(وثائق سورية): نكتة سياسية أدّت إلى استقلال سور يا ولبنان
الجمل- نزار صائب: لا يمكن إنكار مقاومة الشعب السوري للاحتلال الفرنسي عام 1920 ومنذ اللحظة الأولى، جرى في ذاك العام من الاحتلال محاولة اغتيال الجنرال غورو التي نجا منها بأعجوبة، وتلا بعد ذلك في العام 1925 ثورات متتالية بدأت بالثورة الكبرى في جبل العرب و امتدت إلى دمشق فحلب فحماة وجبل الزاوية والعلويين والفرات. ثم في عام 1936 قامت البلاد بإضراب مستمر مدّة ستين يوماً «يدعى بالإضراب الستيني» حيث أُغلقت الأسواق والمحال في كافة المدن السورية لمدة شهرين، اضطرت بموجبه حكومة الانتداب إلى إقرار المعاهدة السورية وإجراء انتخاباتٍ نيابية وإعداد دستور ديمقراطي جمهوري لم يدم العمل به طويلاً بسبب ظهور بوادر الحرب العالمية الثانية، حيث أوقف المفوّض السامي الفرنسي العمل بالدستور وشكّل حكومة المديرين في عام 1939م.
في ذلك العام سقطت فرنسا واحتلت باريس من القوات الألمانية، وأُلِفَت حكومة فرنسية خاضعة للاحتلال في مدينة فيشي وسميّت بحكومة فيشي.
لم يرضَ الجنرال شارل ديغول على حكومة الاحتلال في فيشي وتمرّد عليها وأعلن من لندن قيام حكومة فرنسا الحرّة. وأسس قوات فرنسا الحرّة حيث اشتركت مع الجيش البريطاني التاسع بقيادة الجنرال باكيت في قمع ثورة رشيد عالي الكيلاني والضباط الأربعة «قادة الجيش العراقي الحر»: صلاح الدين الصباغ، فهمي سعيد، محمود سلمان وكامل شبيب ووزير الداخلية يونس السبعاوي، وفي عام 1941 عاد إلى العراق الوصي على عرش العراق ونوري السعيد من الأردن، وقام بإعدام الضباط الأربعة «قادة الجيش العراقي»وفي 8 حزيران عام 1941 م ألقت الطائرات البريطانية والفرنسية التابعة للجنرال ديغول منشورات على جميع الأراضي السورية واللبنانية موقعة من الجنرال كاترو باعتباره ممثلاً لحكومة فرنسا الحرّة وتشير إلى إعلان استقلال سوريا ولبنان وانتهاء الانتداب إرضاءً للشعبين، ومحاولة لإسقاط الحكومة الفرنسية التابعة لحكومة فيشي، وتطلب من الشعبين عدم مقاومة القوات البريطانية وقوات فرنسا الحرّة.
وفي اليوم ذاته، سارعت الحكومة البريطانية بإعلان موافقتها على بيان الجنرال كاترو متحدثاً باسمها: الجنرال باجيت قائد قوات الجيش التاسع البريطاني ومؤكداً العمل على استقلال سوريا ولبنان. إنَّ ظروف الحرب العالمية الثانية أجبرت حكومة فرنسا الحرّة على الوفاء بوعدها بإعطاء الحرية للشعبين السوري واللبناني بإجراء الانتخابات النيابية في البلدين عام 1943م وأُعيد العمل بالدستور، وانتُخبَ شكري القوتلي رئيساً للجمهورية العربية السورية والشيخ بشارة الخوري رئيساً لجمهورية لبنان؛ وبقيت القوات البريطانية والفرنسية في البلدين فارضةً سيطرتها على الأمن مع بقاء نصٍ في الدستور يسمح للمفوّض السامي بالاعتراض على أي مرسوم أو قرار سواء كان صادراً عن الحكومة أو مجلس النوّاب. وقد عُرفت هذه المادة في الدستور السوري بالمادة 146.
وبهذا الوضع شاركت سور يا ولبنان في اجتماعات تأسيس الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو ووقعتا على الميثاق التأسيسي لجمعية الأمم المتحدة عام 1944م.
إلا أن بوادر وضوح الحرب العالمية بانتصار الحلفاء حدا بالمفوضية الفرنسية في سور يا ولبنان لبدء التراجع عن الوعود بالاستقلال الناجز والتام وطفقت تتدخل في الشئون الداخلية و فرض سيطرتها مجدداً على التوجهات الحكومية. وبلغت ذروتها في اعتقال أعضاء الحكومة اللبنانية مما أثار غضب الشارع اللبناني والسوري والعالم أجمع، مما أدى إلى تراجع المفوضية وعودة الحكومة اللبنانية.
استشعرت الحكومة والبرلمان السوري بالضغوط الفرنسية ومحاولة النكوص عن تعهداتها، فعمدت الحكومة ومجلس النوّاب إلى اقتراح يقضي بإلغاء المادة (146) من الدستور والتي تعطي المفوّض السامي حق النقض (الڤيتو) على المراسيم والقرارات السورية، وجرى التصويت في المجلس النيابي السوري وتم إلغاؤها.
رداً على ذلك، بادرت المفوضية الفرنسية بتاريخ 29/5/1940 باحتلال البرلمان السوري، وقامت معركة بين حامية البرلمان من الدرك والشرطة، فقتلت القوات الفرنسية جميع حراس البرلمان السوري وأغلقت أبوابه.
اشتعلت الثورة الشعبية في كافة المدن السورية، وقُصفت المدن السورية من قبل القوات الفرنسية خاصةً في دمشق وحلب وحماة ودير الزور، وتصاعدت المعارك بين القوات الفرنسية والمجاهدين حتى اضطرت القوات البريطانية بعدها للتدخل ووقف القتال وفرض هدنة، وإقامة حواجز لحماية الثكنات الفرنسية.
عُرفت دمشق بأنها مركز الإفتاء لجبل عامل ولشيعة سوريا ولبنان بسبب إقامة المجتهد الأكبر محسن الأمين فيها، وقد سمي الحي الذي سكنه المجتهد الأكبر على اسمه «بحي الأمين» والذي لا يزال حتى الآن حياً من أحياء دمشق التراثية القديمة، وعندما كرمته الحكومة السورية بعد الاستقلال – نظراً لمواقفه الجهادية والوطنية –بمنحه أرضاً يبني عليها مركزاً لإقامته و داراً للإفتاء آثر التبرع بها لإقامة مستشفى، وبقي هذا المستشفى معروفاً بمستشفى المجتهد تيمناً باسمه حتى اليوم.
بعد تخرّج ابن المجتهد الأكبر عبد المطّلب الأمين من كلية الحقوق بدمشق، عُيّنَ في وزارة الخارجية، وجاءت الصدفة أنه فُرز إلى السفارة السورية في موسكو في عام 1944 م. وللصدفة مرة أخرى، أنه أصبح قائماً بأعمال السفارة لدى الاتحاد السوڤياتي. بعد ثلاثة أشهر من هذا التعيين - كقائم بأعمال السفارة السورية – طلب مقابلة وزير الخارجية للاتحاد السوڤياتي آنذاك مولوتوف الذي عُرف بأنه الرجل ذو المطرقة الحديدية وكما يُقال بالعامية «وجهه لا يضحك للرغيف السخن» وكرر عبد المطلب الأمين الطلب عدة مرات وبإلحاح على الخارجية السوڤياتية لمقابلة وزير الخارجية، وبعد أن استفسر ملوتوف: أين تقع سوريا؟ على خريطة العالم؟ وأمام إلحاح القائم بالأعمال المتواصل وإرضاءً لفضوله وافقً على مقابلة عبد المطلب الأمين.
كان وجه مولوتوف عبوساً قمطريراً عند بدء المقابلة مع عبد المطلب الأمين، فبادر بسؤاله: ماذا تريد؟ أجاب عبد المطلب بابتسامة: إني جئت هنا باسمي وباسم حكومتي وباسم الشعب العربي السوري لأطمئنك ولأطمئن حكومتك وشعبك بأنه ليس لدينا أيّة مطامع استعمارية في الاتحاد السوڤياتي. انفجر ملوتوف ضاحكاً، ولم يتوقف عن الضحك ويعيد ويسأل عبد المطلب: ماذا تقول؟ ليس لديكم مطامع في الاتحاد السوڤياتي. ويعاود الضحك. وبعد أن هدأ مولوتف سأل عبد المطلب: ما هي قصتك؟ أجاب عبد المطلب: إذا لم تصدق ما قلته لك عن عدم رغبتنا باستعمار للاتحاد السوڤياتي، إذن فلماذا تراقبني الأجهزة الأمنية السوڤياتية KGB صباح مساء ولا تترك لي فرصة التنفس؟
بعدها بدأت رحلة الصداقة بين الرجلين، وأمر مولوتوف بالكفّ عن مراقبة السيد عبد المطلب الأمين، وأصبحت الحفلات الدبلوماسية التي يتواجد فيها ملوتوف لا يلبث أن يبحث عن عبد المطلب الأمين ويترك الجميع ليسأله عن أحواله وعن حياته في موسكو وهو الشاعر والأديب والراوي بالعربية والفرنسية، فيصف عبد المطلب بطرفه ويروي آخر النكات في الشارع السوڤياتي، هذا المشهد المتكرر في الحفلات الدبلوماسية وطّد الصداقة بين الطرفين.
بعد الاعتداء على البرلمان السوري في 29 أيار 1945م وقتل جميع حرّاسه، والمعارك التي جرت في كافة المدن السورية مع القوات الفرنسية، تقدمت سوريا بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تطالب بالانسحاب الكامل للقوات الفرنسية والبريطانية المتواجدة في سوريا ولبنان ومنحهما الاستقلال التام والناجز، خاصةً وأن الدولتين وقعتا و ثيقة تأسيس الأمم المتحدة وتولى رئاسة الوفد السوري دولة الأستاذ فارس الخوري. وهنا لا بدّ أن نشير إلى أن تلازم المسارين السوري واللبناني وجد طريقه بتكليف فارس الخوري من قِبَل وزير الخارجية اللبناني السيد تقلا بالتحدث عن البلدين دونما حساسية بالسيادة والاستقلال، من الحكومة اللبنانية، بل على العكس، الاعتراف بأهمية الرئاسة للمناقشات في مجلس الأمن للسيد فارس الخوري الذي أظهر براعةً متميزة في حواره مع العالم بحث الشعوب بالاستقلال، كما اتسمت تصرفاته بالظُرف والنكتة المعبرة والجملة ذات المعنى والمغزى العميق. وعلى سبيل المثال: في إحدى جلسات المجلس، فوجئ الجميع بجلوس فارس الخوري على المقعد المخصص للمندوب الفرنسي الذي انتظر عدة دقائق وهو ينظر إلى فارس الخوري مطالباً منه أن يُخلي المقعد المخصص للوفد الفرنسي، وهنا وقف فارس الخوري مطالباً المجلس: لقد احتلَّيت المقعد الفرنسي لعدة دقائق فضاق ذرعا! فكيف يتحمل الشعب السوري 25 عاماً من الاحتلال، أما آن الأوان لهم أيضاً إعطاءنا مقعداً في العالم؟
وفي مداخلة أخرى عن حول وجود القوات الفرنسية والبريطانية في سوريا ولبنان وأولوية الانسحاب منهما هل الفرنسية أم البريطانية، روى فارس الخوري في المجلس القصة التالية:
إن أحد مراقبي الطرق مرَّ ليلاً بطريق حيث وجد فانوساً مضيئاً فوق كومةٍ من الحجارة، فسأل عن سبب وجود الفانوس، فقيل له: لتنبيه السيارات من الحجارة، ولما سأل: لماذا الحجارة موجودة؟ فقيل له لتسند الفانوس! فكان المعنى واضحاً لعدم الضرورة لكلا القوتين الفرنسية والبريطانية في بلادنا.
إن الصداقة التي ربطت مولوتوف وزير خارجية الاتحاد السوڤياتي بالقائم بالأعمال السوري في موسكو السيد عبد المطلب الأمين جعلت وزير الخارجية يكشف لعبد المطلب الأمين عن الاتفاق الفرنسي البريطاني الذي تمّ بين وزير الخارجية البريطاني بيڤن والفرنسي بيرو الذي جرى في 13/12/1945 بحيث تبقى القوات الفرنسية والبريطانية في سوريا لمدة سنتين على الأقل ومن ثم يُنظر إلى أمر انسحابها لاحقاً. وهنا طالبَ عبد المطلب الأمين صديقه الوزير السوڤياتي بالتدخل لإفشال هذا المخطط واستشهد بمبادئ الاتحاد السوڤياتي بالدفاع عن حقوق الشعوب والاستقلال والحرية، وإنهاء الاستعمار، والمبادئ الماركسية في اتحاد الشعوب ضد الرأسمالية البشعة. ضحك مولوتوف وقال: لن يَخيب ظنّك، وأعطى تعليماته لمندوب الاتحاد السوڤياتي في مجلس الأمن المستر فيشنسكي باستعمال حق النقض «الڤيتو» ضد الاتفاق الفرنسي البريطاني، والسعي لإصدار قرار الانسحاب الكامل من الأراضي السورية واللبنانية فوراً، وهكذا كان. فصدر قرار مجلس الأمن الدولي في 16/2/1946 القاضي بانسحاب القوات الفرنسية والبريطانية، وتم انسحاب الفرنسيين من سوريا في 17/4/1946، واعتُبر هذا التاريخ عيد الاستقلال السوري، وتم انسحاب القوات الفرنسية من لبنان في 22/11/1946 عيد استقلال لبنان.
وهكذا لعب (الجنرال المجهول) عبد المطلب الأمين الدور الكبير بظُرفه وخفة دمه دوراً أساسياً في استقلال البلدين.
الجمل
إضافة تعليق جديد