حين يسرق المسؤولون الإبداع أيضاً

22-06-2012

حين يسرق المسؤولون الإبداع أيضاً

كانت المرة الأولى التي أحس فيها بإثارة اكتشاف تشابه نصين روائيين، أو كما صرخت في غضب: سرقة أدبية! حين اكتشفت تشابه نصين، واحد روائي مصري للكاتب المصري الراحل أمين يوسف غراب، والآخر للكاتب الفرنسي الفونس دوديه، وكان النص المصري يحمل اسم "شباب امرأة"، أما الفرنسي فيحمل اسم "سافو" وكان التشابه الصارخ في الروايتين هو في الشاب الريفي الطالب الجامعي الممتلئ بالعافية والشباب والسذاجة، هذه الصفات التي ستجعله شديد الإغراء والجاذبية لامرأة مدينية قارحة، ناضجة طبعاً توقع بالشاب، وتستغل شبابه حتى القطرة الأخيرة، وحتى دماره الجسدي والروحي.
كان اكتشافي هذا زمن انعدام التسامح عند شاب لم يبلغ العشرين من عمره بعد، وكان العالم بالنسبة له أبيض وأسود فقط، وليس من ألوان أخرى رغم امتلاء الحياة بمئات التلاويين، وربما كان هذا سبب انفعالي الشديد في ذلك الحين وتصريحي لكل من أعرف باكتشافي هذا في ذلك الحين، ولم أكن قد قرأت ديوان شعر أحمد عبد المعطي حجازي "مدينة بلا قلب"، ولم أقرأ إلحاحات ممدوح عدوان الشعرية عن المدينة وإفسادها براءة القادم الريفي اليها، ولم أقرأ رواية لسوري لم يكتب سواها وهي "حبيبتي يا حب التوت"، التي لم تلبث أن تحولت إلى فيلم سينمائي عبر مؤسسة السينما السورية، ولم أكن قد اتخذت جانبي السياسي والحياتي من الأدب حين صرت ألاحظ أن هذه الثيمة كانت قد صارت ثيمة أساسية في العالم العربي الذي خرج مثقفوه أو متعلموه منذ الخمسينيات من الريف في معظمهم، ونزلوا إلى المدينة مع حزب ظن نفسه غازياً أو مقتحماً للمدينة كما رأينا في "الزمن الموحش" لحيدر حيدر، أو محرراً ومزيحاً للبرجوازية الفاسدة ـ هذا التعبير الذي سيتحول إلى أيقونة - كما رأينا في الجيل المصري الذي قدم مع عبد الناصر في مصر، ومع عبد الكريم قاسم في العراق الخ.
هذه الثيمة المبكرة لدى أمين يوسف غراب في تشابهها مع رواية دوديه "سافو" لم تلبث لكثرة تكرارها وإعادتها أن بهتت أهميتها، فقد صارت تياراً، وصار علي أن أبحث عن سبب آخر غير السرقة الأدبية، فلا يمكن لجيل كامل أن يكون لصاً أدبياً، وكان ما أقنعت نفسي به أن هذه الكتابات ليست إلا احساساً مبكراً من جيل قدم إلى المدينة بعد تعليم متواضع مقارنة بتعليم المدينة، ولكنه كان انفجاراً بالنسبة للريف الذي لم يتحرر من عبودية الأرض التاريخية إلا بهذا التعليم المتواضع، ثم لاحظ هذا الجيل أن ما سماه (الفساد) أو قوانين المدينة في تسيير أمورها لم يلبث أن امتص هؤلاء الريفيين فأدرجهم في ماكينة الدولة وظهر فاسد والريف، ولم يكن وعي كثير من هؤلاء الريفيين كافياً ليعرف أن الفساد موجود في بذرة الانسان إن لم يجد قانوناً يوقفه عند حده، ولا علاقة له بالريف أو المدينة، بل منشأه الأساسي هو الظرف الحياتي والضعف القانوني في المدينة التي حكمها الريف المتعسكر فريّفها، ثم لم يستطع ايجاد قانون يعدل بين الجميع ويكون هو أول الخاضعين له، فهو قادم مع ثورة لم يستطع اخضاعها للقانون فهو ثوري اجتاز مرحلة القوانين البورجوازية!!!
وحين أراد بعض هذا الجيل التعبير أدبياً عن سقوط الجيل الريفي الحاكم لم يجد معادلاً موضوعياً أمامه إلا الجسد، فجعل من المدينة امرأة شهوانية تستغل قوة وسذاجة الريفي لتملص حيويته حتى القطرة الأخيرة، وهكذا اعاد إلى ثيمة الجسد، الثيمة الريفية أساساً، وترك ثيمة الفساد الاقتصادي والسياسي، والضعف القانوني، الأمر الذي أدركه الباريسي إميل زولا ابن القرن التاسع عشر والذي عاش المرحلة نفسها التي يعيشها العالم العربي الآن من فساد الطبقة الحاكمة بعد سقوط نابليون الثالث، والتي ضعف القانون فيها وحيّد لتسرح هذه الطبقة وتمرح على كيفها، فكتب روايات تبدت عاطفية أو جنسية "نانا وأخواتها" في البدايات، ثم وصل إلى ذروته في رواية الوحل والتي يتحدث فيها عن سقوط البورجوازية العقارية ذات الأصول المختلطة بين مدنيين وريفيين، ولكن الفساد وحّدهم، فحولوا باريس كلها إلى عقار يباع ويشترى وليس من مهتم بالقانون فالقانون اتفاقي يقع تحت طائلته الفقير والعاجز والمجرد من الوساطات أما الغني، وصاحب العلاقات، ومستخدم قوة المال، الرشوة والنساء، وما أكثرهن في روايات زولا، فلا يستطيع القانون الإيقاع به، فالقانون أمر يقع تحت طائلته الفقير والضعيف والعاجز فقط.
ألف ليلة وليلة
في ما بعد، وبعد اكتشافي لمفاهيم التناص، والاقتباس وتشابه الظروف التي تجعل الكتاب يكتبون ما يبدو متشابهاً بدأت أنظر إلى ما يسمى بالسرقات الأدبية بكثير من التسامح، ثم لما ازدادت هذه التشابهات - السرقات، وصار متصيدو الفضائح يكثرون الكتابة عنها صار من الواجب ملاحقتها ومعرفة الجدي منها من المفترى عليه، والمفتري فيها، فليس من المعقول افتراض أن كتاب ألف ليلة وليلة قد سرقوا رحلات السندباد من الأوديسة المنسوبة إلى هوميروس، وكلا النصين لا يعرف منشأهما الأصلي، والشرط الأول للسرقة الأدبية هو معرفة المبدع المسروق والسارق، أي المبدع الأول والمبدع التالي، ولكن ألف ليلة التي لا كاتب معيناً لها، فليس من المعقول توجيه أصابع الاتهام إلى حضارة كاملة على أنها سارقة أدبية، بل على العكس يمكن لنا ان ننظر إلى ألف ليلة على أنها شريحة جيولوجية للثقافة الاسلامية التي ورثت الثقافات الكلاسيكية بدءاً من الثقافة الفرعونية والفارسية والاغريقية والشامية وحتى الثقافة العربية العباسية في بغداد، فكيف لنا أن نقبل فكرة طائر الرخ العملاق في ألف ليلة الذي يتعثر به سندباد في احدى رحلاته، ونحن (الآن) نعرف أن مبدع هذه الثيمة كان كاتباً سورياً من العصر اللاتيني المبكر سياسيا (120 م) ميلادي، والهلنستي المتأخر ثقافياً وأعني لوقيانوس أو لوسيان من سميساط المدينة الواقعة الآن ضمن الجمهورية التركية مثل مدن سورية أو سوريانية حضارياً وثقافياً مثل حران وأورفة الخ.
وعلى العكس فنحن حين نقرأ الآن عن اصطدام السندباد (عوليس) مع الرخ (الأليسون عند لوقيانوس) نستطيع أن نقرأ الحضارة الإسلامية التي امتصت وخلطت وأعادت تصنيع أدبين كلاسيكيين في أدب جديد هو أدب الحضارة الاسلامية، ففي الأوديسة ليس من وجود للرخ، وفي الأليسون للوقيانوس ليس من سندباد أو عوليس، ولكن المبدع المسلم جمع الثيمة الإغريقية الكلاسيكية مع الثيمة الهلنستية السورية وخرج بشكل عربي جديد خاصة أنه استخدم للبطل اسماً هندياً سندباد، أو السندآباد.
وإذن فهل نستطيع تسمية كاتب هذا النص في ألف ليلة باللص الأدبي؟ لا أظن أننا نستطيع ذلك، بل يمكننا تسميته بالمتثاقف أو القائم بالمثاقفة، أو مستعير الموتيفات من أدب إلى أدب والقادر على إعطائه الهوية الجديدة بحيث لا يستطيع غير المتمكن ملاحقة المستعير والتأكد من أن ما تم كان تعمد استعارة، أم إنه كان مجرد استيحاء ما ظنه خيالا شخصياً أو ذكريات ثقافية، وليست إلا استعارة من أدب انقطع عن المعاصرين (العباسيين) بسبب انقطاع اللغة والحضارة كما حدث للحضارتين واللغتين اليونانية واللاتينية من بهوت مع سيطرة وانتصار العربية القرشية في الشرق العربي الذي صار مسلماً.
في ما بعد، ومع ظهور عبقري الشعر العربي المتنبي كثر الناقدون والمتسقطون والرافضون، وبدأوا يبحثون عن ثغرات في هذا الهرم، وهكذا كثرت كتابات ـ سرقات المتنبي ـ وربما كان هذا التعبير من التعبيرات المبكرة المتابعة لسرقات الشعراء من بعضهم البعض، وأمامي الآن ما كتبه الثعالبي عن سرقات المتنبي، والثعالبي ليس من حاسدي أو أعداء المتنبي، بل كان من أشد المعجبين به، ولكنه أراد أن يناطح العَلَم الكبير بإبداء أنه ليس عصياً على النقد والسرقة. وها هو يذكر تشابهات أو كما سماها سرقات من أشعار أبي تمام أو ابن المعتز.
فها هو المتنبي يقول: وتكسب الشمس منك النور طالعة/ كما تكسّب منها نورها القمر. وقد أخذه من ابن المعتز: البدر من شمس الضحى نوره/ والشمس من نورك تستملي. وقال المتنبي: همام إذا ما فارق الغمد سيفه/ وعاينته لم تدر من أيهما النصل/ وقد أخذه المتنبي من أبي تمام: يمدون بالبيض القواطع أيديا/ فهن سواء والسيوف قواطع. إلى آخر ما تصيده الثعالبي وغيره عن المتنبي، والحق أن هرما بحجم المتنبي لا يضيره سهوة هنا أو نسية هناك، فهرمه أكبر وأعظم من هذه السقطات.
نجيب محفوظ
أما في عصرنا فالكل يذكر الروائي الأميركي الزنجي أليكس هيلي الذي اشتهر بروايته "الجذور"، والتي تحولت لى مسلسل تلفزيوني كاسح تحت الاسم نفسه، ثم تقدم كاتب مغمور فأعلن أن فصلاً من رواية "الجذور" قد سرق بكامله من كتاب صادر له وأحيل الأمر إلى المحكمة في الولايات المتحدة، والتي تداولت مع محكمين في الأمر طويلاً، ثم أعلنت أن الحق مع المدعي وغرمت أليكس هيلي بدفع مبلغ مالي بالملايين تعويضاً للمدعي، ودافع هيلي عن نفسه بأن مساعداً له قد جاءه بهذا النص مدعياً أنه من ذكريات قريبة زنجية له الخ.
وطبعاً كلنا قرأ ما كتب عن الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ وعن ثلاثيته الشهيرة وعن كونها قراءة محلية لرواية غولز وورثي ـ ملحمة أسرة الفور سايت ـ وكلنا قرأ ما كتب عن روايته "ميرامار" وعن كونها ليست إلا معارضة parody لرواية لورانس داريل "رباعية الاسكندرية". ولكن هل يسمى هذا بالسرقة الأدبية؟ لا أعتقد، فكل ما يقال من نجيب محفوظ الأب والأستاذ، وصانع اللغة الروائية العربية الجديدة ليس إلا صورة أخرى مما قيل عن المتنبي في عصره.
المهم وربما كان ما سنقوله له الآن متأخرا، فأنا لم أتساءل حتى الآن: ما هي السرقة الأدبية أصلاً. أهي سرقة كتاب كامل (الجمل بما حمل) وقد سمعنا عن هذا عدة حالات. وهذا أمر لا يفعله إلا صغير عجز عن الإبداع أو الإتيان بجديد، وهذا يكفيه الفضح، فالتعويض أو الغرامة أمر غير معروف في العالم العربي عموماً، بل ربما لو كان السارق أقوى من المسروق، أو معروفاً بدرجة أكبر، أو ذا منصب (وهذا شديد الأهمية) فلن يفيد المسروق من فضح السارق شيئاً، ولن يناله من هذا الفضح إلا الانتقام من القوي وهو قادر عليه، وقد سمعنا عن عدة حالات كهذه، ثم هناك من استكثر من أقوياء البلد الذي استولوا على كل شيء أن يوجد مثقف أو مبدع لا يقيمهم كما يظنون أن من الواجب تقييمهم، فلجأوا إلى منافسته بالشهادات العلمية والتفوق عليه وذلك بالحصول على شهادات الدكتوراه التي لم يحصل عليها المبدع المعني، وكانت هذه الشهادات غالباً ما يحصلون عليها من الاتحاد السوفياتي أو روسيا الحالية، وهي شهادات مشبوهة الكاتب - المؤلف، مشبوهة المصدر، مشبوهة النوال، ولكنها كافية لقلع عين كل من لا يقدرهم من المثقفين، ثم لم يكتفوا بهذا فصاروا يكتبون الشعر، وكلهم يكتبون الشعر، ولما تضاءل دور الشعر انصرفوا إلى كتابة الرواية، وكثير من المسؤولين يكتبون الآن أو منذ بضع سنوات روايات يتهافت النقاد السوريون على إبداء انبهارهم وإعجابهم بها. وهكذا أحكم الاقوياء والمتنفذون في سوريا الاستيلاء على كل منجزات الشعب، ليس الاقتصادي ولا القانوني، بل حتى الإبداعي. والسؤال هل يعتبر هذا العمل سرقة أدبية والجميع يعرف اسم من يعيد صياغة هذه النصوص ومن يوزعها، وكيف تفرض على نوافذ قروض المصارف، والزراعية تحديداً ولا يمكن للمقترض أخذ قرضه إلا لو حمل القرض عدداً من هذه النصوص الخارقة. والجميع يعرف من يروج لها.. وإذن، هل السرقة الأدبية هي ادعاء شويعر لديوان شاعر توفي مبكراً مثلاً، أم من يوزع إبداعاته قهراً، ويجند أجهزة الدولة للترويج لإبداع لا يمكنه أن يصمد في أي جو صحي طبيعي مفتوح النوافذ للريح.

خيري الذهبي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...