«أول الحكاية» تظاهرة مسرحية في دمشق.. فناجين قهوة للغائبين
لا يزال «المعهد العالي للفنون المسرحية» بدمشق، وبرغم العديد من التغييرات التي طالت العديد من كوادره التدريسية، ودفعت بالبعض الآخر من أساتذته وطلبته للهجرة إلى منافي الشتات السوري؛ لم يزل مواظباً على العديد من الفعاليات الموازية لبرامج الأكاديمية الدمشقية الأعرق في سورية؛ ففي «التظاهرة المسرحية - أول الحكاية»، (*) تجلى جهد طلبة الأقسام الخمسة في المعهد؛ مسانداً من قِبل متخرجي هذه الأكاديمية التي افتتحها كل من أديب اللجمي وسعد الله ونوس وأسعد فضة وآخرون منذ العام 1977.
أمسيات شعرية وموسيقية وعروض مسرحية وراقصة قدّمتها هذه التظاهرة التي تعدّت هذا العام مفهوم الأسبوع الثقافي للطلبة، نحو تكريس ما يشبه مهرجاناً مصغّراً للنخبة المسرحية، فمن المعروف أن جمهور هذه التظاهرة وبسبب ظرف المكان وضيق مسارحه، اقتصر جمهوره على طلاب وأساتذة وبعض المهتمين بالحركة الفنية، فبعيداً عن المسارح الكبرى في العاصمة؛ تتميّز مسارح المعهد وقاعاته؛ بقربها إلى مجمع مختبرات ومحترفات ثقافية محدودة بعدد كراسي متفرجيها، لكونها في الأصل مخصّصة لعرض مشاريع تخرّج الطلاب وامتحاناتهم.
اليوم الأول من هذه الفعالية كان مع احتفالية مسرحية حملت عنوان: «قمر شام» - شعر وموسيقى في حضرة المسرح - خشبة فواز الساجر» تخلّلها أداء شعري لكل من «كفاح الخوص» و «عدنان أزروني» والشاعرة «وئام الخوص» وذلك بمشاركة للمغنيّة «ميس حرب» برفقة كل من: «أحمد اسكندراني - ناي - طارق المسكي - غيتار - لؤي البشارة – عود». إذ أدت «حرب» مقتطفات من أغاني الرحابنة، كان أبرزها: «وجهك بيذكر بالخريف».
مسرح غنائي سينمائي
محاولة للانعتاق أكثر فأكثر من الشكل التقليدي للمسرحية الدرامية؛ نحو مسرح غنائي شعري لم يكتفِ بهذه العناصر وحسب؛ بل مزجها بالسينما عبر فيلم «المقدمة» لـ «يزيد السيد» الذي قدّم بدوره ما يشبه ألبوماً شخصياً عن الرقص؛ مستعيراً مخيلة أبرمها «الخوص» مُعِدّ ومشرف اليوم الأول من هذه التظاهرة؛ إذ يمرّ بشارع العابد؛ مُقتحماً «مقهى الروضة» ليجده فارغاً من زواره الذين غيبتهم الحرب، فلا يكون منه إلا أن يطلب من النادل عشرات فناجين القهوة للغائبين عن كراسي المقهى الدمشقي العريق.
محاولة للتشكيل في الفضاء كان مع عرض لطلاب قسم الدراسات المسرحية حمل عنوان: «قراءات مسرحية - وجوه وحكايا» نص وإخراج: «ميسون علي» التي ولّفت نصوصاً عدة عن الحرب السورية لكل من «خليل صويلح، خولة دنيا»، وقصائد لكل من «محمود درويش؛ وبول فاليري». هذا النوع من العروض قام بأدائه كل من «المهدي شباط، مجدي المقبل، منار نقشبندي، ليلاس العربيد، جيهان مملوك، يزن صالح»، بمرافقة عازفة الكمان «راما البرشة» وبحضور سينوغرافي لافت للوحة من تصميم «يزن قرموشة» تسيّدت عمق خشبة المسرح الدائري بالمعهد لظلال من خراب خلفته سنوات الحرب.
إحدى لوحات هذا العرض، قالت: «سوريا تحولت إلى جنازة كبيرة، لا أرض يستريح عليها الموتى؛ لا سماء تمنحُ ظلاً يرتاحون عليه؛ لم يعد لدينا خشب لمزيد من التوابيت؛ لقد أحرقوا الغابة». مقاربة أنجزتها «علي» هذه المرة عبر لازمة الحرب واقتتال الأخوة؛ تاركةً المساحة لطلابها كي يخرجوا من دروس النقد إلى مواجهة الجمهور، عبر متتالية شعرية موسيقية يتخذ فيها صوت الممثل جسداً مفارقاً لجسد الممثل الاعتيادي؛ نحو ما يشبه «بوليفونيا - تعدّد أصوات» عن موتٍ سوري واحد؛ راكمته الحرب مثلما راكمه الخراب والغبار الممزوج بدماء عشرات آلاف الضحايا.
تنويع مستمرّ للتظاهرة التي استمرّت ستة أيام متواصلة؛ ليكون أبرز عروضها بمسرحية: «النافذة - استوديو 4» عن نص «إرينيوش أردينسكي» وإخراج «مجد فضة» وفيها نتعرّف على حكاية كل من الزوجة «جفرا يونس» والزوج «مازن الجبة» في محاولة لجس نبض عدمية الحياة الزوجية؛ والضجر الذي من الممكن أن يحول كل من الرجل والمرأة إلى لعبة أدوار لا نهائية؛ محض وجوم أمام نافذة ينتظر منها الزوج بريق ضوء يغيّر روتين حياته القاتل، لينقلب هذا الهوس إلى ما يشبه العدوى لدى الزوجة التي ترضخ في النهاية لهواجس الزوج وعاداته العبثية.
مسرح الغرفة
مقاربة لمسرح الغرفة عبر فضاء مصغّر عن بلاتو الأستوديو التلفزيوني؛ يبدو عرض «النافذة ـ آفاق» من خلاله نسخة عن مسرحيات معقّمة؛ شخصياتها لا لون لها ولا رائحة؛ بل هي مجرد أمثلة بشرية عادية للغاية؛ حاول الممثلان «يونس والجبة» تقديمها كشخصيات محايدة تماماً لظروف الحرب ومآلاتها؛ معوّلين على حميمية الفضاء الذي يلعبان فيه؛ مرةً وفق شرط مسرح طبيعي، ومرةً على أنغام أغنية طربية عن الضجر والأنس بصوت الراحلة «وردة الجزائرية».
المسرح الجسدي لم يغب عن «أول الحكاية» حيث قدّم المخرج حسين خضور للمرة الثانية عرضه «زيارة ذاتية - مواطنون فنانون» بعد عرضه منذ أشهر قليلة فقط على مسرح الاستعمالات المتعددة في دار أوبرا دمشق. حضرت رواية «الحمامة» للألماني باتريك زوسكيند كنص موازٍ لهذه المسرحية الحركية التي أداها «خضور» بشكل لافت عن رؤيا للدراماتورغ هبة محرز وموسيقى حسين عطفة.
الإعداد الحر لرواية صاحب «العطر» حاكى قسوة الحياة لحارس بنك؛ عاش في مدينة دمشق خمس سنوات بين الغربة عن عمله الروتيني والغربة عن محيطه؛ ليجد لنفسه في هذه التوليفة استقراراً وهمياً سيتحطّم في أحد الأيام الخريفية من العام 2010 أمام تفصيل اعتيادي؛ فتتغيّر حياة حارس «بنك الانفتاح» هذا ليكتشف زيف الفقاعة التي عاش فيها طيلة كل هذه السنوات؛ مُنيهاً حياته بالانتحار.
قصة عكست بنمطها التجريبي فداحة الخسائر التي من الممكن أن يدفعها الكائن الإنساني؛ جراء مكابدته الداخلية المضنية؛ والعزلة التي تفرضها ظروف العمل وشروطه المهينة في مجتمع تحوّل سوقاً كبيرة؛ حيث استطاع مخرج العرض ومؤديه أن يجسد هذه الرؤيا بأسلوبية قاربت الرقص الحركي؛ موظفة الحركة هنا كمادة درامية بحتة؛ مكّنت الراقص من الانتقال بسلاسة من البيت إلى مكان العمل والشارع.
تلقائية حركات الأرجل والأيدي وفترات الصمت المنتقاة بين تغيير المناظر المسرحية على الخشبة، نقلت بعمق حجم الوحشة التي وصل إليها إنسان الألفية الثالثة؛ بعيداً عن الحوارات المطوّلة في المسرحيات التقليدية؛ إلا أن مؤدي العمل بدا شخصية خرساء أكثر منه شخصيةً صامتة. انطباع عن مونودراما راقصة تجاوزت فن التمثيل من دون أن تنسى قوالبه الجاهزة، فحافظت على بلاغتها الجسدية؛ من دون الاعتناء، كما يجب بتعابير الوجه وعلاماته الفارقة.
(]) 12- 17 تشرين الأول الحالي
سامر اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد