الحزب التقدمي الاشتراكي: تاريخه ومستقبله وزعامته الجنبلاطية
الجمل: بدا الزعيم السياسي اللبناني وليد جنبلاط أكثر شحوباً واضطراباً وهو يلقي خطابه الأخير في ذكرى اغتيال الحريري، وبعد انفضاض الجمع لم تكن لخطاب جنبلاط تلك التداعيات التي كانت لخطاباته في الماضي، فما الذي حدث؟ وهل امتد عمق الأزمة التي عصفت باستقرار لبنان ليعصف بالخطاب السياسي اللبناني؟
بغض النظر عن مظاهر التنميط التي أفرزتها الأزمة اللبنانية في رسم الصور الجماعية بما يتضمن تسميات مثل "قوى الموالاة" و"قوى الممانعة"، "قوى 14 آذار" و"قوى 8 آذار"، فإن الدخول في عمق الأزمة اللبنانية وتحديداً في جانبها الهيكلي الخاص بوحداتها البنائية وعلاقاتها البينية تكشف لنا عن مدى عمق وتجذر هذه الأزمة.
* البعد الهيكلي ونموذج الحزب التقدمي الاشتراكي:
تقول المعطيات بأن الحزب التقدمي الاشتراكي هو حزب سياسي لبناني يتبنى الطرح العلماني العقائدي غير الطائفي، ولكنه في حقيقة الأمر يجسد على الصعيد العملي الطائفية بأكثر معانيها وضوحاً، فما الذي حدث؟ هل ابتلعت الطائفة الحزب أم أن الحزب عجز عن الخروج من إطار الطائفة؟
تم تأسيس الحزب في 5 كانون الثاني 1949م وتم تسجيله رسمياً في 17 آذار من نفس العام برقم 789، وشارك في تأسيس الحزب ستة شخصيات ينتمون إلى خلفيات مختلفة –بالمعنى الطائفي- وهم: فريد جبران، ألبيرت أديب، عبد الله علايلي، فؤاد رزق، جورج حنا، وكمال جنبلاط الذي كان أبرزهم. ثم في العام 1951م عقد الحزب المؤتمر الأول للأحزاب الاشتراكية العربية في سوريا ولبنان ومصر والعراق في العاصمة بيروت، وطوال الفترة من عام 1951 حتى عام 1972م كان تمثيل الحزب في البرلمان اللبناني يتراوح بين 3 – 6 نواب. ولكن الحزب فيما بعد بزعامة كمال جنبلاط استطاع أن يلعب دوراً رئيسياً في الحركة الوطنية اللبنانية لجهة الدفاع عن الهوية العربية للبنان على النحو الذي أكسب الحزب تعاطفاً واسعاًَ في أوساط الرأي العام العربي وعلى وجه الخصوص الشعب الفلسطيني، وإزاء تردد كمال جنبلاط حول مصداقية الأسلوب البرلماني في التطور وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فقد استطاع أن يبني واحدة من أقوى المليشيات المسلحة في تاريخ لبنان والشرق الأوسط المعاصر، وكان أداؤها من بين الأقوى في الحرب الأهلية اللبنانية الثانية التي امتدت من عام 1975 حتى عام 1990م واستطاع السيطرة على معظم جبل لبنان والشوف، وكان ألد خصومها حزب الكتائب والقوات اللبنانية. والآن عندما تولى وليد جنبلاط قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي أصبح أبرز حلفاءه حزب الكتائب وحزب القوات اللبنانية، ما الذي حدث؟ هل تغيرت طبيعة حزبي الكتائب والقوات أم تغيرت طبيعة الحزب التقدمي؟ أم أن شيئاً آخر قد حدث في العمق على النحو الذي نقل بنية وهياكل البيئة السياسية اللبنانية إلى بيئة سياسية جديدة تختل نوعياً عن سابقتها؟
* مفارقات الخطاب السياسي:
حتى وقت قريب كان وليد جنبلاط يتحدث عن تحالف اليهود في واشنطن ومخططاته ومناوراته الهادفة إلى تدمير العراق والعالم العربي والسيطرة على موارده النفطية، وقد وصف جنبلاط بوش بـ"الإمبراطور المجنون" وطوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق بـ"ديك الحبش"، ورئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو بيرلوسكوني بـ"موسوليني القرن الحادي والعشرين"، كما صب جام غضبه على زعماء جماعة المحافظين الجدد واصفاً بول وولفوفيتز بـ"الفيروس" ولم يسلم من انتقاداته حتى رئيس الوزراء الإسباني خوسيه أزنار الذي وصفه جنبلاط بـ"فرانكو التقدمي". فهل كانت هذه المفردات تعبر عن إدراك حقيقي ورؤية واضحة في ذهن وليد جنبلاط أم أنها تبدلت مع تبدل خارطة التحالفات اللبنانية التي جعلت من أمين الجميل زعيم الكتائب وسمير جعجع زعيم القوات اللبنانية ينتقلون من خانة أعداء كمال جنبلاط إلى حلفاء لوليد جنبلاط؟
لن نتساءل كيف نفهم جنبلاط، وإنما كيف نفهم الحزب التقدمي الاشتراكي؟ وما هي العلاقة بين زعامة الحزب التي تتبنى خط الحزب وبين الحزب الذي يؤسس الخط؟ بكلمات أخرى، من يتضمن من؟ هل يتضمن الحزب الزعامة أم تتضمن الزعامة الحزب؟
من المعروف أن لكل أزمة محفزاتها الداخلية والخارجية التي تزود ديناميكيتها بالوقود الذي يزكي نيرانها، ومن المعروف أن قصة نشوء الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني تعود داخلياً إلى أوضاع لبنان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخارجياً إلى نشوء ما يعرف بظاهرة "عائلة الأحزاب والحركات الاشتراكية الديمقراطية" التي نشأت في أوروبا منذ فترة الصراع الشيوعي – الاشتراكي الذي تمخض عن الانقسام إلى "بلاشفة" و"مناشفة" وأدى إلى قيام حركتين أمميتين هما الأممية الثانية وتنضوي تحت عباءتها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، والأممية الثالثة وتنضوي تحت عباءتها الأحزاب الشيوعية. وتشير المعطيات التاريخية الأوروبية إلى أن ألد أعداء أتباع الأممية الثانية والثالثة يتمثل في الحركات القومية الاجتماعية وتحديداً الحركات الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية إضافة إلى عائلة الأحزاب الديمقراطية المسيحية التي سيطرت طويلاً على أوروبا. وعلى نسق الحركات الفاشية الأوروبية قامت لبنانياً حركة الكتائب والقوات اللبنانية اللتان جسدتا الامتداد الحي للحركة الفاشية على التراب اللبناني. إن الإرث الفكري للأممية الثانية التي ينضوي تحت لوائها الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني يتنافى مع الإرث الفاشي الذي ينضوي تحته حزب الكتائب والقوات اللبنانية، فما الذي جمع بين زعامة الحزب التقدمي الاشتراكي وزعامة حزب الكتائب وحزب القوات اللبنانية؟
تقول كل الحسابات والمعادلات الخاصة بالنظم الحزبية وأسس تكوين وعمل الجماعات السياسية بأن ما يجمع القيادة بالقاعدة الحزبية هو خط الحزب فلو غامرت القيادة وتخلت عن خط الحزب فإن القاعدة ستطيح بها، ولكن في لبنان لم تجرؤ قاعدة حزب الكتائب أو قاعدة حزب القوات اللبنانية أو قاعدة الحزب التقدمي الاشتراكي على الإطاحة بقيادة الحزب، فهل أصبحت القيادة أقوى من الحزب أم أن القاعدة فقدت مواصفاتها ولم تعد موجودة تمارس فاعليتها ودورها كقاعدة، أم أن الأزمة وصلت إلى حالة من الضعف المزدوج بحيث اندمجت القيادة الضعيفة ضمن القاعدة الضعيفة بشكل أصبحت فيه السيطرة للنموذج النابليوني الذي يأخذ اشتقاقه من عبارة نابليون الشهيرة «أنا الدولة»، وبالتالي أصبح الجميّل وجعجع وجنبلاط هم حزب الكتائب وحزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، وبالمقابل أصبحت هذه الكيانات هي هم. إن الانقلاب الذي حدث في توجهات وليد جنبلاط الذي يقول عدد كبير من المحللين بأنه ارتبط باغتيال الرئيس رفيق الحريري ولكنه في حقيقة الأمر بدأ قبل ذلك بقليل وتحديداً عندما انعقد مؤتمر باريس الأول للمانحين الذي كان رفيق الحريري مهندسه الرئيسي، وكان هذا المؤتمر يهدف إلى حل الأزمة الاقتصادية اللبنانية التي تصاعدت بفعل فساد شركات الحريري نفسه وغير ذلك من الأمثلة والشواهد التي أوردها السياسي اللبناني نجاح واكيم في كتابه الشهير «الأيادي السوداء».
لقد جعل انفجار السان جورج رفيق الحريري شهيداً بطلاً ولكن لو أقيمت لجان التحقيق في الفساد المالي وتجاوزات شركة سوليدير وغيرها لأصبح الأمر غير ذلك. وقد يقول قائل بأن التحالف مع الغرب والولايات المتحدة هو السبب في تحول مفردات خطاب زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني، ولكن هل التحالف مع الغرب وأمريكا قد نجح فعلاً في تقديم "الحوافز الملموسة" للاقتصاد اللبناني بما يستدعي قيام زعامة الحزب التقدمي الاشتراكي القيام بعملية التحول والتبديل في مفردات خطابها السياسي التي تجاوزت مجرد التحول وأصبحت تشكل "انزلاقاً" بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهو انزلاق أدى بقيادة الحزب التقدمي الاشتراكي إلى ارتكاب أكبر الممنوعات التي نهى عن ارتكابها فكر المؤسس القائد كمال جنبلاط فقد لاذت بنادق الحزب بالصمت الكامل إزاء العدوان الإسرائيلي الغاشم ضد لبنان، وبدلاً من أن تتصدى قيادة الحزب ومفردات خطابه السياسي للعدوان برزت بنادق الحزب أكثر خجلاً من أن تواجهه وبدلاً عن ذلك انبرى الخطاب السياسي للحزب في مهاجمة سوريا وحلفائها المقاومين اللبنانيين باعتبارهم المسؤولين عن العدوان!!
أول أمس الجمعة جاءت كبرى المفاجآت عندما تحدث كمال فياض أحد أبرز القادة العسكريين – الأمنيين في الحزب التقدمي الاشتراكي عندما فضح حقيقة الاغتيالات التي حدثت في لبنان كاشفاً بوضوح بأن إسرائيل وأمريكا هما اللتان تقومان بهذه العمليات وبأن حلفائهما اللبنانيين هم الذين يتولون توجيه الاتهامات إلى سوريا، ومرة أخرى يكشف حديث فياض عن عمق الأزمة السياسي اللبنانية التي يصعب الإجابة عليها من خلال طرح السؤال القائل: كيف نفهم القوى السياسية اللبنانية الحالية؟ ولكن باستبداله بالسؤال الآخر: هل حقاً توجد في لبنان قوى سياسية ضمن ما تطلق عليه تسمية «قوى 14 آذار» أم أن الموجود هو "شعارات" و"وكالات" و"فروع" لأجهزة مخابرات عالمية؟
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد