ممدوح عدوان وجنون الإبداع

07-08-2010

ممدوح عدوان وجنون الإبداع

أتى ممدوح عدوان إلى الحياة مستعجلاً، وعاشها مستعجلاً، ثم غادرها مستعجلاً، بعدما أنجز ثمانين كتاباً، وملأ الدنيا صخباً، وحركة، وآراء طريفة، آراء تثير شهية متلقيها إلى التآلف معها، ومناقشتها، حتى ولو لم يقتنع بها.
ولد ممدوح سنة 1941 في قرية جبلية تدعى قيرون بجوار مصياف، وجاء إلى دمشق، وتخرج في كلية الآداب / قسم الأدب الإنكليزي، وأثناء ذلك لم يكن يضيع الوقت، فكان يكتب شعر التفعيلة، والمسرح، والمقالة الصحفية، وكان يسهر، ويغني، ويطلق ضحكته المجلجلة، ونكاته الذكية، وتعليقاته اللاذعـة.. وتوفي في أواخر سنة 2004 عن ثلاث وستين سنة فقط.الشاعر والأديب الراحل ممدوح عدوان
تعرفت على ممدوح عدوان (أبي زياد) في إدلب أوائل التسعينيات حينما جاء ليحضر عرض مسرحيته "حكي القرايا وحكي السرايا" من إخراج أحمد مروان فنري، وسهرنا معاً، وخلال العرض وما تلاه من مناقشات في صالة المسرح وفي السهرة، اكتشفت أنه يحاول أن يستفيد من المناقشات التي تدور حول أعماله ليعيد ترتيبها وصياغتها قبل أن يدفع بها إلى النشر. وبهذا المعنى نجد أن ممدوح كان يستعجل كل شيء في الحياة عدا طباعة مسرحياته..
كان ممدوح من أوائل الكتاب الوطنيين الذين تجرؤوا على مناقشة الخطاب الإعلامي الذي كان سائداً في فترة من الفترات، ودعا إلى أن يكون الإعلام صادقاً مع الناس، متعاطياً مع قضاياهم على نحو حقيقي، من أجل أن يكون منسجماً مع الشعارات الجماهيرية التي يطرحها ويرددها ليلاً ونهاراً على الأقل.
وممدوح، مثله مثل معظم الأدباء السوريين الحقيقيين، كان يكره إسرائيل، ويستشعر خطرها، فقد وردت في مقدمة كتابه "دفاعاً عن الجنون- 1985" التي نشرتها البعث في طبعة شعبية سنة 2005 العبارة التالية:
(أنا خائف فعلاً، وأحس أنني مهدد كأي هندي أسمر. وابتداء بالخوف من الحرب النووية، مروراً بالخوف من الخطر الصهيوني الذي ليس لدي أدنى شك في أنه يستهدف أرضي ووجودي ومستقبلي، وانتهاء بخوفي من القمع والكبت والاستغلال والتشوه الثقافي.. كان هذا الخوف يملأ ثنايا حياتي الشخصية والفنية).
ومع ذلك لم يكن ممدوح ليقبل بأن نخاطب الناس، حينما نحدثهم عن الخطر الصهيوني وضرورة مقاومته، بسذاجة. وأذكر أنه كتب ذات مرة ينتقد مذيعاً تلفزيونياً كان يجري لقاءات مع أمهات الشهداء، فيجعل الأم تقول إنها فرحت كثيراً حينما تلقت نبأ الاستشهاد!
أي نعم.. هذه هي السذاجة بعينها.. وهذا هو التلفيق بذاته.. فالمرأة التي يستشهد ابنها يحترق قلبها عليه، ويستحيل أن تستطيع قول مثل هذا الكلام في لحظة تلقي النبأ،.. ولكنها في المحصلة، وبعد مضي زمن طويل، تطمئن إلى أن استشهاده ذو قيمة دنيوية، وقيمة دينية، باعتبار أنه سيخلد في الجنة.
وعلى الرغم من تأثر أبي زياد في كثير من أعماله بحالة الحماس التي كانت سائدة لدى المثقفين ضد الأعداء على اختلاف أنواعهم، إلا أنه كان يراجع هذه المسائل في ذهنه، ويعود للتركيز على ضرورة الصدق مع الناس الذين نخاطبهم، وما مسرحية "حال الدنيا" التي تنتمي إلى جنس المونو- دراما (الممثل الوحيد) إلا مقطوعة أدبية رفيعة المستوى يهجو فيها ممدوح الرجل الشرقي الذي يتعامل مع وفاة زوجته بما تمليه عليه ضرورة الحفاظ على (البرستيج).. بينما هو في الواقع يعيش في واد آخر.. واد مناقض لتصريحاته الشفوية، وتصرفاته المعلنة..
حينما جمع ممدوح عدوان المقالات التي كان قد نشرها في أماكن متفرقة تحت عنوان "دفاعاً عن الجنون" كتب في المقدمة العبارة التالية: (لقد كان من الممكن أن أكتب تبريرات لبعض الآراء التي أوردتها في هذا المقال أو ذاك، لكنني لم أفعل، فأنا متصف بالتعجل الذي يمنعني من التركيز). ويضيف: (لدي آراء كثيرة وأنا مستعجل لقولها. أخاف أن يفوت أوانها أو أن تزاحمها أفكار أخرى فأنساها. الحياة مزدحمة، والهاوية قريبة، لا بد أن أكمل صرختي).
إن أهم شيء في آراء ممدوح عدوان هو أنه كان يقولها هكذا، باندفاع، واقتحام، ومن دون تردد، ومن دون مواربة. كان ثمة صحفي (لبناني) يتداول المثقفون السوريون اسمه بإجلال لم يسبق له مثيل، وبعضهم كانوا يذهبون إلى حدود القول بأن الكتابة الصحفية إن لم تكن ككتابة هذا الرجل فلا داعي لأن تكون من عين أصلها!
والحقيقة هي أن كتابات ذلك الصحفي تتسم بالغموض الشديد، فما كان من ممدوح إلا أن كتب مقالة قال فيها ما معناه: إنني أنا، الموقع أدناه، ممدوح عدوان، أقر وأعترف بأنني غير قادر على فهم كتابات الصحفي فلان، وهذا ناجم إما عن زيادة في عبقريته! أو عن قصور في الفهم موجود لدي!
هذا رأي صائب جداً.. بالفعل.. وأنا شخصياً ما زلت عاجزاً عن فهم كتابات ذلك الصحفي ذي الصيت الواسع حتى لحظة تحرير هذا الحديث.
وأحياناً يكون رأي ممدوح أبعد ما يكون عن جادة الصواب، كما حصل حينما تدفق نَظَّامو الشعر إلى التغني بالانتفاضة، فأنتجوا كماً كبيراً من الشعر الرديء، فتذمر معظمُ الكتاب والنقاد، فأراد ممدوح أن يناكفهم فكتب مقالة بعنوان: "أيها الشعراء اكتبوا شعراً رديئاً".
ومع ذلك فقد أثار رأيُه حوارات طويلة ومتشعبة حول القضايا العادلة والفن الرديء المشحون بالنوايا الحسنة الذي يُنتج في سبيلها. وما يزال هذا الجدل، أو (الحوار) مستمراً، وغير محسوم.
تحية لروحك أبا زياد.. وكم نفتقدك في زماننا.

خطيب بدلة

المصدر: البعث

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...