مئة عام على ولادة رينه شار
داخل كل مثقّف ديكتاتور، هذا ما قاله ميشال فوكو، وهذا ما أكّده سلوك مؤسس الحركة السوريالية أندره بروتون في مواقف عدة. فهو لم يكتفِ بإصدار البيانات على الطريقة الحزبية و"فصل" الشعراء الذين خرقوا الـمانيفست، بل وصلت به الحال إلى الهجوم "المسلّح" على من يعتبرهم أعداء: ذات يوم قرّر بروتون، بوحي ربما من تاريخه العسكري كجنديّ في فوج المدفعية، اقتحام أحد المقاهي الشهيرة في منطقة مونبارناس الباريسية، حيث كانت تجري حفلة راقصة للطبقة البورجوازية في رعاية إحدى الأميرات، فما كان منه إلا أن أمر رينه شار بتقدّم المجموعة، لأنه "الأجرأ والأقوى جسدياً". تتمّة القصة من استخدام الطرفين الكؤوس والسكاكين ونهايتهما معاً في أقرب مركز للشرطة غير مهمّة، بقدر أهمية رمزيتها: رينه شار، الشاب الضخم القادم توّاً من قريته الجنوبية قرب مرسيليا كقائدٍ لجيش باريس السوريالي. رينه شار هذا، أصغر الشعراء السورياليين عمراً، والذي سرعان ما كبر على السوريالية، أو شبّ عليها، "الكابتن ألكسندر" كما عُرِف في صفوف المقاومة الفرنسية السرّية، عدوّ النازية وصديق من طالته طويلاً تهمة الانخراط في صفوفها (الفيلسوف الألماني هايدغر)، وأحد العظماء النادرين الذين حظوا بفرصة الانضمام إلى مجموعة "لابلياد" وهم على قيد الحياة. وعلى غرار تلميذ "مدرسة الأعمال المتوحشة الجيدة"، أي بروتون، لم تكن حياته إلا كما يفترض أن تكون: حياة رجل متأرجحٍ أبداً بين حدَّي العبقرية والجنون.
لم يسعَ شار الى الانضمام إلى الحركة السوريالية، بل إنها هي التي أرسلت في طلب الشاب الموهوب المغمور الذي كان يعيش منعزلاً في بلدته إيل سور لاسورغ، قبل أن يتعرّف إلى الشاعر بول إيلوار، الذي أقنعه بالذهاب إلى باريس والانضمام إلى السورياليين. هكذا، التحق شار، المولود في 14 حزيران1907، بالحركة في أوائل الثلاثينات وهو في عمر الثانية والعشرين، ليكون الأصغر بين أعضائها الثلاثينيين: أراغون، إيلوار، وبروتون. عن تلك المرحلة قال شار: "كنت ثورياً وبحثت عن إخوة. كنت وحيداً في إيل، لا صديق لي سوى فرنسيس كوريل صاحب المخيّلة المظلمة، وأخيراً لمست هذه الحرية". أثناء هذه المرحلة ظهر لشار عدد من الكتب الصغيرة في إطار المنشورات التي كانت الحركة تصدرها، أبرزها قصيدته الطويلة "أرتين" التي تحدّث فيها عن "قتل الشاعر نموذجه"، إضافة إلى مجموعة شعرية مشتركة مع إيلوار وبروتون صدرت عام 1930. لكنه سرعان ما "قتل نموذجه" بعدما ضاق ذرعاً "بحرّيته" التي تغنّى بها سابقاً، فاستعاد استقلاله وابتعد عن الحركة 1934، جامعاً أشعاره السوريالية كلّها في كتاب حمل عنوان "المطرقة بلا معلّم"، ومحتفظاً بعلاقة جيّدة مع إيلوار وبروتون وتزارا. بهذه الطريقة انتهت رحلة بروتون مع السوريالية التي لم يكتفِ بالدفاع عنها جسدياً في واقعة مونبارناس ضد البورجوازيين، بل دافع عنها فكرياً في حقبة المواجهة مع أدب الاشتراكية الواقعية.
انخرط رينه شار، المؤمن بالديناميكية، والمعنيّ بمستقبل العالم، في حركة المقاومة السرّية الفرنسية عام 1940 كرئيس قطاع، لأن الشاعر "لا يموت حتماً على المتراس الذي اختير له"، وراح يكتب يوميّاته لينشرها في ما بعد في كتاب حمل عنوان "أوراق إيبنوس" (1946)، جاء فيه: "لقد أحصينا كل الألم الذي يمكن الجلاد ممارسته عرضياً على كل إنش من أجسادنا، ثم، ونحن منقبضو القلب، مضينا وواجهنا". هذه المرحلة المكثّفة والغنيّة التي أمضاها متخفّياً في المغاور والغابات أثّرت في شعره تأثيراً كبيراً، ولاسيما قصائد مجموعته "حمّى وسرّ" (1948). وعلى الرغم من الشائعات التي طالت هايدغر حول ماضيه النازي، وتاريخ شار النضالي ضد النازية، فقد جمعت الاثنين صداقة متينة تسببت بحساسية لدى البعض الذين اعتبروا هايدغر عميلاً للنازية وهتلر. لكن الشاعر دافع عن الفيلسوف رافضاً التهم التي سيقت إليه، معتبراً أن ميله في شبابه إلى النازية، على غرار شبّان ألمانيا جميعاً، لا يعني أنه شارك في المجازر.
بدأت علاقة الرجلين عندما دعا شار هايدغر إلى قريته، وانضمت إليهما مجموعة من المثقفين، ثم توالت اللقاءات التي كانا يتحدّثان خلالها عن هولدرلين، وعن الشعر والفلسفة اللذين يتجاوزان الزمان والمكان. اعتقاد شار أنهما ينتميان إلى صنف واحد من الناس، هو الذي وطّد أواصر الصداقة بينهما: "الأشخاص غير المندمجين في المجتمع أو في الحلم. المنتمون إلى قدر معزول، خاص، لا يشبه قدر الآخرين"، هؤلاء هم الأكثر نبلاً وخطورةً بين البشر الذين ميّز فيهم شار بين أنماط ثلاثة: اللطفاء، المزعجون، والعباقرة. هذا الاقتناع بالتفرّد، راح يتبلور لدى شار أكثر فأكثر ليفلت من قدر الفنان الملتزم قضية، هو الذي شارك بقوّة في القضايا العامة حتى بعد رحيل النازيين عن فرنسا، وافق رامبو رأيه القائل: "من الآن فصاعداً لن يرافق الشعر إيقاع الممارسة، إنما سيتقدّمها، سيضيء لها الطريق".
ربط هذا الشاعر الريفي، الذي لم يعرف التسويات، الأدب بالأخلاق دائماً، لذلك هجر حياة المجاملات والنفاق المفتعلة في باريس، التي لم تبهره احتفالاتها وأضواؤها، وعاد إلى بلدته الأم باحثاً من دون كلل عن البراءات الأصلية، عن ذلك الشيء الأثيري الذي لا يمكن القبض عليه أبداً: الشعر. وقرر أن يعيش مخلصاً له وحده، معتبراً أنه لا يجوز إشراك شيء معه: لا زواج ولا عائلة ولا أولاد ولا أي شيء آخر. لكن هذا لم يمنعه من الزواج أكثر من مرّة، ومن إقامة علاقات عاطفية عدة من دون أن ينجب أولاداً، محاولاً بهذا المعنى إيجاد نوع من التوازن بين اقتناعاته ورغباته. على أي حال، تميّز شعر رينه شار، الذي استلهم الطبيعة الريفية بحيواناتها ونباتاتها وجمادها، بالوعورة والصعوبة، كأن كاتبها شقّ الكلمات في لغة من صخر، ناحتاً قصيدةً صارمة وصادمة، هدفها أولاً تشويش السير المنطقي وإن سعت الى الحفاظ على تطوّر سيرها الخاص. وإذا كانت المرحلة السوريالية حرّرته من الصيغ القديمة المعرقلة، وأطلقت قصيدته إلى آفاق أرحب وأكثر حرية، فقد اندفع بعد ذلك إلى تطوير أسلوب شديد الخصوصية، تجلّى في أعماله العديدة مثل: "في الخارج الليل محكوم" (1938)، "حمّى وسرّ" (1948)، و"الليل الطلسمي" (1972).
إلا أن لغة شار الحرون، دفعت بعض النقّاد إلى وصفها بـ"غابة الرموز المعقّدة"، بل ذهب بعضهم الآخر أبعد من ذلك نافياً أن يكون لتلك التركيبات اللغوية العجيبة أي معنى. لكن شار، الذي جاب أنواع الشعر كلّها، من الشكل الحرّ إلى النثري إلى الموجز إلى التأمّلي والسردي، سحب البساط من تحت أقدام الجميع حين اعتبر أنه غير مهتم بوجود المعنى أو عدم وجوده في شعره.
على الرغم من الصداقة التي ربطته بعدد كبير من الكتّاب والفنانين في جيله، كسلفادور دالي وبيكاسو اللذين استوحيا بعض اللوحات من أشعاره، إضافةً إلى ألبر كامو وسواه، حافظ شار على إعجاب خاص جداً يصل إلى حدّ التقديس بأرثور رامبو الذي خصّه بدراسة نقدية على قدرٍ كبير من الحميمية، لأنه جسّد بالنسبة إليه فكرة الشاعر. علاقة شار برامبو الذي خيّم ظلّه على شعراء فرنسا جميعاً كانت قائمة أساساً على التشابه، فقد اعتبر شار أحد أكثر شعراء القرن العشرين شبهاً به من حيث القوة والصرامة في القصيدة. الاثنان تعاملا مع الشعر بوصفه قضيتهما الشخصية، كقضية حياة أو موت. الإثنان لم يكتبا إلا بناءً على حاجة داخلية عميقة، ولم يستجيبا الظروف الخارجية التي تدفع بعض الشعراء إلى الكتابة. في معنى ما، كان شار ورامبو ضدّ الافتعال في الشعر، وآمنا أن القصيدة تفرض قوانينها الخاصة ولا تخضع لأيّ من القوانين الظرفية. الشعر وفق هذا المنظار، هو قضيّة في حدّ ذاتها. قضية لا يمكن توظيفها في خدمة قضيّة أخرى، ولاسيما المسائل أو الغايات السياسية، كما كان يفعل شعراء مثل أراغون. هذه العلاقة المميزة دفعت شار إلى التساؤل مراراً: هل يجب على الشاعر أن يصمت كما فعل رامبو لغاية كبرى في نفسه؟ أو إلى الإعلان جهاراً: "الشاعر الحقيقي يموت شاباً كرامبو"، محتقراً الشعراء الذين يعيشون في طمأنينة "بلا مجهول أمامهم". رثى شار رامبو بكلمات قاسية ومؤثرة (تذكّرنا بما خاطب به محمد الماغوط بدر شاكر السيّاب ذات قصيدة حين قال له: "تشبّث بموتك أيها المغفّل")، ومما قاله في رامبو: "حسناً فعلت، إذ رحلت، ارثور رامبو! فسنيّك تستعصي على الصداقة، وعلى سوء الطويّة، وعلى حماقة شعراء باريس، كذلك على طنين النحل العقيم لعائلتك شبه المجنونة... حسناً فعلت، إذ بعثرتهم جميعاً في رياح الشواطئ البعيدة، إذ رميتهم تحت سكين مقصلتهم المبكرة. حسناً فعلت إذ هجرت شارع الكسالى، ومواخير الشعر الرديء من أجل جحيم الحيوانات، من أجل تجارة المحتاجين وتحية البسطاء".
رينه شار، الذي مال دائماً إلى الهامش البعيد عن الضجيج، والذي يتيح للمرء الحفاظ على نقائه، لم يعتبر الزمن عدوّاً. لذلك ربما لم يزعجه التقدّم في العمر، بل راح يراقب تحوّلات وجهه موثّقاً صداقته مع المرآة، على العكس من بورخيس الذي كان يخشاها. وعندما نظر يوماً إلى صورته المنعكسة عبرها، خاطب نفسه: "يبدو إن فيليب سوليرز سيقول إن وجهي أصبح يشبه وجه مجرم!"، مبدياً "ارتياحه" الى الملامح "الشيطانية" التي ظهّرتها السنون على وجهه. شار الذي كان "شيطاناً" كريماً ووفياً، قال يوماً لحبيبته التي غالباً ما دعاها "ma pensée": "مرّت الأعوام. ماتت العواصف. رحل العالم. وكان يؤلمني الإحساس أن قلبك حقاً لم يعد يراني. كنت أحبك. أنا الذي لا وجه لي، الفارغ من أي سعادة. كنت أحبك، متغيراً في كل شيء، وفياً لك".
بالفعل، المغفّل تشبّث بموته!
زينب عساف
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد