جيرار غاروست: خزّان كوابيس وذكريات

12-02-2008

جيرار غاروست: خزّان كوابيس وذكريات

جيرار غاروست من أبرز نجوم تيار «التشخيصية المحدثة» الفرنسية منذ الثمانينات من القرن الماضي. يهمنا أيضاً بسبب قربه وقرابته من بعض التجارب التشكيلية الرائدة العربية، خصوصاً التي تستثمر التراث التصويري المسيحي بأصوله المحلية: اللبنانية – السورية (الأنطاكية السريانية) أو المصرية (القبطية).

لعل أبلغهم تأثراً بهذا اللقاء «الأيقوني» هو الياس زيات، وخصوصاً في أعمال السنوات القريبة، نعثر لدى الاثنين على ما يسميه زيات بـ «الرجل العصفور» المعراجي المحلق في فراغ روحي متحرر من مادية العالم السفلي والجاذبية الأرضية.

نعثر لدى غاروست على الفارق الأساسي مع هؤلاء وهو التراكم الكلاسيكي النخبوي في شخوصه الملائكية المجنحة والتي تخرج أساساً بأدبياتها من «العهد القديم» ومن لوحات جيريكو. والفارق الأشد وضوحاً أنها شطحات حلمية ملتصقة بطفولة الفنان لذلك دعي المعرض باسم منطقة عائلته «بورغون والعائلة ذات المياه الدافئة»، يقام هذا المعرض الأشد أهمية في «غاليري تامبلون» القريبة من «مركز بومبيدو» في قلب العاصمة الفرنسية ويستمر حتى نهاية شباط (فبراير) الجاري.

يتوحد المكان (أو سينوغرافية الأرضيات وديكورها) من خلال استخدامه لعوالم العمارة الداخلية في أجمل الكنائس الغوطية الفرنسية وهي «شارتر» القريبة من باريس والتي تتفوق في شهرتها على «نوتردام» والأولى يلاصقها محترف موسى طيبا (لبنان).

بعض النقاد استبدل العنوان باسمها «شارتر» وهو عنوان أبرز لوحة في المعرض. يصوّر جيرار نفسه فيها مقلوب التشريح (رأسه مكان قدميه) يحمل الشموع بأيدٍ ثلاث، ونتبيّن في التكوين مداخل الزجاج المعشق وأقواسه، الذي عرفت به هذه الكاتدرائية.

لا شك في أن تصوير غاروست يغرق في الذاتية. يُعلّق هو نفسه بمناسبة المعرض الراهن على هذا الاستغراق النرجسي بأن «كل الطرق تؤدي الى الأنا في لوحته». تعيش طفولته المجنحة، نعثر في إحدى اللوحات على جناح الكنيسة وقد تحوّل الى غرفته المراهقة والطاولة التي تعيش ذاكرته وتحمل صورته وبعض أشيائه الحميمة، تبرز من تحت الطاولة قدما والدته البضتين من دون رأس أو بقية الملامح. وتبدو في الأرضية لوحة أو سجادة حافلة بالشخصيات الأسطورية الكلاسيكية أكثر منها التوراتية، بعكس التكوينات التي يمثل فيها صراحة كتب العهد القديم، والأجنحة الملائكية، والتحريفات الحلمية في الأجساد التي تذكر بالمعجزات بدرجة ما.

يقول أيضاً إنه لا يتبع في تصويره سوى هذياناته وهواجسه التخيلية الذاتية، لذلك يختلط لديه الديني بالدنيوي. تماماً كما هو منهج شعرية التونسي أحمد الحجري.

يهرب غاروست من ضجيج باريس الى عمق الغابة حيث الأساطير والحكايا التي تستحضرها استلهاماته العائلية. كان تعلّم التصوير من عمه وهو عاش في كنفه، يتذكره في لوحاته وشروحاته ويقول إنه كان في الوقت نفسه بنّاءً ونحاتاً للحجارة، اشترى بيتاً خرباً ليرمّمه ويحفر جنبه بئراً غامضة. بئر يرسمها غاروست مرمزة، خالية من الماء وكأنها نافذة نحو المجهول مع تمثال السيدة المغروس في فوهتها حيث يقال إن صاحبته غرقت.

تمثل لوحته خزاناً صادقاً من الكوابيس والذكريات معبّرة عن هجرة «الأنا» المغتربة والعامرة بالوحشة الى عالم الخطوط والألوان. يدفع الحشد السردي لوحة غاروست خارج مصنفات التقويم النقدي، كما تنزلق الى هامش «التشخيصية المحدثة» التي تمثلها. قد يكون هذا أحد أسرار أصالته.

أسعد عرابي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...