إلـه مـا بعـد الحداثـة فـي مواجهـة إلـه الحداثـة
نبحث في هذا المقال عن هوية الإنسان وماهية الكون لنصل الى المواجهة بين إله الحداثة وإله ما بعد الحداثة. والكلمة الأخيرة للقارئ لأنه لا كاتب كما لا نص إلا في ظن قارئه.
لا محددية الأنا
يؤكد الفيلسوف توماس متزنغر على أن الأنا غير موجودة، فيقول إنها بناء نظري مجرد. فأنا الفرد التي هي هويته ليست سوى أداة ناجحة في فهم الآخر والتعامل معه على ضوء قراءة أفكاره. ومن خلال الهوية التي نبنيها لأنفسنا نتعاون مع الآخرين فتنمو المجتمعات المعقدة. من هنا، هوية الإنسان مجرد وهم ابتدعناه لذواتنا كي نحدّد علاقاتنا مع المحيط والآخر. يقدّم متزنغر أدلة عدة على صدق اطروحته منها الدليل التالي: اظهرت الاختبارات في علم النفس ان الأفراد الأصحاء يختبرون الاطراف الاصطناعية، كالأيدي الاصطناعية، على انها أجزاء من أجسادهم ومن هويتهم. لكن هي طبعاً ليست كذلك. على هذا الاساس، هوية الإنسان بناء فكري مجرد صنعه كل فرد لنفسه ولا يوجد ما يطابقه في الواقع. ومفاد الاختبار هو أن الفرد المختبر ينظر الى يد مطاطية أمامه أما يده الحقيقية فمخفية عنه. ومن ثم تضرب يده واليد المطاطية في آن. وبعد وقت من تكرار تلك الضربات المتشابهة يختبر الفرد اليد الاصطناعية على أنها يده فيشعر بالضربات عليها رغم ان يده الحقيقية لم تضرب. هكذا هوية الفرد صورة يصوغها العقل ولا حقيقة لها (Thomas metzinger: The Ego Tunnel. 2009. Basic Books).
بالإضافة الى ذلك بيّنت الاختبارات النفسية أيضاً أن الأفراد الذين يخسرون أطرافاً من أجسادهم يظلون يشعرون بها كالذي يشعر بألم في يده رغم عدم وجودها. ويملك بعض الأفراد يداً غريبة عنهم تحاول خنقهم رغم انها يدهم فيدافعون عن أنفسهم بيدهم الأخرى. هكذا هوية الإنسان من صنع خياله. وبعض المرضى يتوقفون عن استعمال كلمة «أنا» في اية عبارة ويدعون انهم غير موجودين اصلاً. بذلك الأنا وهم اخترعناه لتلبية حاجتنا (المرجع السابق). لكن كل هذه الأدلة لا ترينا انه لا يوجد أنا او هوية، بل تدلنا على انه من غير المحدّد ما هي الأنا والهوية. فإذا كان الممكن ان نخسر الأنا (كما في اختبار الذين يؤكدون عدم وجودهم) او نكتسبها (كما في اختبار اليد الاصطناعية) فهذا لا يتضمن انها غير موجودة بل يشير بقوة الى انها غير محددة، ولذا من الممكن ان نخسرها او نكتسبها. وإذا كانت الهوية بناء فكرياً مجرداً فهذا لا يدل على انها غير موجودة بل على انها معتمدة في وجودها على ظننا وعقولنا فتختلف باختلاف ما نعتقد وبذلك هي غير محدّدة.
لا محددية الكون
ما يصدق على الأنا يصدق على الكون كله. فميكانيكا الكم تؤكد على ان اللامحدد يسيطر على عالم ما دون الذرة. بالنسبة الى ميكانيكا الكم، من غير المحدّد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة كما من غير المحدد سرعة الجسيم ومكانه في آن. لكن هذه النظرية العلمية الناجحة والمقبولة تعارض نظرية النسبية لأينشتاين. فبالنسبة الى النظرية النسبية، الكون محدّد على نقيض مما تدعيه نظرية ميكانيكا الكم. لكن كلاً من نظرية النسبية وميكانيكا الكم نظرية علمية ناجحة ومقبولة بامتياز. على هذا الاساس، سعى العلماء وما زالوا يسعون الى التوحيد بينهما وتخطي عقبة تعارضهما. من هنا، أنشأ العديد منهم وساهموا في بناء نظرية الأوتار العلمية بهدف التوفيق بين نظرية ميكانيكا الكم ونظرية النسبية لأينشتاين. بالنسبة الى نظرية الأوتار، يتكوّن الكون من أوتار وأنغامها. فمع اختلاف تذبذب الأوتار تختلف طاقات الكون ومواده. رغم ذلك، ثمة بلايين من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار، وكل حل منها مقبول وناجح (Brian Clegg: Before the Big Bang. 2009. St. Martin’s Press). من هنا، يستحيل علينا قبول حل منها دون حل آخر. لكنها حلول مختلفة ومتعارضة. بذلك من غير المحدّد أي حل منها هو الحل الصادق والمطابق للواقع. على هذا الاساس يبقى اللامحدّد سيد العالم وحاكمه.
فمن غير المحدّد أي صياغة لنظرية الأوتار هي الصياغة الصادقة كما من غير المحدّد ما إذا كانت النظرية النسبية أم نظرية ميكانيكا الكم هي النظرية الصحيحة. لذا ينجح كل من نظرية النسبية ونظرية ميكانيكا الكم والصياغات والحلول المختلفة لنظرية الأوتار في وصف الكون وتفسيره. هكذا تنجح السوبر حداثة القائلة بأن اللامحدّد يحكم العالم في تفسير لماذا تنجح النظريات العلمية رغم اختلافها وتعارضها؛ فكل النظريات العلمية ناجحة رغم التعارض فيما بينها لأنه من غير المحدّد اية نظرية علمية هي النظرية الصادقة. من هنا، من غير المحدّد ما هي ماهية الكون. فبما انه من غير المحدّد ما هي النظرية العلمية الصادقة، وبما ان النظريات العلمية تفسر الكون وتصفه وبذلك من المفترض ان تحدّد ماهيته، إذن من غير المحدّد ما هي ماهية الكون.
بالإضافة الى ذلك، يوضح العلماء ان الأوتار التي تتحدث عنها نظرية الأوتار ليست فعلاً أوتاراً كتلك التي نعهدها. هذا لأنها إذا كانت أوتاراً لكانت مكوّنة من الذرات وجسيماتها التي تريد نظرية الأوتار ان تفسرها من خلال الأوتار، وبذلك لفسرت نظرية الأوتار ذرات الكون وجسيماته من خلال ذراته وجسيماته، وهذا دور مرفوض كتفسير الماء بالماء. من هنا، أوتار نظرية الأوتار ليست أوتاراً. لذا لا مجال سوى ان نعتبر ان هذه الأوتار العلمية مجرد بناءات مجردة لديها تصرفات وذبذبات شبيهة بتصرفات الأوتار وذبذباتها. هذا ما يصدق على النظريات العلمية الاخرى. فالعلماء يشيرون الى انه من الممكن علمياً اعتبار الضوء جسيماً وموجة في آن. لكن الضوء ليس جسيماً وموجة في الوقت ذاته وإلا وقعنا في التناقض. من هنا، نظرية العلم في الضوء ليست سوى نموذج مجرد، ولكون الضوء جسيماً وموجة معاً ليس سوى بناء فكري مجرد.
هكذا ايضاً من الممكن علمياً اعتبار المادة مكوّنة من جسيمات وموجات في آن، فمن غير المحدّد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة بالنسبة الى ميكانيكا الكم. لكن ان تكون المادة مكوّنة من جسيمات وموجات مناقضة للجسيمات في الوقت نفسه ليس سوى بناء مجرد وإلا وقعنا في تناقض قاتل (المرجع السابق).
على ضوء كل هذا نستطيع بحق ان نستنتج أنه من غير المحدد ما هي ماهية الكون تماماً. فبما أن الأوتار التي يفسر العلم بها الكون ليست حقا أوتاراً بل هي مجرد بناءات فكرية مجردة تماما كما الجسيمات والموجات التي يعتمد العلم عليها من أجل وصف الكون وتفسيره، إذن من غير المحدد ما هي هذه الأوتار فعلا وما هي تلك الجسيمات والموجات ما يدل على لا محددية الكون وماهيته. لكن رغم ذلك من خلال تلك الأوتار والجسيمات والموجات ينجح العلم في تفسير الكون. من هنا الكون غير محدد، لكن من خلال لا محدديته من الممكن تفسيره فمعرفته تماماً.
لا محددية الله
من جهة أخرى، سؤالنا عما إذا كان الكون محددا أم غير محدد يدعونا إلى التساؤل التالي: هل الله محدد أم لا؟ هذا ما تحاول كارن أرمسترونغ أن تجيب عليه في كتابها «البرهان على وجود الله». تميّز أرمسترونغ بين اتجاهين فكريين مختلفين جذرياً هما الحداثة وما بعد الحداثة. فإله الحداثة يختلف اختلافاً كبيراً عن إله ما بعد الحداثة. إله الحداثة إله شخصي ومحدد، أي له صفات وماهية محددة. فهو الذي خلق الكون وهو الذي يستجيب لدعاء أتباعه ويعاقب خصومه. هكذا هو إله شبيه بالانسان القوي التقي أي انه سوبر إنسان. والدين بالنسبة إلى الحداثة يقدّم معلومات ونظريات صادقة، أي قصصه عن الخلق وتاريخ الأنبياء والبشر هي قصص مطابقة للواقع كما أن النصوص الدينية بمثابة نظريات علمية. كل هذا يناقضه دين ما بعد الحداثة (Karen Armstronge: The Case for god. 2009. the bodley head).
بالنسبة إلى ما بعد الحداثة، الدين ليس مجموعة معتقدات ونظريات بل هو مجرد ممارسة فعلية فيتجلى في طقوسه ومعاملة الفرد لنفسه وإدراكها وفي التصرف مع الآخرين. من هنا، دين ما بعد الحداثة لا يحدد ما يجب أن يعتقده ويؤمن به المؤمن. بل النص الديني غير محدد ما يجعل إله ما بعد الحداثة إلهاً غير محدد. تعتبر ما بعد الحداثة ان الله ليس إلهاً شخصياً ولا يملك ماهية وصفات محددة بل هو مجرد بل سوبر مجرد. من هنا، من غير الممكن معرفته حق المعرفة كما من الخطأ التساؤل عما هو وما يفعل ولماذا، وبذلك تختفي ضرورة البرهنة على وجوده بأساليب الفلسفة المعتادة لكونه غير محدد أصلاً ويستحيل أن نعلمه. على هذا الأساس، يفترق إله ما بعد الحداثة عن إله الحداثة. فبينما إله الحداثة محدد، إله ما بعد الحداثة غير محدد. وبينما دين الحداثة محدد، دين ما بعد الحداثة غير محدد (المرجع السابق).
طبعاً، تدافع كارن أرمسترونغ عن ديانة ما بعد الحداثة. والأسباب وراء ذلك عديدة منها ان المعرفة نسبية وليست مطلقة ويقينية، وهذا ما يوضحه تاريخ العلم فالنظريات العملية تستبدل بأخرى بشكل دائم. من هنا، الدين أيضا لا يقدّم يقينيات بل الدين هو ما نفعل بدلا مما نعتقد. لذا إله ما بعد الحداثة غير معرّف وغير محدد. كما أن النص الديني نص رمزي وبذلك قابل لتأويلات مختلفة. من هنا الدين غير محدد ما يتضمن لا محددية الله أيضا (المرجع السابق).
بالنسبة إلى السوبر حداثة، من غير المحدد ما هو الله، لكن من خلال لا محدديته من الممكن معرفته، وهذا ما يصدق على النص الديني ايضا. هكذا تختلف هنا السوبر حداثة عن الحداثة وما بعد الحداثة. فبالنسبة الى الحداثة، الله محدد وبذلك من الممكن معرفته، بينما تعتبر ما بعد الحداثة ان الله غير محدد وبذلك من غير الممكن معرفته. لكن السوبر حداثة تقول انه رغم لا محددية الله من الممكن معرفته. مثل ذلك التالي: بما ان الله غير محدد، إذن من المتوقع ان يخلق كوناً غير محدد، وبالفعل الكون كذلك. هكذا من خلال لا محددية الله نستطيع معرفة انه خلق كوناً غير محدد، وبذلك تجمع السوبر حداثة بين اللا محدد المعرفة. طبعاً، نسلّم هنا بأن الله موجود من أجل أن نتناقش تماماً كما نسلّم بأن الكون موجود، فثمة نظرية علمية مثيرة تقول إن الكون مجرد وهم.
حسن عجمي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد