أنور عبد الملك: المفكر الذي لا يهادن
«المهمة الأولى أمام المثقفين المصريين والعرب، في المرحلة الحاضرة، هي تحرير العقلية المصرية والعربية من اتجاهها الأسطوري، ودفعها نحو الاتجاه العلمي». هذه هي كلمات المفكر المصري أنور عبدالملك التي صدّر بها كتابه «دراسات في الثقافة الوطنية» عام 1967 في بيروت، وعام 2002 في مصر في طبعة ثانية. بين الطبعة الأولى من الكتاب ولحظتنا الراهنة، إذاً أربعة عقود كاملة: ترُى ماذا تحقق من هذه المهمة التي وضعها المفكر أمام المثقفين المصريين والعرب؟
مع انقضاء عام 2006 يكون المفكر المصري العربي البارز أنور عبدالملك قد سلخ من حياته ثمانين سنة، أمد الله في عمره، قضاها من حيث المهمة في البحث عن أفضل السبل في نفض التبعية العربية للفكر الغربي الاستعماري، وفي التخلص من الاستبداد والتخلف المحليين، ومن حيث المكان، بين القاهرة وباريس وسجن الواحات واليابان.
وإذ تحتفل الحياة الفكرية العربية بثمانين هذا المفكر النابه، لا بد من إلقاء نظرة عامة على عمله وجهده وإسهامه في مسيرة الفكر العربي الحديث.
«نهضة مصر»، «المجمع المصري والجيش»، «الجدلية الاجتماعية»، «دراسات في الثقافة الوطنية»، «ريح الشرق»، «الإبداع والمشروع الحضاري»، «الجيش في الحركة الوطنية»، «مدخل الى الفلسفة»، «تغيير العالم»، «الصين في عيون المصريين»... هذه بعض عناوين كتب أنور عبدالملك الذي فاز بجائزة الدولة التقديرية قبل خمس سنوات والتي كتبها بالعربية وله قدر مماثل من المؤلفات باللغة الفرنسية، فهو عاش في فرنسا محاضراً في العلوم الاجتماعية قرابة خمس وعشرين سنة.
«الوطنية والحضارة» كتاب يتصدى للإجابة عن سؤال مركزي في حراكنا العربي المعاصر، ألا وهو: كيف يمكن ان نقيم علاقة جذرية عضوية متصلة بين تحركنا الوطني التحرري المتجه الى الثورة الاجتماعية والهدف الاشتراكي من ناحية، وإقامة فلسفة تواكب هذا التحرك الذي فرض نفسه على العالم أجمع، تكون على وجه التحديد - فلسفة النهضة الحضارية في مصر والعالم العربي؟
هذا السؤال ورد في مقدمة عبدالملك لكتابه «الفكر العربي في معركة النهضة»، أما بعض ملامح الإجابة عن هذا السؤال فتتضح لنا حينما يقرر المفكر أن الفكر الوطني التقدمي ينطلق من نقطة بدء هي: إدراك أن الإطار الوطني هو وحده الإطار الذي تندرج في قلبه عملية التفاعل الاجتماعي والصراع الفكري والسياسي من أجل التقدم.
على هذا الأساس العريض لا بد لنا من إيجاد صيغة لتجميع القوى الوطنية وتعبئتها، نقصد ما دمنا في مجال الفكر فكل المدارس الفكرية الأصيلة في حركتنا الوطنية وتاريخها القومي في وحدة لا تنفصم، لكنها وحدة بين اتجاهات مختلفة، متباينة، تعتبر أن هذا الاختلاف أو ذلك التباين بينها لا يمثلان التناقض الرئيس، وإنما تناقضاً ثانوياً في عصر يعتبر التناقض الجوهري هو ذلك الذي نراه قائماً بين الإمبريالية وحركة التحرر العربية، بين الاستعمار الثقافي الغربي أياً كان لونه الإيديولوجي - ومجموع التيارات الفكرية النابعة من تحرك مجتمعات عربية حول قطاعاتها الأكثر تقدماً.
كانت تلك بعض ملامح رؤية أنور عبدالملك للنهضة العربية المنشودة، وصدرت عام 1974حينما ترجم بدر الدين عرودكي الكتاب الذي ألفه عبدالملك بالفرنسية قبل ذلك بسنوات أي في منتصف أو آخر الستينات، في عز وهج مشروع النهضة العربية والحلم القومي وحركة التحرر العربية.
وجرت مياه كثيرة في أنهار كثيرة، فهل ما زال الخطاب صحيحاً، والجواب هو نفسه؟ هل ما زال التوجه اشتراكياً في أي دولة عربية؟ وهل كان كذلك أصلاً في مصر أو في غيرها؟
أدرك أنور عبدالملك نفسه تقلب الحال وتبدل الدنيا وانقلاب المسارات ولذا نجد لهجة خطابه تغيرت. فها هو في كتاب أخير له هو «الإبداع والمشروع الحضاري» الصادر في تسعينات القرن الماضي يطرح سؤالاً جديداً: «هل من سبيل الى الحفاظ على مساحة من حرية القرار، لتحديد مسار يتفق وآمال الأجيال المتشابكة التي صاغت النهضة، نهضة مصر في قلب العالم العربي على رغم الانكسار والتردي، وتصاعد الهيمنة من المركز المتقدم على شعب العالم المحيط؟»،
في هذه اللحظة التاريخية تحديداً يقول عبدالملك - يصبح لزاماً علينا أن نعود الى الأركان الراسخة عبر الأجيال، نحدد إطار إمكانات إحياء القوى الكامنة من أجل إبداع المفاهيم والرؤى الجديدة القادرة على التعامل مع عالمنا المتغير، وتمكيننا من الإسهام الفاعل في صوغ العالم الجديد.
واتجهت أنظار المفكر المجدد الى حضارات الشرق - أليس هو صاحب كتاب «ريح الشرق» - ليفحص تجربتها الرائدة ويستلهم حلولها الخلاقة ومبادراتها المتميزة لتجاوز فجوة التخلف. كتابه الأخير، في هذا التوجه، هو «الصين في عيون المصريين» يرصد ظاهرة الصين العملاقة، ويفحص انطلاقها الصاروخي في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين لاحتلال مكان الصدارة في منظومة النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب والمراكز والثقافات، متسائلاً عن المنهج الذي ندرك به هذا «الصعود السلمي» العظيم للصين، نحو صوغ عالم متعدد الأقطاب. وهو يتحدث عن «طريق الحرير» القادم من الشرق، وعن معطيات وثبة حضارة الصين في العالم المعاصر، حيث تتبلور ارهاصات صحوة يمسك فيها الشرق الحضاري بمفاتيح المبادرة التاريخية حول دائرة آسيا الشرقية وفي قلبها الصين.
رأيت أنور عبدالملك للمرة الأولى، في الندوة الأسبوعية التي كان عبدالمنعم تليمة ولا يزال يعقدها في بيته كل خميس. كنا في أول السبعينات وكان منظره مهيباً، جميلاً، جليلاً: شعر أبيض، ووجه باسم بشوش، على طريقة محمد مندور أو يوسف وهبي أو حسين رياض أو أمين الجميل. ألقى في ذلك المساء البعيد محاضرة كانت بمثابة خلاصة فكره في ذلك الحين:
فكرة الجبهة الوطنية الديموقراطية بين التيارات والرؤى والأحزاب، تشكيل سياسي جامع شبيه بالاتحاد الاشتراكي العربي أو بحزب المؤتمر الهندي، مسار النهضة الوطنية من محمد علي الى عبدالناصر، الدور المركزي للدولة المركزية، المهمة الوطنية التي يمكن ان تنهض بها الجيوش الوطنية كبرجوازية عسكرية صغيرة في تطور دور العالم الثالث.
وغالب الظن أن الزمن خيب أمل المفكر الكبير في كثير من رؤاه وأشواقه، وعلى وجه الخصوص ما يتصل بمسألتي الدور الوطني للجيوش الوطنية في إقامة أنظمة حكم وطنية، وضرورة الحزب الجامع المانع (الجبهة الوطنية أو الاتحاد الاشتراكي). فها هي تجربة مجتمعاتنا العربية مع الجيوش «الوطنية» وقد آلت الى عسكريتاريا متحكمة استبدت بشعوبها وأفقدتها استقلالها وهويتها وأرضها واقتصادها وكرامتها، وبدلاً من مقاومة الإمبريالية الاستعمارية وحدها كما تمنى عبدالملك، صارت الشعوب العربية مطالبة بمقاومة إمبريالية الغرب وإمبريالية العسكر المحليين على السواء.
وها هي تجربة مجتمعاتنا العربية مع فكرة الحزب الجامع أو الجبهة الواحدة، وقد آلت الى ديكتاتورية الحزب الواحد، أو إلى طغيان أحد أحـزاب الجبهة الوطنية على قرارها ومسارها، أو الى فشل مستمر في العمل الجبهوي السليم، بسبب نقص جوهري في النخبة السياسية بخصوص فهم صحي «لضرورة الآخر» وفهم صحي لجدل الوحدة والتنوع.
من كل ذلك، نفهم لماذا يتحدث أنور عبدالملك، راهناً، عن «بدايات للتساؤل، والمراجعة النقدية، والسعي المتصل الى إبداع الفكر الجديد، والبدائل الممكنة، بعيداً من الجمود الفكري والقناعات المغلقة».
حلمي سالم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد