع الفلسطينيون بنفس حقوق المواطنة التي يتمتع بها البرازيليون .. وسيستلمون هويات شخصية وجوازات سفر، كما سيحصلون على مساعدات مالية شهرية لمدة عامين حتى يتمكنوا من إعالة أنفسهم".
حيث تخصص وزارة العدل البرازيلية ميزانية سنوية تصل إلى 365,000 دولار لمساعدة اللاجئين في البلاد، ويتم تحويل هذه الأموال إلى مؤسسة "كريتاس البرازيل" وهي منظمة غير حكومية إلى جانب مؤسسة "أنتونيو فيرا". وأوضح باريتو أن الفلسطينيين سيستقرون في ولايتي (ساو باولو) و(ريو جراند دو سيل) جنوب البرازيل، مضيفاً أنهم "سيتمكنون من المحافظة على تقاليدهم، وارتداء ملابسهم التقليدية، وتناول طعامهم المفضل، وممارسة معتقداتهم الدينية دون الخوف من التعرض لاعتداء أو انتقام".
وكان مئات من هؤلاء اللاجئين قد تم ترحيلهم إلى كندا والسويد ونيوزيلندا. وهناك أيضاً أعداد كبيرة من الفلسطينيين تصل بشكل منتظم إلى الدول الأوروبية وبخاصة الإسكندنافية منها، حيث تقدم تسهيلات كبيرة لمنح اللجوء فقط للفلسطينيين القادمين من غزة والضفة. وهؤلاء على أية حال قد يكونون أفضل حالاً من إخوان لهم ما يزالون عالقين على الحدود العراقية السورية في ظروف بغاية الصعوبة لا يجدون منقذاً أو معيناً.
وليس بعيداً كثيراً عن هذا الواقع، نقلت وكالة "رويترز" عن فلسطينيين تقطعت بهم السبل في مصر، أن حوالي 200 منهم لا يستطيعون الوصول إلى قطاع غزة بسبب إغلاق معبر رفح، نظموا مسيرة احتجاج. وقال مصدر أمني : "المشاركون في المسيرة رفعوا وثائق السفر الفلسطينية الخاصة بهم ووضعوا أطفالهم فوق ظهورهم".
وأضاف أن عددا من السيدات والأطفال والمرضى وكبار السن شاركوا في المسيرة التي مرت بشوارع مدينة العريش.
وقال الفلسطيني (إيهاب أبو كويك) العائد من السعودية إلى غزة بعد انتهاء عمله هناك : "أنا عالق منذ أربعة أشهر. أطفالي لم يتمكنوا من الالتحاق بالدارسة هذا العام.. ما زالوا عالقين معي". وحمل المحتجون لافتات تطالب بالسماح لهم بالعودة إلى قطاع غزة كتب عليها "أعيدونا إلى أهالينا وأولادنا" و"أطفالنا يولدون ويموتون بعيدا عن أهاليهم".
وإذا كان هذا شأن الواقع على الساحة العربية وفي ظل الكرم البرازيلي غير المحدود، تنتاب الكثير من عقلاء الأمة المخاوف من أن تكون العملية جزء من مؤامرة تهدف لتشتيت الشعب الفلسطيني في بقاع من العالم البعيد (بعيد عن أوطانه وبعيد عن عقيدته) دون أن يكون لذلك علاقة بمعاناته، بل تأتي العملية ضمن مساعي لإنهاء قضيته الكبرى وإماتتها في نفوس أصحابها، بعد أن تفصلهم آلاف الكيلومترات عن الوطن المحتل.
ولعل منشأ الشكوك والمخاوف على حقوق وثوابت الشعب الفلسطيني يأتي مع استبعاد أن تكون دولة مثل البرازيل ــ لا تمت إلى العروبة بأي صلة، وتبعد عن المنطقة العربية بأكثر من عشرة آلاف ميل ــ أحن على الفلسطينيين من أمتهم وأوطانهم وأبناء عقيدتهم.
وتتحدث تقارير بشأن صفقة واتفاقات عقدت بين الحكومة الأردنية ــ التي لم تسمح للاجئين بدخول أراضيها طيلة سنوات المعاناة ــ ودول أجنبية من أجل ترحليهم إلى حيث تلك الدول الخارجة جغرافياً عن النطاق العربي، ومن ثم العمل على توطينهم هناك ضمن مشاريع أمريكية وغربية وإسرائيلية يتواطأ فيها الرسميون العرب، وهو ما سيمثل ظاهرة وسابقة خطيرة بحق القضية الفلسطينية.
وإن لم يكن ذلك كذلك، فما هو التفسير المعقول لنقل وترحيل اللاجئين الفلسطينيين، العالقين على الحدود العربية، إلى دول أوروبا وكندا والبرازيل وتشيلي والهند وغيرها؟؟؟؟.
على العموم، ها هم الفلسطينيون العرب يغادرون ــ لست أدري بخيامهم أو بدونها ــ إلى البرازيل، منبوذون من قبل إخوانهم في العروبة والإسلام.. يهاجرون بلا وداع، وقد يستقبلهم هناك أناس لا يتحدثون لغتهم، ولا يعرفون عقيدتهم. فهل سيتبادلون التهاني بالرحيل إلى هذا العالم المجهول؟؟ تاركين خلفهم أحلاماً مكسّرة، هجرات وجراح، وطيف الوطن الأم (فلسطين) الذي اقتُلعوا منه. "فيا أعراب هذا العصر ودعوهم بأعلام مبللة بالدموع، لأن أربعة عشر مليون كم2 لم تسعهم".
وكأنه كتب على أهل فلسطين ألا ينعموا باستقرار أبد الدهر ليس في وطنهم وحسب بل وحتى في مخيمات الشتات، ومثلما كانت مصيبتهم القديمة في فلسطين أنهم (عرب) كانت هي نفسها المصيبة في عراق ما بعد الغزو.
لست أدري ــ حقيقة ــ كيف سيقرأ العرب تاريخهم حينما يخبر مدونوه أن (الأمجاد) عجزوا عن إيواء (117) مستضعف فلسطيني ــ مهندسون وأطباء وأكاديميون ــ حتى عطف عليهم البرازيليون فآووهم إلى بلادهم، حينها حتماً سيتساءلون بلا مجيب، أين الجامعة العربية، وأين (آل سعود) و(آل طلال) و(آل مبارك) و(آل الأسد) و(آل كذا) و(آل كذا)؟؟؟؟؟. لا شك يتحمل هؤلاء الحكام وحدهم غير قليل من مسؤولية العار الذي دنسوا به التاريخ، أو من يدري فلربما لم يخبرهم أحد.
كتب الصحافي الفلسطيني نضال حمد، معلقاً يقول: إن الطفل الفلسطيني الذي عاش الويلات لن ينسى ولن يغفر.. وسيبقى يتذكر أن هناك 21 دولة عربية عجزت كلها عن استقباله ومنحه ملاذاً آمناً. ويتساءل اللاجئ الفلسطيني المثقف لدى الدنمارك : هل سيكون من حق هذا الطفل أن يبصق في وجوه من أعاقوا تطوره ونموه الطبيعي لمدة أربع سنوات أم لا؟؟ نعم سيكون من حقه البصق على كل الذين تآمروا عليه وتركوه عرضة للضياع والعذاب والقهر والويلات. وسوف يعمل كل ما بوسعه ليثبت للعالم الذي تخلى عنه في أحلك الظروف انه هو العربي وهم العاربة، وأنه هو الذي يدافع عن عروبته وهم الذين يبيعونها في سوق النخاسة الأمريكي الصهيوني.
علي عبد العال
المصدر: محيط
إضافة تعليق جديد