مصدر النظرة إلى الذات: دراسات وتأمّلات لكاتبة أمريكية استثنائية
توني موريسون هي بالتأكيد أحد أشهر الروائيين الأميركيين المعاصرين، ولكنها ليست متميّزة في فضاء الرواية فقط فهي أيضا ناقدة أدبية وكاتبة وأستاذة للأدب في العديد من الجامعات الأميركية. حازت عام 1988 على جائزة "البوليتزر" الأدبية الأميركية الشهيرة عن روايتها "محبوبة"، ثمّ حازت على جائزة نوبل للأدب عام 1993 وكانت بذلك أول سيدة أميركية من أصول إفريقية تحصل على ذلك التميّز الأدبي الكبير.
ولا شك أن موريسون متميّزة أيضا في المواضيع التي تطرّقت لها في كتاباتها المتعددة والمتنوّعة ومن موقعها كأميركية من أصول إفريقية "داكنة البشرة" عاشت طفولة صعبة مثل أغلبية الأميركيين "السود". كانت أسرتها تعمل في الزراعة بجنوب الولايات المتحدة قبل أن تهاجر إلى ولاية أوهايو حيث رأت "توني" النور في بلدة "لورين" عام 1931 .
أولت توني موريسن اهتمامها المركزي للبحث في مسائل الانتماء والهويّة في المجتمع الأميركي. ذلك عدما يكون المعنيون بذلك هم من سليلي العبيد السود الذين جرى استقدامهم من إفريقيا خاصّة للعمل في مزارع المالكين البيض من الأوروبيين. وهذا الاهتمام نجده في جميع أعمالها. ولا يشذّ عن القاعدة عملها الأخير الذي يحمل عنوان " مصدر النظرة إلى الذات". ولا يشذّ عن القاعدة أيضا الاهتمام الكبير الذي قابل فيه جمهور القرّاء هذا العمل.
الميزة الأساسية لهذا الكتاب ــ الشهادات تأتي من واقع أن صاحبته التي تقارب التسعين من عمرها، والكاتبة الأكثر شهرة في الولايات المتحدة الأميركية ومن بين الأكثر شهرة في المشهد الثقافي العالمي اليوم، تقدّم شهاداتها عن المجتمع والفن والثقافة عموما خلال العقود الأربعة الأخيرة من الزمن في الولايات المتحدة الأميركية..بعضها قديم من حيث كتابته لكنها تتوجه إلى "القارئ المعاصر".
تتوزع محتويات هذا العمل بين ثلاثة أقسام رئيسية يتركّز الأول منها على "أهمية العلوم الإنسانية". وتفتتحه المؤلفة في مقال سابق حول تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ــ أيلول من عام2011 التي استهدفت برجي مركز التجارة الدولية في نيويورك ووزارة الدفاع الأميركية في واشنطن. ذلك بالتحديد من زاوية أن الضحايا لا ينبغي السماح بانزلاقهم إلى غياهب النسيان.
والقسم الثاني يخص "تجربة السود الأميركيين" وتستهلّه المؤلفة بالعودة إلى المسار النضالي المرير الذي خاضه الأميركيون ذوو الأصول الإفريقية من أجل نيل حقوقهم المدنية كمواطنين "مثل الآخرين". وهذا ما ترمز له "توني موريسون" بـ "نصّ تأمّلي" عن المسار الذي سلكه القس الأميركي الأسود مارتن لوثر كينغ.
وتشرح من خلال التعرّض لمسيرة نضاله واقع "العلاقات التاريخية" المتشابكة المعقّدة وذات الطبيعة "العنصرية" في الولايات المتحدة الأميركية. وتشرح في نفس السياق أن تحميل الأميركيين ذوي الأصول الإفريقية "مسؤولية تعاظم الجريمة" ليست سوى نوع من "الإرث" الذي أفرزته تلك العلاقات.
القسم الثالث والأخير هو عن "الكتابة والفن" وتستهلّه "توني موريسون" بشهادة تخصّ بها الروائي والشاعر والكاتب المسرحي والباحث الأميركي الإفريقي الأصل " جيمس بالدوين" الذي بدأت شهرته منذ السنوات الأولى لنشر كتاباته من عقد الخمسينات المنصرمة. وتركّز على القول أنه كرّس جوهر أعماله وعمله في الواقع، وبالتزامن مع عدد من أدباء وفناني جيله، للبحث في أشكال "التمييز العنصري والطبقي والفئوي" الذي كانت تتم ممارسته في المجتمعات الغربية عموما وفي المجتمع الأميركي خصوصا.
ومن خلال النماذج الأدبية والمجتمعية التي تتعرّض لها موريسون في هذا العمل تناقش على مدى صفحاته التي تتجاوز الـ 350 صفحة العديد من المشاكل الاجتماعية وفي مقدّمها مفاهيم "الآخر"، "الأجنبي". وتناقش بإسهاب ما تطرحه من رهانات "اقتصادية" و"ثقافية" و"جيوسياسية ــ جيوبوليتيكية". وكذلك ما يطرحه الآخرون "المهاجرون" من تحديات على صعيد الهويّة في مجتمعات الهجرة مثل المجتمع الأميركي. ذلك وصولا إلى تأكيد "موريسون" أن "مشاكل أميركا الوطنية والعالمية تجد جذورها في رسم صورة شيطانية للآخر".
ولا تتردد "توني موريسون" في التأكيد بأشكال مختلفة أن حركة الهجرة الكبيرة الجارية اليوم لا بدّ وأن تطرح " مفاهيم جديدة " تتضمن نوعا من المراجعة الحقيقية لمسائل "السيادة" و"الحدود بين الدول". ذلك إلى جانب مسائل أخرى لها راهنيتها وليس أقلّها أهمية " سطوة المال" و" حقوق الإنسان عموما".
و" التمييز الذي يستهدف النساء" يحظى باهتمام خاص في هذا العمل في دراسة تحمل عنوان "المرأة والعرق والذاكرة". وهي تقسم نظرة المجتمع الأميركي للنساء بين ثلاث فئات عامّة تتمثّل في " مؤيدي حقوق المرأة ومناهضي حقوق المرأة ودعاة الدعوة الإنسانية دون الانضواء في إحدى الفئتين السابقتين". هذا مع تأكيد "موريسون" على "الربط بين تنامي حركة تحرر المرأة في تلك البلاد ــ الولايات المتحدة ــ في أرض مهّدت حركة تحرير السود لازدهارها".
لكن بكل الأحوال تؤكّد المؤلفة على أنه" رغم صدور بعض التشريعات التقدمية وتزايد عدد النساء العاملات في الحقل السياسي ورغم نسبتهن في القوائم الانتخابية فليس هناك من يعترض على واقع أن السياسة يصنعها الرجال... ومن أجل الرجال".
ولا يغيب عن اهتمام المؤلفة الحديث عن دور الكتّاب والفنانون والمثقفون عموما في مجتمعاتهم، هذا خاصّة عندما يكون المعنيون هم من "ذوي البشرة الداكنة" في مجتمع "أبيض" كالمجتمع الأميركي قبل عقود قليلة. بكل الحالات تعكس المحتويات "المتنوّعة" لهذا الكتاب "طيفا واسعا" من المسائل ذات الأهمية الراهنة من حيث انها مطروحة بقوّة على المجتمعات المعنيّة المعاصرة.
كما يتم التعرّض لمواضيع أكثر عمومية مثل "الموهبة الأدبية" و" سلطة اللغة"، كما تشير عناوين عديدة في الكتاب. وأحاديث أيضا عن أعمال المؤلفة نفسها وبـ "قلمها" وليس أقلّها شهرة روايتها الجميلة ــ المترجمة للغة العربية ــ التي تحمل عنوان "العين الأكثر زرقة".
وكتاب تريد له مؤلفته أن يكون "معركة ضد تغذية الجهل والصمت المفروض والأكاذيب الشائعة".
الكتاب : مصدر النظرة إلى الذات
دراسات وخطابات وتأمّلات مختارة
تأليف : توني موريسون
الناشر : كنوبف ـ 2019 ـ 368 صفحة
مجلة "قراءات"
إضافة تعليق جديد