سعاد جروس :الميت من أهل سقر والوادي الأحمر
الجمل ـ سعاد جروس : ذا كان القطن أحمر, والمغسل أعور, والدكة مخلعة, والنعش مكسراً, فاعلم أن الميت من أهل سقر والوادي الأحمر. الميت هنا مجازاً شعبنا العظيم الذي خرَّ مغشياً عليه من النشوة بعد ممارسته لحقه الوطني وتمكنه من تحقيق الديمقراطية بالضربة القاضية. ففي حمص لم تنجح قائمة «حمص المستقلة» التي تحالفت في اليومين الأخيرين على عجل قبيل بدء عملية الاقتراع, والسبب أن الشعب سماها «قائمة المحافظ», ولأنها قائمة المحافظ هوت بمن فيها من أبناء حمص المدينة... هيك جكارة بالطهارة... لم ينتخبها الحماصنة, وركب على الكراسي التسع المخصصة للمستقلين الحماصنة نشامى البدو وقبضايات الريف اللطيف, فتحقق بذلك النصر المظفر للمنحدرين من أصول فلاحية وبدوية على سليلي برجوازية المدينة, وانتقموا لتاريخ طويل من فوقية وعنجهية أبناء العوائل المدنية حيال أبناء الفلاحين والعربان, وسوف يمثلونهم شاء من شاء وأبى من أبى في مجلس الشعب الموقر... وكان لفوزهم طعم التشبيح الساحق الماحق فاستباحوا شوارع المدينة بمسيرات سيارة مظللة بوابل من رصاص الفرح مع هتافات وشتائم مدعومة بتلويح أصابع اليد الوسطى كأبلغ تعبير عن النتائج الحمصية.
ومن الرقة أطلت الديمقراطية بأبهى صورها العشائرية, مدججة برصاص الغضب والرفض لقرار المحافظ إعادة الانتخابات في 20 مركزاً للاشتباه في التزوير الذي أجج النار الدائمة بين العشائر ووصل لهيبها إلى باب قصر المحافظ, ولم يمنعها سوى تدخل الجيش وقوات الأمن واستخدام القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه لتفريق محتجين أشداء مارسوا ديمقراطيتهم في تكسير وتخريب لوحات الإعلان في الشوارع وكسر واجهات المحال بعد طردهم اللجان الانتخابية وتحطيم الصناديق رافضين إعادة التصويت!! وكان موقف السلطات كموقف الحائر من أين أبوسك يا أقرع, لينتهي الأمر حبياً باتفاق محاصصة وفوز مرشح من كل عشيرة حقناً للدماء.
في دمشق كانت الدراهم كالمراهم والكريمات التجميلية, ولم تُخيب النتائج ذوي الصور الجميلة والأيدي الكريمة, والخطب والمواعظ الرخيمة, فحققوا فوزاً كاسحاً دعمه ما أشيع في الإعلام عن توجيه داخل الحزب الحاكم بشطب أسمائهم, ومن ثم تكذيب تلك الشائعات عشية اليوم الثاني للاقتراع بعدما هاجت وماجت, وأعطت مفعولها العكسي على نحو ساحر ليتحقق الفوز الأنيق أناقة القطط السمان.
لكن الأمر لم يكن كذلك في ريف دمشق, وتشرشحت الانتخابات في مخيم الوافدين ومخيمات النازحين وصار الضرب بالعصي والركل بالأقدام والصفع بالأيدي وإحراق الإطارات من غير رصاص, ولأن سوء الظن من حسن الفطن, اشتبهنا في أن هذه الوضعية في ممارسة الديمقراطية العضلية اعتمدت للتعبير عن الاحتجاج على نتائج الانتخابات, لكن تبين لاحقاًَ حسب مفسرين محليين بأنها تعبير عن نشوة غريزية ليس إلا, ثمة عشيرة متخصصة بهذا النوع من التعبير الاستفزازي الجامح تمارسه في كل دورة انتخابية سواء فاز نائب عنها في الانتخابات أم لم يفز, والله أعلم.
أما حلب بلد الغناء والطرب, فحافظت على برودة أعصابها على الرغم من الحرارة المرتفعة لحيتانها الممارسين والمتمرسين في العملية الانتخابية, وفضل الخاسرون منهم التريث قبل التقدم رسمياً بطلب اعتراض يطعن في نزاهة العملية, فربما وهو الأرجح يهضموا الخسارة ليلتفتوا إلى معارك أخرى أجدى وانفع للقلوب والجيوب.
رغم كل تلك المظاهر المتنوعة للديمقراطية في انتخاباتنا التشريعية, أطل بوش من بيته الأسود بكل سذاجة, لينتقد السلطات السورية ويتهمها باستخدام قوات الأمن والعنف في تسيير العملية الانتخابية, ولو أنه تلهى بمشاكله, وبهؤلاء الذين تظاهروا أمام مجلس النواب مطالبين بعزله, لكان أحسن عملاً ولما كشف بتصريحاته للشعب السوري خصوصاً عن جهل مطبق بطبيعة منطقتنا وديمقراطيتنا المتشعبة, العتب ليس على الأقمار التجسسية التي أعلمته, وإنما على من أساء تفسير وجود قوات الأمن في المراكز الانتخابية, فهي لم تأت لتجبر احداً على انتخاب فلان أو علتان من المرشحين, بل حضرت لفك الاشتباكات الديمقراطية بصورها كلها ولا سيما الخشنة, وقد حدثت فعلاً بالصوت والصورة لتقلع عين بوش الذي لا يفهم ولا يريد أن يفهم أن السلطة في سوريا لا تحتاج الى وسائل الترهيب لانتخاب من ترغب فيه, فحزب البعث لديه اكتفاء ذاتي, يضمن الفوز ليس لمرشحيه, بل لكل مرشحي أحزاب الجبهة حتى من كان يتيماً بلا مناصرين, والدليل الأصوات التي حصدتها قوائم الجبهة دون حاجة الى انفاق قرش واحد على الدعاية والمضافات الانتخابية... وأيضاً لعلم بوش شخصياً وكل المنادين الدوليين بتمكين المرأة أنه لولا قوائم الجبهة التقدمية لم تحافظ المرأة السورية على مكانها في البرلمان, فبين مرشحي حمص المستقلين لا يوجد ولا حتى امرأة واحدة!!
فمن يصدق أن رئيس حكومتنا يحصد أعلى نسبة أصوات في حلب؟! أو مرشح يعرف أن محبيه لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة وأن كارهيه لا حصر لهم, دخل الانتخابات رافعاً شعار «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم» فحصد ما فاق التوقع من الأصوات. ثم أن يفضل الشعب الوجوه القديمة على الجديدة, لأن الذي يعرفه أفضل من الذي سيتعرف عليه, ولله في ديمقراطيتنا أحكام, لا يفهمها العقل الأميركي الضارب أطنابه بألوان شتى من هوس الاعتقاد بأن ديمقراطيته هي الوحيدة والأصح والمثلى.
فليخرس بوش ولينزل عن أكتافنا... ولئلا تحسدنا البلدان غير الديمقراطية... الميت من أهل سقر والوادي الأحمر.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد