رد على ردود: علم جمال العبيد
غنية هذه الحياة الثقافية السورية، فعلى الرغم من خمودها الظاهر، كلما أمعنت فيها نظراً كشفت لك ستراً جديداً من مخبوئها. ربما يلزمنا اليوم جبرتي جديد أو البديري الحلاق ليسجل لنا وقائعها، ويحلل عناصر تفاعلاتها، ويلمس إن استطاع محركاتها الباطنة. من تلك الظواهر المسكوت عنها ظاهرة الانتفاع الثقافي من السلطة السياسية.
في صلب الحياة الثقافية فئة من المثقفين الذين يجدون أنفسهم، في ظل انسداد أفق التغيير، مدفوعين إلى الاقتراب من أطراف في السلطة السياسية، والدخول المتردد إلى حزبها، والانتفاع الانتهازي من مكاسبها، وصولاً إلى الترويج الصريح لها؛ فهذا يكتب تحليلاً عن الأبعاد الاستراتيجية للسياسة المحلية، وذاك يرسم صورةً عملاقة لأحد زعمائها، وثالث يدير النشاط الثقافي في هيئة من هيئاتها .... إلخ.
هؤلاء ليسوا إيديولوجيين حقيقيين، إنهم يعرفون الواقع المتردي، ويعرفون أسباب ترديه، ولكنهم لا يمانعون في الانتهاز ما دام أن هناك فتاتاً يُرمى تحت الطاولة. خطابهم عموماً مزدوج مرتبط بمن يتحدثون إليه؛ إذا كنت معارضاً فإنهم يكيلون النقد للأوضاع الشاذة! (محافظين على الخطوط الحمراء)، وإذا كنت من أصحاب النفوذ فإنهم لا يترددون من نقد المعارضين وتبيان قصور نظرهم.
هؤلاء يعرفون أنهم يخادعون الآخرين، ويخادعون أنفسهم، وليسوا متسقين مع قناعاتهم العميقة، إنهم يمالئون ليس قناعة بل ضعفاً وانتهازاً، لذا يسبب لهم الأشخاص الذين لا يمالئون، ولا ينتهزون، ولا يزدوجون في خطابهم وممارستهم قلقاً، ولسان حالهم يقول لماذا استطاعوا ولم استطع أنا؟ وتراهم في رد فعل غريزي يميلون إلى تسويد صفحة هؤلاء، والحط من رصيدهم، معتقدين ـ والأصح متوهمين ـ أنهم بذلك يحلّون تناقضهم هذا، أي يصبح الجميع لديهم متساوين مع الجميع، ويصبحون هم انتهازيين في طبقة كلها انتهازيون، غافلين عن أن الحياة خيارات، وأن الإنسان لا يستطيع أن يكون كاذباً وممالئاً وانتهازياً.... وشريفاً ومستقلاً في آن معاً.
ـ 2 ـ
الظاهرة الثانية التي نلحظها بسهولة في الحياة الثقافية تتعلق بغياب منطق الحوار، والانتقال بكل خلاف في وجهات النظر من كونه حواراً حول قضايا وإشكالات إلى حرب شخصية تعج بالاتهامات والمناكفات، بل والأكاذيب!
وأظن أن لدينا تاريخاً طويلاً من الاستبداد على مختلف الصعد، مما يشكّل بطانة لإقصاء الآخر، ولكن إضافةً إلى ذلك فإن غياب الديموقراطية على مدى عقود ألغى أوليات الحوار. ففي البلدان المتقدمة يمكن، وفي كافة وسائل الإعلام، مناقشة كل القضايا من المسائل الفنية إلى الثقافية إلى الجنسية إلى الاقتصادية إلى السياسية وصولاً إلى الحكام وأدائهم. وبالطبع تنقسم الآراء بحسب مواقع وأفكار ومصالح كل طرف، لكن مسألة المحرمات تجاوزتها تلك البلدان. أما في بلداننا المتخلفة فما أكثر المحرمات؛ إذ بالإضافة إلى محرماتنا المستوطنة المتعلقة بالدين والجسد جاء التحريم السياسي المتعلق «بقدسية» الأحزاب الحاكمة، «وقدسية» الحكام ليصبح التحريم والخوف والممنوعات هي الأساس في الممارسة السياسية والثقافية، وليس حرية التفكير والتعبير والنشر. ومع الوقت تصبح الحياة الثقافية نفسها فاسدة لأنه لا حوار حراً حول قضاياها وإشكالاتها واستعصاءاتها. وفي حالة الاختناق، هذه حيث المحرم المقدس يحكم العقول والممارسات، وحيث الحوار والأسئلة الحقيقية ممنوعة في الحقل العام، فإن هذه الحالة تمتد إلى حقول الثقافة فيصبح الكثير من العاملين فيها يتصرفون وهم مسكونون بصورة الزعيم المنزّه الذي لا يُمَسّ. وهكذا ما إن يرتفع صوت ما ليناقش مسرحية أو رواية أو رأياً أو لوحة أو مقالة حتى تتزعزع أسس الكون، وبسرعة يتم وضع من تجرأ على المناقشة في خانة الأعداء. ولا نقاش مع الأعداء، ولا بحث عن الحقيقة، ولا تعميق لفكرة، بل شن حرب، وحرب شخصية! وفي الحروب الشخصية، العقل المخصي يجيز كل شيء؛ الاتهامات، الأكاذيب، الشتائم، بل الصفاقة أيضاً. لمَ لا! طالما أن المثقف المقابل ليس صاحب أفكار بل هو «العدو».
هكذا تلغي الديكتاتوريات ليس الخيار الحر للمواطنين في مجال السياسة، بل وتلغي مع الزمن كل نقاش حقيقي حول قضايا الثقافة، وذلك بشخصنة كل حوار وحرفه عن مجراه الحقيقي، باعتباره أحد تجليات الحرية، أحد آليات التبصر بالمجتمعات وثقافاتها، وبوصفه محركاً أساساً لتقدمها. الشخصنة ليست إلا درجة من تماهي بعض العقول مع إرث الديكتاتورية المديد.
ـ 3 ـ
لقد كان أمراً مستغرباً أن يرد الصديق وليد عكاوي والسيد صفوان داحول على مقالتي ردين طويلين متجنبين أي نقطة أثرتها، وكأن رديهما على مقالة أخرى، أو كأنهما لم يقرآ ردي؛ فجوهر الردّين يتمحور حول الدفاع عن صالة أيام، وحول الدفاع عن صاحبها، بينما مقالتي لم تتناول الصالة ولم تشكك بنشاط صاحبها. كانت مقالتي ترد على تصريحات (تصريحات يا جماعة، أي أفكار وليس أشخاص) السيد سماوي. تصريحاته المتعلقة بتثقيل دور المال والتسويق على حساب القيمة الفنية والإبداعية للوحة، وتلك المتعلقة بالحظّ! وبالفنان الحلو! والمثقفين! والأغنياء والفقراء... إلخ وحول كل ذلك لم يرد حرف واحد في الردين، وأعتقد أن صاحبي الردّين ليس لديهما أي شيء يدافعان به عن تلك التصريحات التي تعبر عن صلف وضيق أفق رأس المال في تعامله مع الثقافة، لذا حرفا دفّة الحوار عن هدفها الحقيقي وتوجها للدفاع عن الصالة وعن صاحبها ثم تناولا الصالات الأخرى ولم يعدم الثاني الهجوم الشخصي المُسّف عليّ!
ذكرت في بداية مقالتي أن لصالة أيام «دوراً إيجابياً فاعلاً»، أي أني لم أنكر حضورها ودورها، ولم أوجه نقدي إليها، وبالتالي كل دفاع عنها ساقط لا قيمة له، لأنه خارج الموضوع جملة وتفصيلاً. كانت لافتة للنظر السوية الهابطة لرد السيد داحول، فيبدو أنه في غمرة نخوته الكاريكاتورية، بل ذعره من أن هناك من تجرأ وتناول تصريحات سيد صالة أيام (ولا أقول سيده) راح يخبط خبط عشواء فيهاجم كل شيء في نص مليء بالشخصنة والاختلاقات المؤسفة، وكل ذلك ـ ومجدداً ـ خارج موضوع البحث، وخارج نقاط الحوار المثارة! لماذا؟ هل هي علاقات العمل للأول؟ هل هي المصلحة الشخصية للثاني؟ لا أعرف، ولكني أعرف أن الأمر لا يبدو لي سليماً. كنت أتمنى للثاني أن يدافع بقوة بل وشراسة عن رأيه، ولكن أن يحافظ على شيء من استقلاليته، لا أن يظهره الرد شخصاً ضئيلاً يدافع بطيش (ولا أقول بحمق) عن مسوّق أعماله!
ثم لنفترض جدلاً أن كل اتهامات السيد داحول لي كانت صحيحةً تماماً، فما علاقة ذلك بسخف تصريحات السيد سماوي؟ ألا يمكن لشخص ما أن يحمل كل مصائب الدنيا، وأن يقول كلام حق في رأي أو شخص أو قضية في الوقت نفسه؟. لماذا نحّرف القضية عن سياقها الحقيقي الثقافي، ونجعل منها لائحة اتهام وشتائم فنسيء إلى أنفسنا قبل أن نسيء لمن نشتمه!.
على الرغم من كل ما تقدم سأعمل على الرد بالاختصار الممكن على الآراء الواردة في الردين، لكي لا تبدو العموميات، وقبولاً بما ورد فيهما من تحريفات مؤسفة.
ـ 4 ـ
بالنسبة لرد الصديق عكاوي (السفير 2/7/2010) يستغرب كيف لم أورد اسم أحد النحاتين الأصدقاء في قائمة الفنانين التي سجلتها في مقالتي (أثارت القائمة في الحقيقة الكثير من اللغط). أود أن اسأله ألم يخطر في باله لماذا لم أذكر اسم مصور ونحات رائد مثل أستاذنا محمود جلال؟ أو اسم أحد أهم المجددين في الخمسينيات الفنان نوبار صباغيان؟ أو أحد أهم أسماء جيل الستينيات الفنان أحمد دراق السباعي، أو اسم أحد أكثر النحاتين الجدد حساسية محمد عمران؟ عند التدقيق سنعثر على عشرات الأسماء الغائبة، والسبب البسيط هو أني لم أقم «بجرد» لكل أسماء الفنانين السوريين على مدى قرن، وإلا لذكرت أضعاف عدد الأسماء الواردة في القائمة. كما أني لم أقم بعملية «تقييم» وإلا لحذفت نصف عدد الأسماء... القائمة هي ذكر، كما ورد في خاطري، للأسماء التي لها حضور في الحياة التشكيلية ليس إلا. وفي هذا السياق شبه العفوي لا بد أن تغيب أسماء عن الذاكرة، ومن دون أن يكون ذلك مقصوداً، ومن دون أن يكون تقييماً بالطبع. وهنا لا بد من إيراد عدة تصحيحات تخص كتابة الأسماء، فلقد ورد اسم الفنان عدنان صباجيني والصحيح هو جباصيني بالطبع، كما ورد خطآن في اسم النحات شكيب بشقان ومحمود شاهين، وخطأ رابع في اسم المصور قيس سلمان حيث وردت الكنية: عمران. كنت أتمنى من الصديق عكاوي في معرض نقده للقائمة أن يضع شيئاً في اعتباره أبعد من الاعتبارات الشخصية.
يسأل في نهاية رده: «لقد خرج السماوي باللوحة الفنية السورية إلى أهم الساحات الفنية لأول مرة، أليست مخاطرته تلك تستحق الشكر عليها على الأقل» وفي بداية رده يتحدث عن «شغفه ونظرته إلى الفن على الطريقة الأوروبيّة باعتبارها فرصة للاستثمار وتنميةً للثروة وفضاءً خاصاً للإبداع».
سؤال الصديق عكاوي يرد عليه هو نفسه؛ فإذا كان هناك من يريد أن يستثمر وينمي ثروته فلماذا يريد منّا أن نشكره! هل رأى أحد في أي يوم طوابير من السوريين تقف أمام محل لبيع الشوكولا، أو السيارات أو الزيت وتقوم بشكر صاحبه لأنه «ينمي ثروته»!! لو طالبنا بأن نتمنى له الازدهار في عمل سليم وشفاف لفعلنا، أما شكره فلا يحلم به.
يسمي صالات العرض في دمشق «دكاكين»، ويقول عن السيد صاحب صالة أيام أنه «استحدث بدعة المكان الأفضل للوحة السورية».. هناك صالات في سوريا كما في كل بلدان العالم أقرب إلى الدكاكين. صحيح؛ ولكن أيضاً في بلدنا صالات محترفة منها ما تأسس منذ عقود، ومنها ما أنشئ في السنوات الأخيرة، مثل صالة أتاسي وأرت هاوس وتجليات ورفيا وكارما وكلمات وكامل... إلخ، وهي صالات «حقيقية»، وهي «مكان أفضل» للوحة من حيث فضاء العرض، وشروطه، والإعلام المرافق له، (مع اهتمام واضح لأيام بكم المطبوعات). اسأل هل نحن مضطرون عند الإشادة بصالة ما أن نبخس حق جميع الصالات؟! ألا يمكن أن تكون لدينا ـ مثل كل بلدان العالم ـ صالة جيدة إلى جانب صالات جيدة؟! إنه الواقع البسيط والعياني والمتعدد.. ولكن يبدو أنه كثير على البعض! ولا أخال الصديق عكاوي يرغب في أن يكون لدينا مكان «أوحد» في التشكيل مثلما لدينا في السياسة!.
في الأسطر الأخيرة من رده يسأل «لماذا لا يعطيه حقه أولئك الذين سرقت حقوقهم واستعذبوا واقعاً دفعهم إلى اليأس والهجرة إلى المنافي ليطرقوا أبواباً جديدة حاملين حنيناً مضنياً لرائحة الياسمين في دمشق وفتنة حاراتها القديمة».
لا أعرف إن كنتُ المقصود بالعبارة أعلاه، لكن سأرد باعتبار الأمر كذلك: أولاً أنا لم أعد إلى دمشق بسبب الحنين إلى حاراتها وياسمينها، بل عدت لأن هذا بلدي، ولي الحق في العودة إليه والسفر منه متى شئت، وبلدي بالنسبة لي هو البشر... والأصدقاء الذين يقطرون غيرة على محيطهم وشعبهم وثقافتهم، ويحلمون بعالم أقل بشاعة وظلماً... هؤلاء اشتقت لهم وعدت من أجلهم، وليس من أجل الحجارة والنباتات... على جمالها. ثانياً معروف أني بقيت خارج بلدي أربعة وعشرين عاماً لأسباب سياسية، وليس أبداً.. أبداً لأني يائس!! وليس لأن الصالات سرقت حقوقي! وليس سراً أن حقوقي تلك لم تسرق عند تعاملي مع الصالات، لأنه في كل مرة يكون اتفاقي معها واضحاً وحقوق الطرفين واضحة، ولم يسبق أن سرقتني أي صالة على مدى سبعة وثلاثين عاماً... إلا واحدة. وعليه لا أفهم هذا التعميم، وكأن كل صالات العالم تعج بالقراصنة فيما صالة أيام تحكمها الملائكة! حقيقة لا أفهم هذه الغيرة على هذه الصالة وكأنها جنة الله على الأرض علينا أن نحميها برمش العين، ولا على صاحبها كأنه ليس رجل أعمال بل رسولاً من رسل الرحمن، أرسله العلي القدير ليصنع المعجزات ويمشي على الماء ويشفي البرص والعميان!!
ليس مطلوباً إلا أن نرى الحقائق البسيطة كما هي: شخص يستثمر أمواله وينمي ثروته في سوق الفن. وفي سبيل استثمار أفضل طبع كتباً للفنانين الذين يتعامل معهم، واشترك في معارض خارجية، وهذا أمر حسن للفنانين السوريين بقدر ما هو مربح له... إذاً ليس في الأمر لا تضحيات ولا معجزات ولا ما يستحق تحميلنا مكرمات من أحد.
ـ5ـ
أما بالنسبة لرد السيد داحول (السفير 9/7/2010) فبالإضافة لعجبي من هبوط سوية الرد، على كل المستويات: الأفكار، درجة التشنج، الكتابة، فإن ما لفتني هو قدرته على الإتيان باتهامات باطلة وليّ للحقائق ودرجة من الصَغَار مُستغربة، كل ذلك في الحقيقة لا يشجعني على الرد عليه، بل لا يشرفني، غير أني مضطر لهذا لئلا يبدو الأسود أبيض والأبيض أسود.
يقول «إذا كان يوسف محباً للبلد فهناك صالات في جميع المحافظات فليكن رجلاً ويدور في المحافظات السورية بلوحاته قبل أن يدور عليها في الخليج، حينها فقط أستطيع أن أؤمن بما يقول».
بغض النظر عن لهجة التحدي السقيم، فأنا ـ ككل رسام في العالم ـ يحق لي أن أعرض أنّى وأينما شئت، ولست بحاجة لتوجيه من أحد ولا لتحد من أحد عند تقرير مكان وزمان معارضي. ثانياً لسوء حظ السيد داحول فلقد كنت الرسام السوري الوحيد المقيم في العاصمة الذي أقام معارض شخصية في المحافظات، فلقد عرضت في حمص وحماه والرقة والسلمية، ويبدو أنني عندما عرضت في مدينته السلمية كان في مراهقته، لذا لا يمكن أن يذكر معرضي هناك، على كثرة الاهتمام الذي حظي به بفضل الصديق عبد الكريم الضحّاك مدير المركز الثقافي آنذاك، وكثرة النقاشات التي رافقته قبل وبعد الندوة التي أقيمت في نهايته. تلك العروض أقيمت في نهاية السبعينيات وللأسف فإنني بقيت خارج بلدي لمدة تقارب ربع القرن مما منعني من العرض في المحافظات وهو الأمر الذي يسرني أن أستأنفه الآن. ذلك لأني أعتقد انه يجب ألا تتركز النشاطات الثقافية في العواصم. كما ولأن العرض هناك هو غنىً لأي رسام فإنني أعتقد أن هواةً وشباب ونخبَ تلك المحافظات لهم الحق في نصيب من تلك النشاطات، والحوارات التي ترافقها، وهي التي حرمت منها على مدى عقود!.
كان يمكنه أن يراجع سجل معارضي، في أي كتاب أو دليل معرض أو في الكتاب الذي أصدرته صالة أيام (مشكورة وأقول ذلك بصدق)، قبل إطلاق الكلام على سجيته. بالطبع لن أطالبه الآن «بأن يؤمن بما أقول» ذلك لأنه يعرف أنني لست بحاجة لذلك.
يتهمني بأنني أخذت «مقاطع مبتورة» من مقابلة صاحب صالة أيام، «وركبت عليها أوهاماً»! «وحورت فيها تحويراً غير أخلاقي»!
كل شخص عندما يرد على مقابلة أو مقالة أو كتاب فإنه لا يضع نص المقابلة أو المقالة أو الكتاب كاملاً ثم يرد عليها! يأخذ المقاطع المعبّرة والوافية التي لا تخل بالمعنى وهذا ما فعلته. وألفت هنا نظره مجدداً إلى أنه على الرغم من آلاف الكلمات التي سطرها دفاعاً عن صاحب صالة أيام فإنه لم يدافع عن رأي واحد من آرائه التي انتقدتها وأظهرت مدى سخفها. والسبب أنها آراء من الضحالة بحيث يعجز أي كان عن الدفاع عنها، فلماذا لا نكون شجعاناً ـ ولو قليلاً ـ ونعترف بسخف تلك الآراء، ونوفر على القرّاء اللف والدوران والتحجج بالمقاطع المبتورة وغير المبتورة!.
أما الحديث عن «تحوير غير أخلاقي» فأظن أنه من المعيب على السيد داحول أن يهبط بكلامه إلى هذا الدرك، ولا أخالني قادراً على مجاراته في هذا الهبوط.
يستغرب أنني لم «أكتشف» صاحب صالة أيام إلا بعد أن تركت العمل معها، أي بعد أن عملت معها ثلاث سنوات! (الحقيقة سنتين ونصف السنة). لا شيء أكثر منطقية من هذه العبارة. المنطقي أن نعمل مع جهة ما، ثم «نكتشفها»، وبعدها نتركها إذا لم توافق تصوراتنا. وهذا ما حدث، العكس هو المستغرب. أما إذا كان استغرابه متوجها إلى أني كتبت عن صاحبها بوضوح ومن دون تملّق فأقول له بلا أيّة لهجة تفاخر بأني كنت سأكتب ما كتبت لو كنت أعمل مع الصالة أو لا أعمل معها. فأنا لست ممن يستغنون عن آرائهم لقاء مصالح عابرة. وأعتقد أن هذا هو ما يزعج السيد داحول: موقع الاستقلالية.
يقول إن سعر لوحتي تضاعف مع صالة أيام «عشرات المرات» لا أرى كلاماً مجافياً للحقيقة أكثر من هذا سوى كذبة أنني كنت أقضي الوقت عند المحاسب أكثر مما أقضيه عند مديرها!!! فأنا لم أكن أقضي الوقت لا مع مديرها ولا مع محاسبها ثم إن ثمن أعمالي لم يتضاعف أبداً لا عشر مرات ولا حتى مرتين عند اتفاقي مع الصالة، بل حدث ارتفاع لثمنها بعد أن تركت الصالة منذ ما يزيد عن العام. لا ينتبه السيد داحول إلى أنه يمتدحني في الحين الذي يريد النيل مني! أليس امتداحاً لأي رسام أنه استطاع أن يترك صالة رفعت ثمن لوحاته «عشرات المرات»؟ أي أن لدى هذا الرسام قيما لا تخضع لابتزاز المال!. هل انتبه لذلك؟ لا أظن.
من جهة أخرى يرد في الردين ما يشير إلى استفادتي من الصالة، والحق استفدت منها مادياً، أما هي فاستفادت مني مادياً ومعنوياً، وإذا كان لطرف في هذه العلاقة المؤقتة أن يمنّ على الآخر فإن هذا الطرف هو بالقطع أنا وليس الصالة.
يحتج على قصة أن هناك فنانين «معروفين»، ويريد مرة جديدة بعد صاحب الصالة أن يخلط الأوراق ويضع كل الفنانين في سلة واحدة: الذي أقام عشرات المعارض منذ أربعين عاماً مثله مثل الذي يبدأ العرض تواً! لا أفهم لماذا هذه الحساسية المريبة من أن الصالة تعمل مع فنانين «معروفين»! لماذا تريد بأي وسيلة أن تبخس قيمة فنانيها المعروفين! ثم لماذا هذا الاستغباء عند الحديث عن الفنانين «المعروفين» مثل السؤال: «هل هم معروفون في اليابان أو فرنسا؟»، في حين يعرف أننا نتحدث عن فنانين سوريين معروفين على المستوى السوري وربما العربي. هل مصلحة أي صالة أن يكون فنانوها غير معروفين؟ أم أنها مصلحة بعض الفنانين غير المعروفين فعلاً؟ والذين يحرجهم أن يكون هناك فنانون معروفون فيها أكثر منهم! لم نعد نحتاج للمنطق، بل لمعالج نفسي.
على رأي الفنان عصام درويش، الذي أبدى استغرابه للصعود المفتعل لأسعار فنان شاب في المزادات، يحتج السيد داحول: «ليس مكتوباً على الفنان الشاب أن يبقى تحت رحمة أسعار من سبقه من أجيال». أظن أن الفنان درويش لم يقصد عند إيراد رقم 60000 للفنان الشاب، والرقم الافتراضي 10 مليارات ليرة سورية لسعر لوحة للفنان فاتح المدرس، لا أظن أن هذه المقارنة كان مقصوداً منها إظهار فرق السعر أو فرق الأجيال، بل إظهار فرق الموهبة بين الاثنين يا سيد داحول.
يحتج في فقرة مسفّة بأنني أتحدث وكأني «قاضٍ» أو «ناطق رسمي باسم جميع المثقفين السوريين»! من جهة أنا لم أدافع عن أحد بل ناقشت آراءً سخيفة، ومن جهة ثانية كل إنسان يحق له أن يدافع عن القضايا التي يراها تستحق الدفاع عنها، وهو ليس بحاجة إلى إذن من أحد. ومن جهة ثالثة يسعدني الاتهام بأني أدافع عن المثقفين السوريين أو الفنانين التشكيليين السوريين مثلي في ذلك مثل عشرات وفي مختلف حقول الثقافة. أين الغرابة! ذلك هو حقي المطلق مثلما هو حقه المطلق أن يدافع عن صاحب استثمارات مثلاً. أم أنه يريد أن نترك أمر الدفاع عن المثقفين السوريين للذين تملقوا الحزب الحاكم البارحة ويتملقون رأس المال اليوم!.
أخيراً يستلّ خنجره السياسي ويطعن: «كانت حجة يوسف في عدم التبرع لجمعية بسمة (لمكافحة سرطان الأطفال) أنها جمعية مدعومة من السلطة، ولكنه لا يتردد في بيع مجموعة من أعماله للسلطة نفسها».
كلام يغص بالكذب، فأنا لم أتبرع لجمعية بسمة التي تهدف مشكورة لمكافحة سرطان الأطفال ليس لعلاقتها بالسلطة (أصلاً لا أعتقد أن لها علاقة بها) بل لأنها جمعية غنية ولا تحتاج لتبرع مني أو من غيري. ثم إن من أخلاقيات التبرع والإحسان أن لا يتم ذلك بطريقة استعراضية، وأن «لا تعرف يدك اليمنى ما فعلت يدك اليسرى» وللأسف فإن إحساسي قبل التبرع وتأكد ذلك بعده وبعد الحفل الطنان الذي أقيم لذلك وتأكد أكثر وأكثر بعد تفاخر السيد داحول في رده علي، بأن التبرع برمته هو حملة علاقات عامة للصالة على حساب الفنانين. وفي هذه الحال مالي أنا ولمهارات صاحب الصالة وشطاراته!
أما بشأن بيع أعمالي للسلطة، فأحب هنا أن أميّز بين مؤسسات الدولة ومؤسسات السلطة السياسية (يمكن للسيد داحول مراجعة أي دليل للمبتدئين للتمييز بينهما) فلقد اقتنت مني إحدى مؤسسات الدولة (وزارة الثقافة) لوحة أو اثنتين قبل خمسة وثلاثين عاماً، ولوحة أخرى قبل ثمانية عشر عاماً، أما السلطة السياسية فلم يحدث أبداً أن اقتنت مني لا الآن ولا قبل أربعين عاماً. وهذا أمر منطقي تماماً إذ أن السلطات في كل بلدان العالم لا تقتني من معارضيها.
وعلى الرغم من أنه لا علاقة لهذا الأمر بموضوع ردي ـ وأكرر ذلك مجدداً ـ أقول على الرغم من ذلك فلا أعتقد أنه قال ذلك ـ مثلما اعتقد بعضهم ـ لكي يحرض السلطة السياسية عليّ. وذلك لأنه يعرف أن كمية التقارير المرفوعة عني إلى الجهات المختصة تفوق طول قامته، فلا أنا أخفيت آرائي يوماً، ولا الأجهزة تحتاج للمزيد. بل أعتقد أنه قال ذلك للإساءة إليّ، فليس مما يحتمله بعضهم الموقع المستقل أو المعارض الذي أضع نفسي فيه منذ عقود.
أذكر آية من آيات القرآن تقول: «كل نفس بما كسبت رهينة»، وما أندر الأشخاص الذين يستطيعون التعالي عن حساباتهم الخاصة في سبيل كلمة سواء. وأذكر مع هذه الآية أن الفنان المصري المخضرم حسن سليمان كان يقول في جلساته، إن البشر (بعيداً عن كل التصنيفات السياسية والفكرية والطبقية) ينقسمون على مستوى بنيتهم إلى فئتين: أحرار وعبيد. وأظن أن لدينا الشواهد البارحة واليوم ما يؤكد أن ما ذهب إليه المعلم المصري لم يكن عبثاً.
يوسف عبد لكي
المصدر: السفير
إقرأ أيضاً:
تجارب شابةقلبت التراتبيّةالقديمة:ضياع المحترف السوري أم تقاعس النقد؟
رداً على يوسف عبدلكي: إطلاق نار خلبي
أيهم ديب:بين منطق "عبدلكي" وواقعية "سماوي" في الإنتاج التشكيلي السوري
يوسف عبدلكي يطلق النار على خالد سماوي
عصام درويش يتحدث عن لعبة تسويق اللوحة في سورية
إضافة تعليق جديد