وطن يتفتح للحرية لا يتنفس غاز الدوحة

12-06-2012

وطن يتفتح للحرية لا يتنفس غاز الدوحة

كل شيء يمكن التخلص منه عندما نحوّله إلى موضة، التقليعة تعمل خادماً مخلصاً في دار الفناء الدنيا، الأميركيون على «روحانيتهم الهوليودية» عرفوا ذلك جيداً، فأبناء اكتشاف كولومبس دجّنوا كل شيء، من الديناصورات وحدائقها إلى حاملات الطائرات الجبّارة، تاركين الهنود الحمر في متاحف السينما و«الرقص مع الذئاب» لكن تبقى تربية النخب هي الصناعة الأبرز في صناعاتهم الثقيلة، بل يمكن على متن حاملة طائرات بحجم «دولة غاز» أن تُفحمك بتفوقها على مصنِّعِها الأول، فالـ«إف 16» الرابضة في تحصيناتها داخل قاعدة «العديد» تبعد 30 كم عن منتجع كتارا قادرة على ما يبدو على أن «يتفتح منها وطنٌ للحرية»! كيف لا والطائرات الأميركية التي قصفت بغداد عام 2003 وقتلت وشرّدت ملايين العراقيين، هي نفسها من ترابط الآن هناك لحماية عروش أكثر ملوك وأمراء أنظمة الرجعية والظلامية تخلّفاً في العالم؟ هناك في «كتارا» يطيب المقام، هناك حيث «الحي الثقافي» السياحي المحض تزدهر الحرية في ربوع ملاعب الغولف والتنس ومصحات طيور «الأمير المفدّى».
 
من هناك ستسترد لنا النخبة الهاربة حريتنا، تلك النخبة التي تركتنا في ميعة التضحيات الكبرى لتبكينا على صفحات الفايسبوك بعد أن كانت تقيم الأنشطة الثقافية «شاعرات عربيات مثالاً» برعاية القصر الجمهوري، هل يصدق هؤلاء فعلاً أن الحرية تتفتح عندما تتنفس غازاً؟ هل شاهد «المثقفون السوريون» النائمون الآن في منتجع «كتارا» التلفزيون القطري الرسمي قبل أن يختاروا حاملة طائرات بحجم قطر لتقديم أمسياتهم الفنية والثقافية على أراضي محمياتها؟ هل شاهد «فنانو الثورة ومثقفوها» كيف يتلو المذيع القطري نشرة الأخبار مذيّلاً بداية كل فقرة منها بجملة: «سموّ الأمير المفدّى حفظه اللـه ورعاه»؟! ثم لماذا من الدوحة «يتفتحُ وطنٌ للحرية»؟ أما كان أجدى بالقاهرة أو تونس أو بنغازي بذلك، تلك المدن التي انتصر فيها «الربيع العربي» على طغاته أم إن الغاز ضروري هنا من أجل «التفتح»؟
غريب فعلاً أن تشرف موظفة تنفيذية في قناة «الجزيرة القطرية» على مهرجان ثقافي للثورة، متزعمةً مع عضو الكنيست الإسرائيلي عزمي بشارة مشهد الدفاع عن سورية، غريب أن يُقدم الدم السوري كمادة للفرجة العامة، كفحوى لكرنفال تراجيدي من هذا الطراز وهذا الدم لم يجف بعد، بل لم يتوقف عن الجريان في كل لحظة؟ والأغرب أن تُدس أسماء الراحلين من المثقفين السوريين في منتجع «كتارا» على أنهم تواقون لتنسم الحرية مخفوقةً بالغاز المُسال؟ مطبوخةً بصرياً بجثث الشهداء. ما يحدث في الدوحة مريب وليس بريئاً، لا يمكن استيعاب الفكرة على دهائها و«ملائكيتها».. من يستطيع أن يشرح للسوريين الذين يموتون يومياً أن كرنفالاً يقام بمعيتهم في «كتارا»؟ كيف سيصفح الشهداء عن «شيلوكاتهم» من شايلوك» النائمين هناك في أفخم فلل خصصها «سموّ الأمير المفدّى حفظه اللـه ورعاه» لضيوفه؟ من يشرح لنا سِرّ حماسة هؤلاء لإقامة مثل هذه النوعية من التظاهرات على أرض استقبلت قبلهم طالبان، الحركة الأشد تطرفاً في العالم التي هدمت تماثيل البوذيين «أصنام الكفرة» أهم الآثار المسجلة على قائمة التراث الإنساني، تماماً مثلما استقبلت مكتباً تجارياً فوق العادة لإسرائيل منذ عام 1996، وهي الآن – للأمانة - تقيم احتفالية «سورية وطن يتفتح للحرية»؟ هل فكر هؤلاء «الثوريون» أنهم بهذه الفعالية السياحية يحوّلون «الثورة» إلى موضة، فمن المعروف أن أي موضة تبطل وتزول بمجرد التزامها بمزاج السوق وأخلاقه، فكيف إذا كان هذا العرض في فاترينات الخليج واهب المحار والردى والحريات؟! الخليج الذي لا يزال يتعامل مع نسائه على أنهن عورات ناقصات عقل ودين، الخليج الذي يمنع المرأة من حضور مباريات كرة القدم ويحكم عليهن بالجلد حتى الموت في حال تجرّأت وفكرت مجرد التفكير بقيادة السيارة حتى داخل حرم الجامعة التي تدرس فيها؟ الخليج الذي حرّم شيوخه الخيار والجزر والموز بفتوى جامعة مانعة لكونها «خضار لها أشكال غير بريئة»! يا عمي لماذا لم تذهبوا إلى عواصم البلاد التي انتصرت فيها الثورة أم إن خشخشة أكياس الريالات تعشق قبل العين أحياناً؟ لماذا لم تُفحموا خصومكم وخصومنا وتصرخون: لا لن ننام في منتجعات الخمس نجوم، لن نجرّب الساونا والخبز المعجون بالتمر والسوريون يموتون وهم نائمون في بيوتهم، سننام هناك في خيمة ننصبها بأيدينا وعلى نفقتنا الشخصية في أحد شوارع العاصمة القطرية الأكثر فقراً؟ فنحن لا نستطيع النوم الآن في «كتارا» وأهلنا يموتون هناك، نحن لا نستطيع التهام السمك المدخّن وأطفالنا يُقتلون مجاناً على قارعة التاريخ؟ نحن لا نطيق وفادة «الأمراء المفتدين» وغلالنا تُحرق وجنود جيشنا يموتون على شاشات «الرأي والرأي الآخر» بصيغة «جيش مُحتل غاصب» على حين محللو العدوّ الإستراتيجيون يسخرون من حماقاتنا، يراقبوننا ونحن نغرس سكاكين جهلنا في صدور إخوتنا حتى المقابض، وكيف أن «شاليطاً» واحداً بادلوه بألف وثلاثة عشر أسيراً عربياً من فلسطين! فكيف بالله عليكم يضحك عمر أميرلاي في صورته الزرقاء وأنتم تطلقونه من دوحة الأمير المفدّى؟ كيف للطوفان أن يعبر وأنتم تمزجون الدم السوري بالغاز المُسال، والمسرح بحريم السلطان، والسينما بوجوه المذبوحين، والكاريكاتور «بشاروخ الأمير» والأغنية بناطحات السحاب، والصورة الفوتوغرافية بأجنحة آلاف ستة عشر، واللوحة التشكيلية ببدلات الكوميندوز الأميركي؟ كيف لأجنحتنا التي تنهض الآن من هذا التوحّل، أن تصدق فخامة الأجنحة الأميرية التي تنزلون فيها «بكتارا»؟ كيف للقصيدة ألا تطمرها الرمال ويخنقها الغاز؟ كيف نعيد إشارات المرور في مدنٍ سورية للعمل وأنتم تلوحون لطائرات «العديد» أن اقصفي لنا هناك من أجل أن نتفتح للحرية؟ أرجوكِ يا طائرات.. اقصفي لنا هناك كي نفرح بالحرية، وكي لا يرددون: «صحيح اللي استحوا ناتو»!. «يا حيف».. حقاً يا حيف أن نخسركم في غرف الغاز تلوّحون لنا وأقدامكم تميد في رمال كتارا، على حين يُتِمُ قاسيون دورته «ولا يتعب» حاملاً عماراته وسكانه، حتى إن قسا علينا هو أبونا الذي لا نرفع نظرنا في وجهه إلا لنتطلع من سفحه إلى دمشق، لكن في «كتارا» تزداد رطوبة النجوم الحمراء، يزداد الشعور بالاختناق والندم، فأنتم سوريون في النهاية، لن تروقكم منتزهات «الأمير المفدّى» ولا أجواءه الحامضة، فلا يمكن أن يكون هو أمير سانت أكزوبري، لا إطلاقاً ليس «الأمير الصغير» ولا هذا كوكبه ولا «أرض بشره»، ولاسيما عندما يرمقكم «سموّه» شذراً ويصافحكم فرداً فرداً سائلاً إياكم: كيف وجدتم طعم الغاز في مضاربنا؟ فتجيبونه قانطين: الغاز قابل للاشتعال يا أميرنا المفدّى، لكنه الفيل يا ملك الزمان من يشعر بالوحدة، ويحتاج إلى فيلة هندية كي تؤنس وحشته وتملي عليه أيامه بذريّة من عشرات الفيلة الصالحة القابلة للتفتح متى شاء سيافك المسرور وكيس دنانيرك.

سامر محمد اسماعيل

المصدر: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...