ماذا تقول الأغلفة وهل تصدق في حديثها عن الكتب؟

الأمر هكذا دائماً. فبين غلاف هذا الكتاب أو ذاك، بغض النظر هنا عن مادته، ثمة تلك الجاذبية التي يجب أن تشدك، تحرك عواطفك وتسحرك، لتنتهي الى الوقوع في شركه. ربما أتى انجذابك للغلاف كاملا، وربما لمجرد خط فيه، صنعته يد المصمم. ربما بسبب حساسيته المفرطة، فنيته، غرابته، ألفته. بالأحرى يمكن القول إنك وجدت تعبيراتك الخاصة، كاستقراء تعبيري غير مقصود، من المصمم نفسه.
الغلاف الواقعي. الغلاف الخيالي. المقاربات العصرية. اللوحة الكاملة. إنه إجمالاً ذلك الشيء أو تلك اللمسة التي تجعلك مذهولاً، مبهوراً لكونك وقعت أخيرا على صدى هواك، وذوقك الشخصي. لجمال أغلفة بعض الكتب، سطوة تهاجم الروح، وتأكل الحواجز بين جمالها وبين المادة المكتوبة، التي قد لا تكون بالضرورة، بنفس جمال الغلاف وسطوته. هذا الضرب من العمل الفني المسمى صناعة الغلاف، ليس بسيطا مثلما يبدو في ظاهره، وربما يكون أصعب مراحل الكتاب في حلته النهائية، حين يأتي عنوان الكتاب عند البعض، في مرحلة أقل أهمية من غلافه، نظرا لصلته الوثيقة بالشاري. وليتسنى للكاتب أن يقنع القارئ بكتابه، ينبغي راهنا بذل عناية تامة تفوق كما ذكرنا، مدى إجادته لمادة كتابه. دور الغلاف كفاتن ومغو، يعيش طويلا ويلبس الكتاب كجلده، والأرجح أن الانتباه الى أهمية الأغلفة، غدا الشغل الشاغل للكثير من الكتاب المتطلبين.
بعض أغلفة الكتب تعبّر عن محتواها بتردد وتلعثم. بعضها الآخر يقول كل شيء دفعة واحدة. بعضها شجاع، وبعضها خلاق، وبعضها فظيع، كما أن فيها ما هو صادق ومخلص ورزين. بعضها كلاسيكي ومتزمت وبعضها «لذيذ» أو «دلوع»، فيما يعتقد الكثيرون أن السر الحقيقي الكامن خلف نجاح كتاب ما، هو تعبيره المباشر ومدخله الموفق الى المادة المكتوبة، بوصفه شريكا لا غنى عنه لها، أو بصمة لصاحبه أو لصاحبته ذات الباع المؤثر واللافت والقديم في صناعة الأغلفة. سوى أنها أمزجة الشارين أحيانا، التي تنحاز إلى غلاف بعينه كخطوة أولية قبل الشروع في تبيان فنية مادته أو موقعها الإبداعي.
مما لا شك فيه، أن لصناعة أغلفة الكتب أو إبداعها بشكل أدق، رحلة تاريخية تدرجت معها، ورافقت بدائيتها وتطورها حتى شكلها الراهن، من كون مهمتها صون المادة المكتوبة وحمايتها، لتبلغ في مفهوم أخير، حدود حلولها في عالم الكتب، كنص مواز ومنافس لكل أشكال الإبداع المكتوب سواء الشعري منه أو الروائي والفلسفي وصولا الى كتب التراث وهذه لها حرفتها الخاصة.
ثمة معنى إذاً، وفلسفة للغلاف، وعلاقة بالنص يرى البعض في عدم تخطيها مهما بلغت سوريالية بعض صانعي الأغلفة أحيانا. حول الغلاف وفي تناول طاولة مستقبله البعيد والقريب، والمنافسة بين الكتاب الورقي وذلك الرقمي، وحول أحقية استخدام كل الخبرات القديمة منها والرقمية (الكومبيوتر) لمواجهة التطور، وحول بصمة وحساسية كل صانع غلاف، ارتأينا في هذه المقاربة، استطلاع آراء محبي القراءة وبالتالي الكتب، للوقوع على إجابات عفوية بعيدا عن أجوبة المثقفين التي سبق لنا الوقوع عليها، وتبتعد ـ برأينا ـ عن العفوية التي توخيناها شرطا أساسيا هنا تناول أهمية الغلاف وأسراره، لا يدعي الإحاطة كليا بدهاليز هذا العالم، وتبقى مقاربة تلقي بعض الضوء على عالم الأغلفة الجميل.
أحمد حجازي يعمل حارسا أمنيا لأحد البنوك، يختار الكتب ذات الخلفية البيضاء تماما والخالية إلا من عنوان الكتاب: «الأمر بالنسبة لاختياري ينبع من حبي للشعر الحديث، فأجد ضالتي في مثل تصاميم هذه الأغلفة البيضاء التي اعتمدتها بعض دور النشر. أحيانا لا أنتبه الى اسم الشاعر، وأتناول الكتاب «الأبيض» حين تقع عينيّ عليه».
حجازي محق في اعتماد بعض الدور على الخلفية البيضاء لكتب الشعر، فيما دور أخرى تتحدى نفسها بخلفية ضاجة بكل الألوان التي وإن عكست الجرأة أحيانا، غير أنها بالنسبة للبعض تلعب دورا منفراً يصاحب القارئ طوال رحلته في قراءة الكتاب، وكلما وقع نظره عليه في مكتبته البيتية.
من المصممين من لا يريد أن «يوجّع رأسه» يقول إيلي نكد الطالب في الأميركية ـ قسم الآداب الإنكليزية ـ «فيلزق» لوحة لرسام مشهور، دالي أو بيكاسو أو فان غوغ أو سواهم، وينتهي الأمر عند هذا الحد. «هذا النوع من الأغلفة ـ يضيف نكد ـ لا أثق به، وأشعر رأسا بنوع من الاستهانة بي وبذوقي ـ إذا صح التعبير ـ وأسأل بيني وبين نفسي كيف قبل الكاتب بمثل هذا الغلاف المتعجل وغير المعبّر عن المادة بين دفتيه. صحيح أن اللوحة لرسام كبير وعالمي، غير أن مهمة الغلاف برأيي، هو حمل محتواه».
لكتب التراث بوجه عام، والكتب الدينية بوجه خاص، قصة أخرى رواها لنا أحمد غلاييني ـ معمّم ـ يقتنيها من حاجته الى الثراء الروحي الديني أولا «فقراءتها تجلب الصفاء والسلوان الى قلبي». ومن جمال أغلفتها ـ بحسب غلاييني ـ المذهبة والمشغولة بفنية لافتة سواء القديمة منها «عندي كتاب الشاهنامة» غلافه جميل جدا، وهو أعظم ملحمة أدبية فارسية، وهي مجدولة ومحلاة بالذهب، والقرآن الكريم بالطبع، و«ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة» وصلوات لاهوت مسيحي وتمتاز بجمال الخط وروعة الزخرفة».
يشكّل الغلاف هاجسا للبعض إذاً، من كونه حصنا أول للمادة، مع أن البعض لا يعيرونه أهمية كما أفادنا سمير العلم ـ صاحب مكتبة صغيرة ـ «إذ يمكن الاستغناء عنه، فأنا أعتبره ملحقاً لا أكثر ولا أقل، بينما الأهمية كلها للمادة المحتشدة في الكتاب. انظري مثلا الكتب القديمة التي عاشت معنا طويلا، فأغلفتها بدائية ولا تتمتع بالفنية التي تتكلمين عنها، لكنها صمدت طوال هذا الوقت».
مع تطور التقنيات والآليات على صعيد الطباعة، من خلال التواتر الخبراتي وخصوصا في بيروت، بات الغلاف قضية جوهرية، وغدا له صانعين ومريدين ومهنيين وفنانين. والحق، أنه لا يمكن الفصل بين هذا أو ذاك أو تلك، لأن العملية الفنية لصناعة الغلاف الآن، تحتاج الى أكثر من أداة وعنصر وتطلع وخلق. تحتاج الى الرسم اليدوي كما الى التوليف ـ إن صح التعبير ـ على الكومبيوتر، ذلك أن الشاري غدا متطلبا، ورغبته تلعب الدور الأول في العمل على تنميق الغلاف وتزويقه لكي يرضي تطلب الذائقات كافة.
طرحت بيروت في خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، سؤالا مدويا حول هجرة الحرفيين في لبنان، ما أثر سلبا في إصدار كتابها بصيغه المطلوبة، لأن هؤلاء حرفيو طباعة، ليس بمعنى الصف أو التركيب ـ كما أفادنا نمر هواري، عامل مطبعة ـ بل معنى الفرز: فرز الألوان. وبما أن عملية الفرز هذه كانت يدوية، ويقوم بها لبنانيون من الطائفة الأرمنية بشكل عام، فقد تأثرت بهجرتهم في الفترة الممتدة بين 1976 و1980 خصوصا ـ والكلام لهواري ـ تحت وابل التهديدات الجسدية والروحية التي قدمتها آليات العنف في لبنان.
هواري يردف «كانت عملية الفرز عملية منهكة، لأنها معقدة ويدوية في آن. ويزداد تعقيدها أو يقل بحسب عدد الألوان المستعملة في الغلاف. بحيث أن وضع لون واحد هو الأكثر سهولة، بينما مزج ألوان أربعة على غلاف، هو الأصعب. بيد أن الوضع اللبناني ما لبث أن تخطى هذه الواقعة في استعادة وخلق كفاءات أولاً، ثم في تطور مفهوم الطباعة ثانيا. وهو تطور دفع بالغلاف لكي يلعب دورا بارزا، ليس على صعيد الإصدار فقط، بل على صعيد الشراء أيضا. حتى بات الكثير من القراء يشترون الكتاب نتيجة انجذابهم الى غلافه».
هذه ليست حكاية كما رواها هواري، بل واقعة بيّنتها أجوبة الذين سألناهم، وهم ليسوا محترفي قراءة وأدب، بل يقبلون على الكتاب بمعظمهم من رغبة، وهواية الى غلافه. بول وطفا يعتبر أيضا أن الغلاف معبره الى الكتاب. صحيح أن الموضوع مهم (أي فحوى الكتاب) لكن لم يعد بمستطاعنا تخطي الغلاف. وهو أشار تحديدا إلى أغلفة كتب صادرة عن دار معينة، لأنها مكثفة وحاضرة وغير مرتجلة. أضاف وطفا أن ثمة توازنا لافتا في أغلفة تلك الكتب، من دون أن يعرف من صممها أو نفذها، أو عمل على ضبط ألوانها. الأمر نفسه بالنسبة لحسيب مدلل الذي يمر على الأغلفة قبل اتخاذ قراره بشأن الشراء.
د. نزيه ريشاني ـ الجامعة الأميركية ـ وهو مثقف على الصعيد السياسي، غير أنه يحب في كتب الإبداع ثقافة أغلفتها.
يؤكد أحد كبار الطابعين في بيروت، وهو رفض ذكر اسمه لأسباب تجارية، ان أهمية الغلاف هي أهمية قصوى، لذا يتركه الناشر الى المرحلة الأخيرة من الطباعة، ويمنح القيمين على صناعة الكتاب عنده، فسحة زمنية واسعة لكي يتم اختبار الغلاف في مصوغات متعددة تنتهي الى مصوغ أخير.
بعض مؤسسي الدور المحترمة، تتابع بدأب ودقة أغلفة الكتب الصادرة عن دارها، بحيث لا يسمحون بصدور كتاب إلا بعد الرضى الكامل على غلافه. وقد حدث هذا في أكثر من مناسبة وعنوان. بعض الدور استطاعت من جراء حزمها الإيجابي هذا، خلق هوية خاصة ذات ميزات لافتة على صعيد الغلاف، حتى أصبح بوسع الشاري تمييز هوية الدار من غلافها أو غلاف كتبها.
دور أخرى، محضت أغلفتها شفافية الأكواريل أحيانا، الطالعة من قلب النص ونبضه وروحه، بأسلوب اعتمد التهوئة الدائمة في بعض الأغلفة، والبصمة الخاصة القائمة على ضغط مساحة الغلاف، واستعمال الصورة الفوتوغرافية في أغلفة أخرى، واللوحة أو جزء منها في الباقي من الأغلفة، وكلها في صالح ترجمة المادة ونقلها الى صدارة العين الرائية.
العملية إبداعية أولا، وحرفية ثانيا وصناعتها ليست بسيطة، فهي تقوم أيضا على نظام الترقيع الضوئي واللوني، وعلى المتوازيات الظلية، وعلى تراكيب المتوازيات بين كلام وصور أو لوحات. ثم يأتي بعدها الدور المهني، وهو دور في منتهى الخطورة. ذلك أن التعامل مع الغلاف هنا، من خلال النسب التي يؤكدها المبدع. فهنا سماكة بنسبة عشرين بالمئة. وهنا تشبيك. وهنا ترقيق. وهنا تبرز البقعة هذه بسماكتها في فضاء الغلاف الكلي كإشارة الى جوهر الموضوع المكتوب. وهناك تعامل الحرفي مع الكرتون: نوعه، سماكته، حساسيته، قوته ومداه، وأخيرا تغليفه بالسوليفان، والعملية الأخيرة هذه أي «سلفنته» بحسب الطابع الكبير وصاحب الخبرة، عملية حساسة ودقيقة تستطيع تمييزها أو لا تستطيع، ولكنك تشعر بها.
ثمة من يترك الغلاف أمام إمكانياته. أي يرى الى تجريد الغلاف من كل عناصر الضغط على المادة، هذا أيضا مسوغ من المسوغات، لأن آخرين يميلون الى الغلاف الفني الذي يستدعي التجليد الفني. وهو تجليد باهظ وقاطع في عملية تركيب المادة الكتابية بكلها. هذه التقنية الكاسرة، تعتمد في الكتب التراثية أو الإسلامية بشكل خاص، وهي تكاد توحدها في هيئة واحدة، أو تقنّعها بهيئة واحدة.
الأكثر كلفة هو الغلاف. وخصوصا لدى من يريد أن يطبع طبعتين: واحدة عادية وأخرى شعبية كما يحدث في أوروبا ـ مؤخرا في مصر ـ حيث يلعب الغلاف دورا ترويجيا عالي القيمة، بعد أن باتت صناعة الغلاف في دائرة التنافس، وباتت أغلفته تُمنح جوائز مادية ومعنوية.

عناية جابر

المصدر: السفير