اقتصاد السوق والهروب من الليبرالية
كل التصريحات الحكومية وغيرها تقول أنه من حسن الحظ لم تقم سوق الأوراق المالية حتى الآن في سوريا، ولو أنها كانت قائمة لوصلنا إلى مرحلة الانهيار، كالانهيار الذي حدث في الولايات المتحدة وأوروبا.
ولكن من حسن حظنا أيضاً أننا بدأنا نشهد تضارباً في آراء الفريق الاقتصادي الواحد في عملية هروب إلى الأمام من الليبرالية في اقتصاد السوق.
د. محمد الحسين وزير المالية يؤكد في تصريحات له (أن دور الدولة الأساسي في الاقتصاد السوري جعله في منأى أو لنقل قلل من التأثر بما جرى في الولايات المتحدة).
عبد الله الدردري النائب الاقتصادي يقول (أن الانضمام لمنظمة التجارة العالمية عملية وطنية تحتاج لجميع الجهود).
د. عامر حسني لطفي وزير الاقتصاد يؤكد (أن سوريا وصلت إلى مراحل متقدمة من تحرير التجارة الخارجية).
على كل القول الفصل الآن للدكتور منير الحمش رئيس الجمعية السورية للبحوث الاقتصادية ومركزها القاهرة في حوار شامل مع (بورصات وأسواق) حول اقتصاد العالم، الانهيار المالي.. الأزمة المالية.. أسبابها ومنعكساتها على اقتصاديات العالم وعلى اقتصاد السوق (الاجتماعي) في سوريا.
* ما هي الأسباب الحقيقية للازمة الاقتصادية والمالية التي مرت بها الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية وانعكاساتها على العالم؟
** أوضّح في البداية أن هذه الأزمة ليست شبيهة بأزمة الكساد العالمي الذي تعرض له الاقتصاد العالمي عام 1929 وما بعد، انطلاقاً من الولايات المتحدة الأمريكية، الظروف اختلفت والأسباب اختلفت وتغيرت.
ولكن ما يجمع هذه الأزمة بالأزمة السابقة هي أنها تتعلق بطبيعة النظام الرأسمالي هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا أريد أن أردد ما يقوله البعض من أن هذه الأزمة ستقود إلى نهاية الرأسمالية وانهيار النظام الرأسمالي على نحو كارثي، ويعود السبب في ذلك إلى أن النظام الرأسمالي يمتلك قدرة ومرونة بحيث يمكن أن يتجاوز الأزمات بابتداع آليات تساعده على ذلك.. ولهذا حديث آخر..
لكنني بالوقت نفسه لا أريد أن أخفف من وقع الأزمة، هناك أزمة فعلاً بدأت منذ عام وذلك بما أصاب سوق الائتمان العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية ثم بدأت في الانتشار بسبب طبيعة العمل المالي الائتماني والمصرفي أولاً.. والانتشار داخل الولايات المتحدة بسبب تشابكات المؤسسات المالية.. وثانياً إلى خارج الولايات المتحدة وخاصة أوروبا واليابان، والأزمة تتبدى بشكل واضح في هذا الخلل القائم ما بين الاقتصاد المالي والاقتصاد العيني فحجم المعاملات المالية على المستوى الدولي يصل إلى أكثر من 95% من حجم إجمالي المعاملات الاقتصادية.
ولهذا فإن ما يصيب القطاع المالي سوف ينعكس طبقاً على باقي الفروع الاقتصادية بحيث أن أي هزة مالية في هذا القطاع بسبب انهيارات متوالية بسبب التشابكات والعلاقات القائمة ما بين المؤسسات المالية على المستوى المحلي الولايات المتحدة وعلى المستوى الدولي وما يزيد من عمق الأزمة هو عاملين أساسيين:
الأول: التباطؤ في معدلات النمو الاقتصادي العالمي وقد وصل هذا المعدل والتراجع من 5.8% عام 2007 انخفض في النصف الأول من عام 2008 إلى 4.8 ويتوقع صندوق النقد انحداره إلى 3.9% وإذا دققنا في معدل النمو في أمريكا نجده حسب توقع الصندوق ينخفض إلى 1.3% عام 2008 وتعود الأسباب المباشرة إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي إلى البطء الشديد في الطلب نتيجة تقلص الاستهلاك إثر ارتفاع أسعار النفط والغذاء.
العامل الثاني: هو تسابق ارتفاع النفط والغذاء الذي يترافق مع تصاعد معدلات التضخم، وما يحصل على صعيد الأسعار في الطاقة والمواد الأولية هو أحد إفرازات النظام الرأسمالي وبالتحديد نتيجة المضاربات والسياسات المتبعة في الدول الصناعية المتقدمة.
* مؤخراً يبدو أن الأزمة تراجعت.. هل هي عرضية أم من خلال إجراءات اقتصادية ومالية تحديداً اتخذها الرئيس الأمريكي؟
** لا أعتقد أن الأزمة ستتراجع بل ستتفاقم وسيكون القادم أسوأ، كما سبق أن صرح أحد الاقتصاديين الأمريكان وكان يعمل مستشاراً في مؤسسات دولية (قال أن القادم أسوأ) وأعتقد القادم أسوأ. اليوم انهيار في الأسواق المالية وغداً مؤشرات جديدة توحي بالركود الاقتصادي الذي سوف يجتاح الاقتصاد العالمي.
أما الإجراءات التي اتخذت من أجل الحد من الأزمة طبعاً كما هو معلوم أن البنوك المركزية في كل من أمريكا وأوروبا واليابان عمدت إلى ضخ مليارات الدولارات من أجل تطويق الأزمة والخطة الأخيرة لبوش تقضي بشراء الأصول من المؤسسات المالية. الأصول التي تدنت أسعارها بسبب الأزمة ورصد لها 700 مليار دولار على مدى عامين. وعلى أي حال إن برنامج بوش يلقى معارضة في الكونغرس كما يلقى معارضة لدى بعض حلفاء الولايات المتحدة كألمانيا.
* ولكن ما هي دلالات هذا الإجراء وعلى حساب من هذا التدخل؟
** هذا التدخل بالدرجة الأولى يعني سقوط الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي قامت على مبدأ أساسي هو عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. وأهم دلالات الأزمة والحلول التي عمدت إليها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تعني أن انسحاب الحكومة من الشأن الاقتصادي كان ولا يزال يشكل صلب عملية التحول الكامل نحو اقتصاد السوق وأن هذا الانسحاب أدى إلى الغوص في الأسواق المالية التي قادت إلى الأزمة، لأن الغوص تعني المضاربة والاحتكار وهذا ما أدى إلى الأزمة وسيؤدي إلى تفاقمها، والإجراءات كان أساسها التدخل الحكومي لن تكون كافية ما لم يتم تحول حقيقي في السياسات الاقتصادية الكلية بمعنى إعادة الاعتبار إلى دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وبمعنى آخر أن تكف الحكومات عن السياسات الاقتصادية الموالية للأغنياء ولأصحاب رأس المال وأن تلتفت هذه السياسات إلى الطبقات الوسطى والفقيرة وأن تساعد فعلاً في القضاء على الفقر.
هذه الفجوة الهائلة بين قلة من الأغنياء أمام حشود الفقراء الدلالة الأخرى يمكن استخلاصها وهي فشل العولمة على النمو المتوحش الذي تطرحه الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية التابعة لها. العولمة الاقتصادية ركزت على انفتاح الأسواق وحرية التبادل التجاري وراهنت على حكومة الحد الأدنى.. هذه العولمة انتهت على هذا النحو الكارثي.
ويبقى أن تتمسك شعوب العالم بالجانب الإنساني من العولمة وهو جانب العدالة وتقليص الفوارق بين الشعوب ومنع الاستغلال والاحتكار. جانب إلغاء الفجوة التكنولوجية والغذائية هذه الجوانب الإنسانية من العولمة علينا أن نتمسك بها مع نبذ الجانب الاستقلالي المتوحش الذي تريد أمريكا فرضه على شعوب العالم حتى ولو باستخدام القوة العسكرية.
* ولكن ما هي التأثيرات الاقتصادية على البلدان النامية.. على سوريا على الاستثمارات العربية؟
** نتيجة التشابك في المعاملات المالية لاشك أن الأزمة امتدت وسوف تمتد أ:ثر إلى جميع البلدان التي يوجد فيها مؤسسات مالية لها علاقات مع المؤسسات الأكبر في بلد المركز.. وللأسف فإن البلدان النفطية العربية هي أول المتضررين من هذه الأزمة.
كم كنا نطالب باستثمار أموال النفط داخل الوطن العربي، وكم كانوا متهربون من ذلك ويضعون أموالهم في المؤسسات الدولية وفي المصارف الأجنبية مما يجعلها تتآكل تحت ضربات الأزمات المالية المتوالية في الولايات المتحدة وأوروبا، أو في الآونة الأخيرة كان هناك توجه من قبل بعض أصحاب رؤوس الأموال العرب وحتى من الدول النفطية لاقتناص الفرص بشراء بعض الأصول من المؤسسات التي تعرضت للأزمة ولاشك ستتبدد قيمة هذه المشتريات كما تبدد غيرها بحيث تستخدم أموال النفط العربي لخدمة أغراض النظام الرأسمالي العالمي بجعلها تدور في فلك دورة رأس المال العالمي بدلاً من أن تتوجه إلى التنمية العربية وبالتالي يتردد بشكل عفوي بين العامة أن هذه الأزمة مفتعلة والهدف منها الاستحواذ على أموال النفط بعد هذا الارتفاع المذهل لأسعاره في الأسواق العالمية.
وإذا أخذنا الأمور بظواهرها هذا صحيح، لكن كما سبق أن ذكرت أن الأزمة أعمق من ذلك وترتبط بطبيعة النظام الرأسمالي وطبيعة العلاقات المالية القائمة على الاستقلال والتحكم والتي تخلق في النهاية الظروف المؤاتية لاصطناع حالات الفوضى التي تنعش أفئدة المضاربين في الأسواق والمتلاعبين بمستقبل الأجيال.
* نحن في سوريا أمام اقتصاد السوق الليبرالي.. هل نحن في منأى عن تأثيرات الأزمة خصوصاً مع تواجد بنوك خاصة وبعد تحرير التجارة والخطوات الاقتصادية التي اتخذت على الصعيد الاقتصادي؟
** الغريب في عز الأزمة وخلال أسبوع يخرج علينا رئيس الفريق الاقتصادي بالمناداة بالتحاق سوريا بالاقتصاد العالمي وهذا أمر مثير للدهشة والاستغراب في الوقت الذي تتفاقم أزمة الاقتصاد العالمي يأتي من يطالب الالتحاق بالأزمة، نحن في الأساس في منأى عن الأزمة لكن الغريب المطلب الالتحاق بالأزمة وكأنه إنقاذ لنا والأغرب أن يقول حسب تصريحه (أن الالتحاق بالاقتصاد العالمي مسألة وطنية، وأعتقد من حقنا ومن حق الشعب أن يطالبه بتوضيح ذلك، كيف يكون الالتحاق بأزمة الاقتصاد العالمي مسألة وطنية.
طبعاً جميع الإجراءات المتخذة في سوريا منذ عامين تحت عنوان التحول نحو اقتصاد السوق وليس الاجتماعي لأن المسؤولين الاقتصاديين يقولون صراحة ليس هناك اجتماعي هناك سوق فقط، هذه الإجراءات تمحورت حول انسحاب الحكومة من الشأن الاقتصادي والاجتماعي، وإطلاق التجارة الخارجية والمقصود إطلاق الاستيراد حيث بدأت تأن الطبقات الشعبية والمنتجين الصغار وأصحاب الورشات وأصحاب مصانع الألبسة والأحذية أصبح جميع هؤلاء يئنون من أثر هذا الانفتاح السداح المداح.. البضائع الأجنبية أصبحت تغرق السوق في الوقت الذي لم تستعد له المنتجات الوطنية ولم تتمكن ولم تدعم قدرتها التنافسية اتجاه هذا الانفتاح.
على صعيد آخر السياسة المالية هي سياسة موالية للأغنياء خفضت الضرائب على الأغنياء وزادتها على الطبقات المتوسطة والفقيرة وبالوقت ذاته تم الإعلان عن تحرير الأسعار وإطلاق حرية الاحتكار والمحتكرين وفي ظل هذه السياسات تم أيضاً السماح على نطاق واسع بإحداث المصارف الخاصة وشركات التأمين، وبعض المصارف وشركات التأمين يعتبر المساهمين فيها أصحاب مصارف وشركات تأمين خارج سوريا من الطبيعي أن تتأثر المصارف الأم وفقاً لمعاملاتها الخارجية بهذه الأزمة التي يمكن أن تنتقل إلى المصارف السورية خاصة أننا لا نعرف أين توظيف ودائع الناس في تلك المصارف في الخارج. لذلك من الطبيعي أن تنتقل الأزمة إلينا إذا لم نتخذ إجراءات محددة من السلطة النقدية لمنع ذلك، والحقيقة ليست هناك شفافية كاملة في المعاملات المصرفية والمالية ولا نستطيع أن نجزم إذا كنا سوف نتأثر ما لم تتحقق مثل هذه الشفافية.
* يعتبر وزير المالية أن التأخير في عمل سوق الأوراق المالية جنب سوريا الأزمة ويؤكد أيضاً على دور الدولة.
** آليات اقتصاد السوق هي التي تتحكم في القرار الاقتصادي في سوريا منذ اخطط الفريق الاقتصادي طريقه في اتجاه تطبيق برنامج التحوّل نحو اقتصاد السوق والرضوخ لما يدعى توافق واشنطن، قد تكون إجراءات بيروقراطية أعاقت إقامة السوق المالي ولكن سوق المال سوف تقوم كما يؤكد المسؤولين.. ولكن هناك أفراد في سوريا يتعاملون بالأسهم مع البورصات العربية والدولية بواسطة الإنترنيت..
هل إجراءات الحكومة تطال هؤلاء، إلى جانب هذا يقول بعض المسؤولين الاقتصاديين والماليين أن الحكومة لها دور، أعتقد أن لها دور ولكنه محدود وفي بعض الأحيان سلبي والدليل على تراجع دور الحكومة بالأرقام واضح فالنسبة بين الإنفاق العام إلى الناتج المحلي الإجمالي وهو يعبر عن حجم الحكومة. يتناقص.. منذ بداية الثمانينات كان 48% واليوم 27% وهكذا نجد أن دور الحكومة يتراجع.
وما يمكن استخلاصه وبالتحديد لسوريا أنه لابد من إعادة الاعتبار إلى دور الدولة الاقتصادي ولابد من العودة إلى دور الدولة التنموي بهذا يمكن أن نحمي اقتصادنا العام أمام الهزات والأزمات الخارجية، أن يكون اقتصادنا قوي بدولة قوية تستطيع أن تواجه الأزمات الخارجية فضلاً عن قدرة الدولة القوية في مواجهة أي ضغوط خارجية..
إن انسحاب الحكومة وتقليص دورها الاقتصادي والاجتماعي يعني إضعاف الدولة وإضعاف قدرتها التفاوضية اتجاه الخارج.
نزار عادلة
بورصات وأسواق
إضافة تعليق جديد