الحلقة السابعة من كتاب"عشرة أعوام مع حافظ الأسـد" الدبلوماسية السرية
الدبلوماسية السرية .1.
إن أحد الأسرار المثيرة للاهتمام في دبلوماسية الشرق الأوسط، و الذي نجح الجميع في إبقائه طيّ الكتمان سنوات عديدة، هو قيام صديق نتنياهو رونالد لاودر، و هو رجل أعمال أمريكي بزيارة دمشق لعقد تسعة اجتماعات سريّة بالرئيس الأسد في صيف عام 1998. لم يحضر هذه المحادثات سوى دائرة صغيرة من الأشخاص، و لم يعرف أحد بأمرها في سورية سوى وزير الخارجية فاروق الشرع، و السفير وليد المعلم، و بالطبع الرئيس الأسد و أنا.
قيل لنا إن نتنياهو أنشأ هذه القناة الخلفية بعد سنة من توليه منصبه للتخفيف من ضغط الولايات المتحدة على حكومة تل أبيب. كان كلينتون غاضباً أشد الغضب، اذ لم يتم إحداث اختراقات في ما يخص السلام في الشرق الأوسط بسبب الضغينة المتبادلة بين نتنياهو و ياسر عرفات. وإن لم يكن هناك جديد يتدفق في انايب الجبهة الفلسطينية، يمكن لنتنياهو على الأقل أن يبذل جهداً لمتابعة المحادثات السورية. و أخبر نتنياهو واشنطن أنه أكثر ميلاً إلى حافظ الأسد منه إلى عرفات.
و بحسب قول دنيس روس: " كان الأسد يتمتع بكل ما يفتقر عرفات إليه، فقد كان قائداً لدولة حقيقية لها جيش حقيقي... كان عدواً صلباً، لكنه يحافظ على عهوده " .
ربما اعتقد نتنياهو أنه من الممكن عقد اتفاقية ما مع الأسد، و طلب من لاودر،الذي كان جديداً على دهاليز السياسة في الشرق الأوسط، أن يكون الوسيط. و لكن نفى رئيس الوزراء الإسرائيلي في السنوات اللاحقة، كلّ المزاعم حول تفويض لاودر بإجراء محادثات مع الأسد، مع أن هذا كان مخالفاً لما سمعناه من لاودر نفسه خلال وجوده في دمشق. و كان أحد هؤلاء العارفين وزير خارجية نتنياهو السابق إسحاق موردخاي، الذي نافسه في منتصف عام 1999 على منصب رئيس الوزراء بقائمة مكونة من أحزاب الأقلية، فقد كان يعرف قصة لاودر جيداً. ففي مناظرة تلفزيونية في نيسان من ذلك العام، أعلن نتنياهو أنه " لن يعطي الرئيس الأسد ما كان إيهود باراك مستعداً لإعطائه لرئيس سورية ". شعر موردخاي بالغضب من هذا التصريح، و تحدى نتنياهو ببرود أن يكرر ما قاله لتوّه: " انظر في عيني، يا بيبي**... انظر في عيني! ". كان بالطبع يشير إلى زيارات رونالد لاودر إلى دمشق، و فهم نتنياهو ذلك فهماً كاملاً. و لم يكرر نتنياهو تصريحه السابق، خوفاً من أن يفشي موردخاي " أسراراً مكتومة " على مسمع الناخبين الإسرائيليين. و كان الذين أُطلِعوا على محادثات لاودر من الجانب الإسرائيلي أوزي أراد مستشار رئيس الوزراء، و سكرتير مجلس الوزراء داني نافه، و موردخاي، و مساعده ياكوف أميدرور، و السكرتير العسكري لرئيس الوزراء الجنرال شمعون شابيرا.
يدعي دنيس روس في مذكّراته أن محادثات المسار الثاني كانت وليدة أفكار لاودر نفسه، الذي طرح الفكرة على السفير المعلم في واشنطن. و قد طلب لاودر " قناة خاصة و سرية مو الرئيس الأسد "، و قال إن " بيبي " هو الذي أرسله إلى السفير وليد المعلم. و أضاف أن هذه المحادثات ستكون مكثفة جداً و بعيدة جداً عن أيّ صفة رسمية. وبحسب قول مارتن إنديك: " اشترط بيبي ألا يقوم أي من الطرفين بإعلامالرئيس كلينتون ".
** " بيبي Bibi " هو اسم شائع يُدعى به نتنياهو.( 1)
الدبلوماسية السرية . 2.
و بعد الحصول على موافقة مبدئية من السفارة السورية, بتفويض على أعلى مستوى من السيد الرئيس الأسد في دمشق, وافق فريق كلينتون أيضاً على المحادثات, الأمر الذي يلقي ظلاً من الشك على قول إنديك. و قال روس في مذكراته: " لم يكن لدينا أي مانع في أن يتوصلوا إلى شيء خاص بهم, إن استطاعوا ".
و لم تتحمّس وزيرة خارجية كلينتون مادلين أولبرايت لزيارة لاودر على أساس حساسية المسار السوري, و كذلك لم يتحمس ساندي برغر لها. و طلب كلاهما أن " يشارك روس في أحد الاجتماعات ", ثم يخبرهم " إن كان هذا حقيقياً أم لا". و في دمشق, كنا واثقين أن أمراً بهذه الأهمية لن يمر في واشنطن من دون موافقة مباشرة من كلينتون نفسه. كان رونالد لاودر رجلا مليئاً بالحيوية و الحياة و روح النكتة, لكن معرفته بالشرق الأوسط كانت ضئيلة جداً, و معرفته بسورية شبه معدومة. و مع ذلك أوجد دفء شخصيته تفاعلا إيجابياً فورياً بين الرئيس الأسد و بينه, و هذا ما شهدته شخصياً, حيث شاركتُ بكلّ محادثاته في القصر الجمهوري في دمشق.
فقد انسجما معاً إلى حدّ أنه عرض عليّ مازحاً وظيفة مديرة مكتبه. و قبل بضع سنوات, أدرجت مجلة فوربس الأمريكية اسمه واحداً من أغنى أغنياء العالم, مقدرة ثروته بثلاثة مليارات دولار أمريكي. و ما عرفناه عنه في أواخر تسعينات القرن العشرين هو أنه ابن مؤسسة شركات " إيستي لاودر " للمستحضرات التجميلية ذات الاسم التجاري المعروف عالمياً. و قد تلقى تعليمه في باريس و بروكسل, و أمضى سنوات في أعمال عائلته قبل أن يعينه رونالد ريغان سفيراً للولايات المتحدة في النمسا في عامي 1986 و 1987. و لاودر هو أحد أعضاء الحزب الجمهوري الأوفياء, كما أنه مليونير لامع, و من اليهود الأمريكين ذوي الوزن الثقيل, و قد رشح نفسه لمنصب عمدة نيويورك عام 1989, لكنه خسر لمصلحة الجمهوري رودي غيلياني في الانتخابات الأولية. و بحسب ما ذكره السفير المعلم لنا, كان نتنياهو يصغي إلى لاودر, و من المؤكد أن تحملَ جهودهُ في الوساطة شيئاً جديداً و ريادياً من جانب الإسرائيليين.
وصل لاودر إلى دمشق في السابع من آب 1998, و حددّت له مقابلة مع الرئيس الأسد في صباح اليوم التالي. و قد انضم إلى رجل الأعمال القادم من نيويورك مساعده ألن روث, و جورج نادر, رئيس تحرير مجلة النظرة الثاقبة إلى الشرق الأوسط الصادرة في واشنطن و رئيس مجلس إدارتها. و قد كسر لاودر الجمود بعد دخوله الغرفة بقوله: " سورية بلد جميل جداً. إن أسلافي يتحدرون من حلب قبل 1200 عام ". استقبله الرئيس الأسد بالطريقة المعتادة, قائلا إنه يستطيع دائماً أن يعدّ هذا البلد وطناً له, ثم أشار إلى أن " المحادثات السابقة كلها كانت شديدة التعقيد, و نتجت منها أوراق كثيرة, " معرياً عن أمله في أن يكون لاودر قد أحضر معه شيئاً مختلفاً من رئيس الوزراء نتنياهو.
أجاب لاودر: " خلافاً لما يمكن أن تعتقد, يستطيع نتنياهو أن يعقد سلاماً, و لديه اهتمام بالسلام مع سورية" .
ابتسم الأسد - لقد سبق أن سمع هذا مرات كثيرة عن شامير و رابين و بيريز, و الآن نتنياهو- و قال: " إن كلينتون صادق بشأن السلام, لكن هناك أشخاصاً حوله لا يريدون حدوث اختراقات في الشرق الأوسط ".
برزت روح النكتة لدى لادور و قهقه قائلاً: " بالطبع, إنهم ديمقراطيون, يا سيادة الرئيس, و لا يمكنهم إنجاز السلام. الجمهوريون وحدهم يمكن أن يصنعوا السلام, يا سيادة الرئيس ".
فوجىء الأسد بهذا المزاح غير المعتاد, الذي كان غريباً على مفاوضات السّلام الشّاقة, و أشار بلطف: " جمهوريون أو ديمقراطيون: لا فرق في نظرنا. إننا نحكم على الأشخاص بأعمالهم و أفعالهم, و ليس بإرتباطاتهم السياسية ".
و بعدئذٍ شرح الرئيس ما انجزته سورية أثناء ولاية كلينتون الأولى, لكن لادور قاطعه قائلاً: " أرجوكم يا سيادة الرئيس, أتوسل إليك ألا تقارنني بوارن كريستوفر. ما الذي فعلتهُ كي تقارنني به ؟ ". ضحكنا جميعاً. لقد كان من الواضح أن هذه الجولة من محادثات السلام ستكون مختلفة عن كلّ ما سبقها.(1)
الدبلوماسية السرية .3.
قال لادور إن الإسرائيلين مستعدون للانسحاب من الأراضي السورية جميعها, من دون أن يخصص حدود الرابع من حزيران 1967. فقد حدد مرة آخرى الفارق بين حدود 1923 الدولية و حدود 1967. و من الواضح أن لادور لم يفهم السبب في أن السوريين يثيرون هذه الضجة حول الفرق بين خطي الحدود, باعتبار أن خط 1967 لا يعطي سورية سوى ثلاثين كيلومتراً مربعاً إضافياً من الأرض. فقد أخفق في إدراك أن الأرض مقدسة لحافظ الأسد. كما لم تكن الأميال الإضافية من الناحيتين العسكرية و السياسية معاً, ذات أهمية رمزية فحسب, بل إنها تتيح لسورية الوصول إلى مياه بانياس و اليرموك و الأردن, إضافة إلى بحيرة طبريا, التي تمثل نصف مورد إسرائيل المائي. أضاف الرئيس " هذه أرضنا. لا يمكنكم فرض شروط, ثم الإيحاء أن إسرائيل قدمت تنازلاً. أريد أن أذكّرك يا سيد لاودر بأن الجولان سورية و ليست إسرائيلية ".
تكلم لاودر بعد ذلك عن انسحاب إسرائيل من لبنان قائلاً إن هذا سيبدأ نظرياً قبل ثلاثة أشهر من انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجولان. و كان يريد, في المقابل, إلزام الأسد بنزع سلاح حزب الله, و منع أية هجمات من جنوب لبنان. كان واضحاً أن لاودر متحمس جداً, و أنه أراد أن يقفز عشر خطوات أكثر من أسلافه الأمريكيين جميعاً, فقد قال: " يمكننا الاتفاق على إعلان مبادىء خلال أسبوع, و لا بد من أن هذا سهل. ثم يمكن أن تذهبوا أنتم و نتنياهو إلى واشنطن لتوقيع الإعلان في البيت الأبيض. و بعد أن يتم هذا, يمكننا الاتفاق على التفاصيل كلّها ".
قال الأسد بحزمٍ شديد: " انظر إلى ما فعلوه بعرفات ", مذكّراً لاودر أن عرفات وقع اتفاقية مع الأمريكيين و لإسرائيليين, لكنها ما زالت بعد مرور خمس سنوات مجرد واقع بعيد المنال في ما يخصّ الدولة الفلسطينية: " إذا كنتم تريدون تحقيق السلام, لِمَ لا نجلس و نبحث ما هو مهم للانسحاب و الأطر الزمنية؟ لِمَ نقصر المباحثة على إعلان مبادىء و لا نبحث اتفاقية سلام ".
شعر الأسد بالطبع, أن لادور يسعى إلى عرض مسرحي ضخم, و ليس إلى سلام مستدام بين سورية و إسرائيل. لم يكن لادور يحاول التذاكي أو خديعة السوريين, و إنما كانت معرفته بعملية السلام ضئيلة جداً, كما لم تكن لديه معرفة بسورية إطلاقاً. و كان الأسد بخبرته الاستراتيجية, قلقاً حول طريقة حكم أجيال المستقبل على أن أي سلام سوري - إسرائيلي يحمل اسمه, في حين كان لادور يسعى فقط إلى مناسبة تاريخية لالتقاط الصورة التي تجمع حافظ الأسد و بنيامين نتنياهو و بيل كلينتون في حديقة البيت الأبيض بعيداً عن تفاصيل الحدود و الحقوق و الأرض. قال الأسد بلطف لضيفه الأمريكي محاولاً أن يكون لبقاً: " ليس الأمر بالسهولة التي يبدو عليها".
طلب الأسد محاضر المحادثات السابقة مع الأمريكيين منذ تولي كلينتون منصبه و سلّمها للادور, طالباً منه أن يقرأها بإمعان قبل عقد جولة ثانية من المحادثات بينهما حدد موعدها بتاريخ 11 آب .
1- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص225
2-من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990 - 2000 / ص 229
3- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص 231
إضافة تعليق جديد