أدونيس: (قناديل من الدّمع)
(رسالة إلى صديق يمضي الأيّام الباقية من حياتِه في السٍّجن)
أيّها الصّديق،
العبوديّة التي نشَر السّلَف شباكَها لاصطياد التاريخ، ينشرُها التّاريخُ اليوم لاصطياد الخَلَف، وبخاصّةٍ في سوريّة والعراق.
استطراداً أيّها الصّديق، نجد أنّ «الهويّة» في هذين البلَدَيْن، كانت أوسع، تاريخيّاً، من أن تستوعبها الرّؤيةُ الوحدانيّة. وهذا هو السّبب الأساس لتحوّل»الهويّة» في هذين البَلَدَين إلى مجرَّدِ «أثَرٍ»، أو مجرّدِ ذاكرةٍ تتغذّى بالتنابذ والتّذابُح. غير أنّ اصطدام التاريخ الحضاريّ في هذين البلدين بخواء الخلافة العثمانيّة، من جهة، وهيمنة الاستعمار من جهةٍ ثانية، أيقظ البحْثَ من جديد عن» الهويّة الضّائعة». ولئن كانت المُمارَسة «الوحدانيّة» في سورية والعراق تَصدُر في الماضي عن «مُصَغّر» قبَليّ - عِرقيّ، فإنّها في حاضرنا اليوم، تتأرجح بين «تركيا العثمانيّة» والغرب المستَعمِر، وبينهما إسرائيل.
ولم يكن «الشّعب» في هذه المراحل كلّها إلاّ «كمّاً عدَدِيّاً. كانت هذه اللفظة في الاستخدام السّياسيّ - الإيديولوجيّ، اليوميّ، مجرّد هشيم، أو لكي نستخدم حروفها ذاتها، مجرّد «عشب».
منذ البداية كانت المشكلة العربيّة الأولى مشكلة الإنسان - الفَرد، وحقوقه وحرّيّاته.
لهذا ولأسبابٍ أخرى، تبدو الحرّيّة، في هذين البلَدين، كأنّها ثوبٌ لا يُلبَس: فهو إمّا أنّه قصيرٌ جدّاً، وإمّا أنّه طويلٌ جداً.
هكذا، تبعاً لذلك: يبدو تاريخُنا السياسيّ كمثل قصرٍ ضخمٍ لا يدخل إليه الإنسان إلاّ قاتلاً أو قتيلاً.
* * *
يا صديقي،
تبدو كأنّك لا تريد أن تُصغي إلى ما أقول. وكأنّني أسمعُك تكرّر عليّ اللازمة نفسها:
«مع ذلك،
يجب أن نبتكر حبراً آخرَ
لتدوين تاريخٍ آخر.
يجب أن نحلم بولادة إنسانٍ جديد».
* * *
لكنّ الجراح غارَتْ بعيداً بعيداً في هذا الجسم العربيّ، أو الأصحّ: في ما تبقّى منه، ووصلَت إلى قلبه: الشّعر. ونعرف أنّ الشعر يشفي جراحاً كثيرة، لكن لا شيء يشفي جراحه. نعرف أيضاً أنّ الشعر، الشِّعر في دلالته الكيانيّة الرّؤيويّة، إذا مات في البشر ماتوا، كما كان يقول أسلافُنا.
* * *
لا تتكلّمُ الكواكبُ إلاّ عندما تُضيء، يقول لنا الشعر. من الضّوء تصنع الكواكب أبجديّةً خاصّة. من أشعّة هذه الأبجديّة تصنع كلماتها. تصنع كذلك موسيقى خاصّةً بها. والكلماتُ تُلفَظُ ضوئيّاً. إضافةً إلى كونها تُلْفَظُ بألْسِنةٍ وشفاهٍ.
مرّةً رأيت هذه الكلمات ترقص على حبلٍ متينٍ يمتدّ بين التراب والشّمس. نعم رأيت ذلك. ورأيتُ كيف أنّ لهذه الكلمات قدرةً عجيبةً، لا تخترق النّفسَ وحدها، وإنّما تخترق أيضاً المادّة.
ويقول لنا الشّعر: عندما تُخطىء الريح في الهبوب، أو تُخطىء الغيوم في توزيع المطر على الحقول الجَرداء، تقوم الكلمات بما ينبغي لكي تعمّ العدالةُ والمساواة.
قد يتأخّر هذا الأمر لسببٍ أو آخر، فيسود الطّغيان والعنف. نرى مثلاً فأساً عتيقة تسحق رأس عصفورٍ لم يكَدْ يخرجُ من رحم أمِّه الطبيعة. ونرى سيفاً مفلولاً يروح ويجيء في عنق غزالٍ لم يُفطَم. ونرى سكّيناً تغوص في أحشاء وردةٍ لم يَحِن قطافُها.
وما أكثرَ الطّغيان والعنف بين أبناء الوطن الواحد، أو القبيلة الواحدة، أو العائلة الواحدة. أو بين هذا الحزب وذاك، هذه الطّائفة وتلك، هذا الفرد وذلك.
وأعرفُ صديقاً كاد يُجنّ عندما رأى حبلاً طويلاً من الرؤوس البشريّة المقطوعة يتأرجح بينها قاطعوها ويتناقشون في هل يُعَدُّ ذبحُ البشر فنّاً أم علماً أم ديناً؟
* * *
أعترف يا صديقي أنّ الخوف يكاد أن «يسرقني»: أن يسرق يديَّ وقدميَّ، إضافةً إلى شفتيَّ وأقلاميَ وحبرها.
وفي الخوف أخافُ أن يأتيني المَسُّ نفسه الذي جاءك مرّةً ، أيّها الصّديق، وروَيت لي ما أستسمحك أن أرويه بدوري.
قلتَ لي إنّك رأيتَ في خوفِك الذي وصَفْتَه - بطريقةٍ نادرة - هِرّاً أسوَدَ شارداً في الشّارعِ
يتحوّل أمام عينيك إلى هرٍّ أبيض.
وقلتَ : إنّك رأيتَ
كتاباً أبيض
تنطبع صفحاته بحروف سوداء تدعونا إلى أن نؤمن بها،
ولا نعرف أن نقرأها.
وقلتَ: إنّك رأيت كذلك
شُرَطيّاً يصعَد في الهواء،
ويتحوّل إلى غيمة.
* * *
أذكر أنّني في ضوء هذا الخوف، غيّرت من لهجتي كثيراً في نقاشٍ مع بعضهم، أرَدْتُه ودّيّاً وبسيطاً، وقصدت منه أن أتخلّص ولو قليلاً من جهليَ الكبير في كلّ ما يتعلّق بشؤون الغَيب، وبخاصّةٍ في جانبه الدّينيّ.
أرجو أن يتّسِع صدرُك أنتَ أيضاً لجهليَ الفاضح. فقد سألتُ بينهم مَن رأيتُه الأرجحَ عقلاً، والأوسع معرفةً وصَدْراً. قلتُ له:
لماذا يا أخي ننسى غالِباً أنّ السماءَ، كمثل الأرض، مليئةٌ بالقاطنين؟ ولماذا لا نتذكّر إلاّ الذين يغادروننا الآن ويصعدون إليها؟
تعلّمْنا منذ الطّفولة أنّ الموتى عندنا نحن العَرَب يموتون في الدّنيا، على الأرض، لكي يواصِلوا الحياةَ في السّماء. الموتُ عندنا انتقالٌ من بيت إلى بيتٍ أكثرَ اتّساعاً، ومن أرضٍ إلى أرضٍ أكثر جمالاً.
أرجوك، إن كنتَ متواضِعاً أو لا تريد أن تُفتي في هذه الأمور، أن تطرحَها، أو تُساعِدَني في طرْحها على بضعةٍ مختارةٍ من العلماء العارفين الأجلاّء،
راجِياً آمِلاً ألاّ يُعَدّ جهلي في هذه الأمور جريمةً أو كفراً.
* * *
إنّه الأفق، يا صديقي،
يبعث إلينا برسائلَ تبدو كأنّها قناديل من الدّمع،
نقرأ في ضوء هذه القناديل، أوراقاً مبَعثَرة لا رابطَ بينها. ولا أشكّ في أنّها ستثير الغضب عليّ. مع ذلك، أرجو من هؤلاء الذين سيغضبون أن يُمارِسوا ما يُعلنون أنّهم يؤمنون به ويدافعون عنه: الحرّيّة، والاعتراف بالآخر المختلف.
إسمح لي أن أرسل إليك ببعض هذه الأوراق:
1 - القتْلُ حفلٌ يوميٌّ راقص.
2 - كلاّ ليس في تلك الجثث حتى برودة الموت.
لماذا، إذاً، يتحدّث عنها بعضهم بمثل هذه الحرارة؟
3 - الفضاءُ كلُّه
يطير في جناحَيْ عصفورٍ خائف.
4 - ليس في بيت هذه النّجمة شمعةٌ واحدة.
لماذا، إذاً، يُصِرُّ الليل والغيْمُ والعواصف على حصارها الدّائم؟
5 - بعد هنيهةٍ، سأبدأ طوافيَ اليوميَّ في غابة الأساطير،
هل ستنتظرين أوراقي، أيّتها الرّيح الطّائرة؟ وأين ستُبَعثِرينها؟
6 - اعزفْ على البوق أيّها الغَسَق،
وعانِقْ أشباحَكَ:
ربّما كانت الأشباحُ هي وحدَها التي تقول الصِّدْق.
* * *
أيّها الصديق،
يقول عالمٌ اجتماعيّ فرنسيّ، جيرالد برونّير، في كتابه الأخير: «كوكب البشر»، ما معناه: إذا راقبْنا الحاضر وفرَضنا عليه الصّمت، فإنّنا نقطع الأمل بالمستقبل. وهو قولٌ يُضيء الواقع العربيّ الذي نعيش فيه. فنحن أبناء حضارةٍ نستخدم أدواتها ذاتها لكي نخرج منها. وإلى أين؟ إلى «هناك». إلى «ما وراءها». وليس لنا أن نسأل عن هذا الأمر أو نناقش فيه.
هكذا نعيش في حاضرٍ نُمنَع من الكلام عليه، متّجهين نحو مستقبل نُمنَع كذلك من طَرح أيّ سؤالٍ يُشكّكُ في وجوده.
نعيش كأنّنا لسنا في حاجة إلى الكلام.
والمسألة هي أنّه لا يمكنك أن تدخل إلى «هناك» إلا بعد أن تموت. وبعد أن تدخل لا يمكنك أن تخرج.
الحياة الحقيقيّة هي، إذاً، بعد الموت.
كان بعض البشر الذين يوصَفون بـ «التوحُّش» يعلِّقون على الجدران أمعاء الغزلان التي يصيدونها، طلباً لعفو الطبيعة ورحمتها وبركاتها الكونيّة.
اليوم يعلِّقُ بعضُ البشر الذين ينتمون إلى الحضارة الحديثة، رؤوسَ البشر على الأعمدة وفي الشوارع.
احتقار الإنسان واحتقار الأرض التي يعيش عليها يطـــرحان على كلّ ذي بصـــيرةٍ هذا الســـؤال: هل الإنسان في حاجةٍ إلى الأرض؟ وهو سـؤالٌ سرعان ما يتجدّد، لكن في صيغة ثانية هي التالية: هل الأرض في حاجةٍ إلى الإنسان؟
ربّما أطَلْتُ عليك أيّها الصّديق. أرجو أن تعذرني. وسأحاول أن أزورك في سجنك، في الأيّام القريبة المقبلة.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد