بيير كاردان
هاني نديم: في نفس اليوم الذي رحل فيه حاتم علي، رحل أيضاً بيير كاردان أحد مصممي الأزياء العباقرة في التاريخ، والذي كتبت عنه بورتريه طويل في كتابي (بوتريهات حزينة من استوديو الأفراح) ذلك أنني أحبه بشكل خاص، وتابعت مساره سنوات، لأحصل على حذافير سيرته العبقرية.
ومما يجب أن نعلمه عن بيير كاردان:
بعد الحرب العالمية الثانية، بدا الشرخ بين المعسكر الشرقي بأنظمته الاشتراكية والمعسكر الغربي الرأسمالي أكبر من أن تردمه ثقافة أو حلول، وازداد هذا الخلاف على حدود التماس في أوروبا التي تمسك الجزء الشرقي منها بالأيديولوجية البلشفية الصارمة ورفض كل مظاهر النمط الغربي ونظرياته حتى بدقائق الأمور.
وهو ما جعلنا أمام "أوروبتين" تماماً؛ شرقية وغربية. ذلك الخلاف الجذري غيّر ميكانيزم الشارع كما غير حركة رأس المال. وبالتالي، الأسواق والتجارة والأزياء والسيارات والأغاني والفنون.
وقد يكون من المستهجن أن الاتحاد السوفييتي في هذه الآونة قد دفع ميزانيات هائلة لتغيير نمط اللباس الغربي وتأسيس نمط جديد يهيمن على المشهد من الأعلى، الاتحاد السوفياتي الذي كان مثار الحسد لأمريكا بفتوحاته الفضائية والعلمية، ومثالاً يحتذى للدول النامية التي رأت فيه "سوبرمان" شرقي ينقذها من براثن الشيطنة الغربية عديمة الأخلاق، بذل قصارى جهده لينقذ نفسه من تلك الفجوة بين العرض والطلب، بين الانتاج والاستهلاك، ومن فكرة الملابس المتشابهة والرمادية التي ظلت إلى حدٍ مدهشٍ رمادية ومتشابهة كسيارات الـ "لادا" تماماً. تلك الصرامة "الرمادية" والذهنية الجمعية لصناعة الملابس المحلية غير المألوفة التي فرضتها تلك الأنظمة، حوّلت الناس إلى مصمّمين وخياطين يصنعون ثيابهم بأنفسهم، الأمر الذي زاد الوضع سوءاً!
وبطبيعة الحال وحركة التجارة التي لا يقف في وجهها شيء؛ تم اختراق البلاد بسوقٍ سوداء آتية من الغرب، من لندن ونيويورك وباريس وحركة الفن والموضة التي كانت تجري في العالم. وصعدت طبقة وسطى جديدة مفتونة بالعادات الاستهلاكية الغربية وهو ما أدركته الدول الاشتراكية فسمحت لحالات تصميمية فردية بالظهور والانتشار ودعمتهم بالإعلان الطرقية والمتلفزة وافتتحت لهم مراكزها الثقافية وبيوت الشباب، واستوعب النظام الاشتراكي تلك الحاجة، وبحث هذه المرة عن مصممين غربيين لديهم ميول اشتراكية في شخصياتهم ومخرجاتهم ليسمح بدخول منتجهم إلى داخل أراضيهم ويغضوا الطرف عنها.. وبالطبع كان بيير كاردان هو ضالتهم المنشودة. وفي حقيقة الأمر، فإن بيير كاردان ليس مناسباً للاشتراكيين وحسب، بل كان "المخلّص" الذي أتى إلى العالم لينقذه من براثن المبالغة والزخرف الذي جاء كردّة فعلٍ معاكسة للخراب الهائل بعد الحرب.
* رجلٌ بسيطٌ، صنع قمصاناً بيضاء بقماش عادي وأزرار عادية لا تكاد ترى، بدلات كلاسيكية وسراويل غامقة دون مبالغات ولمسة خيّاط مدهش الأناقة فقط لا غير. هذا يكفي! مهندس معماري مولع بالنحت والفنون، يقرأ كثيراً ويرسم كثيراً، صمم كل شيء، صنع أزياءً لرواد الفضاء، ألبس فرقة البيتلز سترات غريبة فاشتهروا بها وقلدهم العالم، عمم سترة "غاندي" على الرأسمالية رغم أنفها وأطلق الدوائر التي يحبها في عالم الأزياء، اقتحم بأزيائه الصين والهند وروسيا بكل جرأة وبساطة ضارباً عرض الحائط بصيحات منافسيه في باريس وحذرهم من خوض إحدى العلامات الكبرى في أسواق "مهينة"! ومنذ أول عرض أزياء له، أعلن بيير كاردان عن اختلافٍ جلّيٍ في التفكير والمنطلق، في الأهداف والمرتكزات، بدا ناتئاً عما يجري في سوق الأزياء العالمي، كان صادماً واعتيادياً بمزاوجة نادرة، يركز على الهامش المهمل والمتن المنسي، بسيطٌ كفلاح، معقّدٌ كفلاح أيضاً، وضع تصاميمه بين يدي الناس البسطاء ورفعها عالياً حتى أنه يعدّ من أهم مصممي الخيال والمستقبل.
* في فيشي، حيث كان يعمل صانع خياط في محل مهمل، مرت به عرّافة عجوز وناولته اسم رجل سيقابله في أستراليا! كان يافعاً دون أمجاد ولا خطط، نظر لها بالعمق ليتبين ما إن كانت مجنونة وقال لها هازئاً: أعطيني اسم في باريس أولاً، فناولته ورقةً عليها اسم رجل في باريس وعنوانه.. وضع "المازورة" في محل الخياطة الذي يعمل به وقرر الذهاب إلى باريس في الحال. يقول: "وصلت إلى باريس فجراً ومضيت إلى شارع رويال متوجهاً إلى منزل الشخص الذي أعطتني اسمه العرّافة. أوقفت رجلاً في الشارع لأسأله عن مكان المنزل فكان هو الرجل ذاته! هناك قابلت جان كوكتو وبيرار وجان ماريه. كانوا يصنعون أزياء لفيلم الجميلة والوحش فأوكلوا المهمة إليّ... وانطلقنا".
* لك أن تتخيل أن لبيير كاردان تسعمئة منتج مسجل باسمه في مئة وأربعين دولة. لقد صنع كل شيء وكأنه أراد أن يصبح العالم كله موقعاً باسمه، أقلام رصاص، مناشف حمام، زجاجات عطر، ربطات عنق، طائرات، سيارات، منازل وقصور، ولّاعات، أحذية، نظارات، زيت زيتون، صابون، حقائب، أغطية جوالات، ساعات، محافظ جيب، كنب، سجاد، وغيرها، مزج بين حياته وتجاربه وأسفاره وأنتج نوعاً جديداً من الموضة تفهمه جميع الشعوب، استوحى من الهند الجاكيتات دون ياقات وألبسها لفرقة البيتلز فانتشرت انتشار النار بالهشيم وسميت بـسترة نهرو، غيّر الخطوط والقماش وصنع سترة شبيهة دعيت سترة غاندي، أوجد بدائلاً عن الجلد الطبيعي وقتل الحيوانات وله أكثر من براءة اختراع في إدخال خامات جديدة على الملابس، البلاستيك والمعادن وغيرها من المواد. إنه ملك النسيج الأنيق، يعرف كل أنواعه ويختار بينها، يجب أن يلمس بيده ويشتم رائحة الخامة قبل أن يقصها، له شروط صارمة في اختيار درجة اللون، محارب من الطراز الأول.. يقول صديقه بينارتي ورو: "من يراه قبل عرضه كيف يسرح لهذه ويصلح قبعة الأخرى، كيف يصفق لمهندس الإضاءة ويصرخ في وجه المقصرين، يفهم تماماً من هو بيير كاردان. إن بيت الأزياء الذي أسسه بيير كاردان عام 1950 لم يكن يهتم بالموضة والأزياء فقط، لقد أصبح معبدًا للمثقفين وملتقى للفنانين، يجدون فيه ملاذهم وإلهامهم، إنه شخص ملهم بحق، أكتب هذه السطور وله من العمر ثمانية وتسعون عاماً وما يزال يقدم تقاريره اليومية المكتوبة بيده إلى مديري فروعه، بيير ليس مصمماً فحسب، بل مجرباً كبيراً وخياطاً رائعاً".
* لا يجامل أبداً، يصف غوتشي وبرادا بأنها علامات تجارية، يقول: "غوتشي ليس خياطاً هو صانع جلود، أما أرماني فهو رجل موهوب جداً. انه يصنع ملابس أنيقة، يمكن ارتداؤها دوماً. لكن هذا ليس إبداعًا". إلا أن بيير كاردان رغم تلك الفجاجة كان في منتهى النبل والشهامة. فحينما غرق المهندس المعماري الشهير أنتي لوفاج بقروض كثيرة، وعجز عن التسديد للبنك، اشترى بيير قصره المعروف بقصر الفقاعة قرب مدينة "كان" بأضعاف سعره وأوكل إليه إعادة ترميمه. كان كأي نبيل أيضاً مولعاً بالقصور ولكن أية قصور، تلك البيوت الرمزية والمتصلة بالتاريخ.
* سُئل منذ فترة هل تغير نمط حياتك بعد الثراء، فأجاب: "لا، لم يتغير شيء. لدي المزيد من المال. والشهرة لكنني أعيش بنفس الطريقة، أعيش وحدي في فندق أملكه. في شقة صغيرة بالطابق الأرضي حيث لدي مدخل خاص بي. لديّ أيضًا العديد من المنازل في باريس، لكنني لا أذهب إليها أبدًا". هل هو إيطالي أم فرنسي، يجيبنا بيير: "أنا مدين بنجاحي لفرنسا وإدراك موهبتي لفرنسا، لكني ما زلت إيطالي في صميمه ومن حيث الذوق".
* بيير كاردان آخر مصممي "الستراتوسفير" الباقين على قيد الحياة، يقول سوتيه: "سوف يتذكر العالم ثلاثة في عالم الموضة: كاردان وكوريجيس ورابان وجميعهم من الطبقة العاملة وشاركوا في رؤية الحياة وابتكروا طرقاً فردية للغاية".، أما "لوسيا فان" المختصة بعالم الأزياء فتقول: "مهنة الأزياء ليست مقدسة ولكنها لا مكان بها للأحقاد والتصفيات الأخلاقية، أحب بيير كاردان لأنه رجل مصمم تماماً لهذا العالم، لقد اكتشف جوهر الرجل، وهذا سبب نجاحه".
إضافة تعليق جديد