أمريكا 2006: فضائح ومطامح وصحوة ضمير
كانت سنة 2006 حافلة بالأحداث، حبلى بالتطورات. افتضح فيها البعض، وطمَح البعض. فيها تبين نفاق العديد من رجال السياسة والدين الأميركيين، واتضح عقم بعض المسالك التي تسلكها هذه الدولة العظمى بحرياتها، الهشة بقياداتها.
وفيها بدت معالم صحوة خجولة في الضمير الأميركي، وشيء من يقَظة على الآلام والمآسي الناتجة عن بعض السياسات الأميركية، ونحن نشير هنا إلى ما ينعكس على المنطقة العربية الإسلامية من هذه التطورات.
يمكن اعتبار عام 2006 عام تآكل اليمين الأميركي واضمحلال قوته السياسية. والمقصود باليمين الأميركي هنا الحزب الجمهوري وحلفاؤه من المنظمات الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة.
لقد تساقطت رؤوس جمهورية كبيرة في الانتخابات التشريعية الأميركية يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني، ففقد الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه الرئيس بوش ستة مقاعد في مجلس الشيوخ، من بينها مقعد السناتور ريك سنتورم المعروف بخطاباته النارية ضد الإسلام والمسلمين.
واسترجع الحزب الديمقراطي قوته وغالبيته في مجلسي النواب والشيوخ التي فقدها منذ منتصف التسعينيات.
ومن الواضح أن "سنتورم" قرأ المزاج الشعبي الأميركي خطأً، حين حاول إلهاب المشاعر قبيل الانتخابات بخطابات تعمق الشرخ بين أميركا والعالم الإسلامي، وتنفث الحقد ضد الإسلام والمسلمين.
وقد كتبت مجلة تايم الأميركية تعليقا على هزيمته وصحبِه من اليمينيين فيه أن عام 2006 هو أول عام خلال ثلاثة عقود يؤدي فيه الحماس الديني لدى السياسيين الأميركيين إلى خسارة سياسية، وذلك منذ صعود الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة مطلع الثمانينيات. وهذا مؤشر قوي على تراجع الأصولية المسيحية في هذا البلد.
قد كشفت الفضائح المتتالية التي نبعت من صفوف الحزب الجمهوري وحلفائه من الأصوليين أن الديمقراطيين ليسوا وحدهم "أعداء الفضيلة" كما وصمهم توم دلاي القيادي الجمهوري، وإنما تبين للجمهور الأميركي أن الجمهوريين ليسوا أكثر مثالية، ولكنهم أكثر نفاقا وادعاء.
فقد كشف العام 2006 عن فضائح مدوية لقادة جمهوريين منهم توم دلاي نفسه صاحب شعار "أعداء الفضيلة"، وهو يواجه اليوم في ولاية تكساس تهما بغسيل الأموال، أدت إلى استقالته من الكونغرس.
كما دوت فضيحة عضو جمهوري سابق هو راندي كانينغهام الذي أدين بتهم التزوير والتآمر والتهرب من الضرائب، فتم إلزامه بدفع حوالي مليوني دولار للخزينة الأميركية وفقد منصبه بالكونغرس.
لكن أسوأ الفضائح التي هزت أركان حزب الرئيس جورج بوش، الذي يدعي الاستقامة الدينية والأخلاقية، هي فضيحة عضو الكونغرس عن الحزب الجمهوري مارك فولي، ثم فضيحة الأصولي المسيحي المتعصب "تدْ هاغارد".
لقد نجح "فولي" في عضوية الكونغرس عن ولاية فلوريدا حاملا لواء الدفاع عن الأطفال ضد التحرش الجنسي، وإدانة الشاذين جنسيا، ثم تكشَّف أنه يمارس هاتين الموبقتين في السر، وأنه مجرد منافق ذو وجه صفيق.
وكان مارك فولي يترأس "لجنة الدفاع عن الأطفال المفقودين والمستغَلِّين"، وتقدم للكونغرس بمشروع قانون لحماية الأطفال ضد الجرائم المخلة بالأخلاق على الإنترنت، وهي نفس الجريمة القذرة التي كان يمارسها قبل انكشاف وجهه القبيح.
أما رجل الدين الأصولي هاغارد فقد كان يترأس "الجمعية الوطنية للإنجيليين" في الولايات المتحدة، وهي قوة دينية وسياسية ضاربة، وكان قريبا جدا من الرئيس بوش، وهو يتحدث إليه أو إلى مستشاريه كل يوم اثنين كما ورد في بعض الصحف الأميركية.
وقد لعب هاغارد دورا محوريا في إعادة انتخاب الرئيس بوش عام 2004 تحت شعار الدفاع عن قيم المسيحية ورابطة الأسرة، ثم تكشَّف الشهرَ المنصرم أن هاغارد المشهور بحملاته ضد الشواذ كان يمارس الشذوذ، في مشهد نفاق درامي يقل نظيره.
ولم تكن المصائب السياسية التي حلت بحزب الرئيس بوش خلال العام 2006 منحصرة بالفضائح المالية والأخلاقية، وإنما استمرت حرب الاستنزاف في العراق تأكل من رصيد الرئيس وحزبه.
وكان لهذه الحرب حظها من حصد الرؤوس الجمهورية التي كان أهمها رحيل وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد صاغرا صبيحة هزيمة الحزب الجمهوري الانتخابية، وهو رحيل يدل على أن الحرب التي بدأت عام 2003 دمرت العراق لكنها غيرت أميركا.
وقد كان الرئيس بوش من أشد المتشبثين بوزير دفاعه رمسفيلد، إلى حد أنه قطع مكالمة هاتفية مع والده الرئيس الأسبق بغضب حينما لامه على إطلاق العنان لرمسفيلد وجماعته من المحافظين الجدد، طبقا لما ذكره الكاتب الصحفي الشهير بوب وودوارد في كتابه الجديد "حالة الجحود" the State of Denial.
لكن الرئيس بوش اضطر في النهاية -تحت ضغط الفشل الذريع في العراق، وآثاره السياسية داخل الولايات المتحدة- إلى التخلص من وزير دفاعه المدلل الذي كان كل شيء يهون في سبيل الإبقاء عليه، بما في ذلك عدم احترام الآباء.
ومن أهم أحداث العام 2006 في الولايات المتحدة تقريران عن سبل الخروج من العراق، أحدهما تقرير بيكر وهاملتون الصادر في 160 صفحة، والذي يقدم صورة قاتمة عن الوضع في العراق، ويبدد الأوهام في إمكانية حصول الولايات المتحدة على أي مكاسب من مغامرتها العسكرية الخرقاء هناك.
ويقدم معدو التقرير نصيحة إلى صُنَّاع القرار الإستراتيجي الأميركي بانتهاج نهج الاحتلال السياسي في العراق، بدلا من الاحتلال العسكري، وهو النهج الذي مكَّن الولايات المتحدة من وضع يدها على الدول النفطية العربية أكثر من نصف قرن، وفرضِ الوصاية الإستراتيجية على هذه الدول دون اللجوء إلى أسلوب الاحتلال المباشر.
كما يلح التقرير على ضرورة المصالحة الوطنية داخل العراق، وهو ما يعني انتهاج الولايات المتحدة نهجا جديدا أقل تحيزا لحلفائها من الشيعة والأكراد ضد العرب السنة الذين وقع عليهم ظلم الاحتلال أكثر من غيرهم، وكشفوا عن صلابة وقوة شكيمة في التعاطي معه.
وقد تناولنا تقرير بيكر-هاملتون من قبل بتحليل مفصل على موقع الجزيرة نت. أما التقرير الثاني فهو صادر عن "لجنة الأزمات الدولية" في 44 صفحة بعنوان "بعد بيكر وهاملتون، ما العمل في العراق"؟ وهو تعقيب على التقرير السابق ونقد له.
وأهم ما تضمنه تقرير لجنة الأزمات الدولية أن ما أوصى به تقرير بيكر-هاملتون من استمرار الدعم للحكومة العراقية، وما تكرر فيه من ادعاء بأنها حكومة وحدة وطنية تمثل الشعب العراقي، أمر لا مستند له من الوقائع، وقد برهنت حكومة المالكي –ومن قبلها حكومة الجعفري- على أنها جزء من المشكلة لا من الحل، وطرف في الصراع لا حكَم مؤتَمن.
وأسفرت كلتا الحكومتين عن وجهها الطائفي القبيح، وعن مطامحها التي لا تتورع عن تدمير العراق إذا كان ذلك يضمن بناء دولة طائفية على أشلائه.
كما ينتقد تقرير لجنة الأزمات الدولية ما دعا إليه بيكر وهاملتون من دعم الجيش والأمن العراقي، في حين أن ما يُدعى جيشا وأمنا في العراق اليوم لا يعدو أن يكون مليشيات طائفية، لا تدين بالولاء للوطن العراقي، وكل ولائها لطائفتها المذهبية أو العرقية.
ويؤكد التقرير أن الحرب الأهلية في العراق ليست تحديا عسكريا للولايات المتحدة حتى تدعم هذا الطرف أو ذاك، وإنما هي تحد سياسي يتعلق بالإخلال بالميزان الداخلي على أساس مولاة الاحتلال ومهادنته.
ومن دون بناء معادلة جديدة متوازنة داخل العراق فإن دمار العراق واستنزاف الولايات المتحدة سيستمران إلى أجل غير مسمى.
ومن تطورات العام 2006 بداية صحوة في الضمير الأميركي حول بعض المظالم التي تشارك فيها الولايات المتحدة، خصوصا المظلمة الفلسطينية، إذ صدرت مطلع العام 2006 دراسة بعنوان "اللوبي الإسرائيلي" عن الأستاذين الأميركيين، جون ميرشيمر وستيفان والت، كشفت عن بعض الأباطيل التي يتأسس عليها الدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل، والمخاطر المستقبلية على الولايات المتحدة من انتهاج هذا النهج.
فكانت تلك الدراسة أول عمل فكري شجاع حول هذا الموضوع ينبع من داخل مؤسسات أميركية محترمة، وهي هنا جامعة هارفارد وجامعة شيكاغو.
لكن كتاب الرئيس جيمي كارتر الجديد، الصادر منذ أسابيع بعنوان "فلسطين السلام لا الفصل العنصري" وما أثاره من ردود أفعال القوى الممسكة بتلابيب الولايات المتحدة هو الأهم على مستوى الخطاب السياسي الداخلي حول القضية الفلسطينية، وهو ينم عن بدايات خجولة لصحوة الضمير الأميركي في تعاطيه مع قضايا العرب والمسلمين.
وتأتي أهمية كتاب كارتر في أنه صادر عن الرئيس الأميركي الأسبق الذي قاد اتفاقية "كامب ديفد" بين مصر وإسرائيل، وهو وجه من وجوه الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة التي تتأسس على عبادة إسرائيل.
كما أن الكتاب -مثل كل كتب كارتر- صيغ بلغة إنجيلية، وهو ما سيجعل له أثرا عميقا على تغيير نظرة المتدينين الأميركيين لإسرائيل، الذين هم اليوم خط دفاعها الأخير.
لقد كشف كارتر أن إسرائيل -المشروع الإلهي المقدس في الضمير المسيحي الأميركي- ليست سوى وكر من أوكار الظلم الفاحش الذي يناقض أهم المبادئ التي جاء بها المسيح عليه السلام، ومكان لاضطهاد شعب مقهور بمسلميه ومسيحييه.
كما كشف أن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي وضع الفلسطينيين في وضع أسوأ من وضع الأفارقة في جنوب أفريقيا أثناء الحكم العنصري هناك.
وقد أثار كتاب كارتر جدلا مريرا، لأنه لامس آخر المقدسات في الولايات المتحدة، فتعرض الرئيس السابق لحملة إعلامية منسقة في معظم وسائل الإعلام الأميركية، واتُّهم بمعاداة السامية وهو الذي سلخ أهم سنوات عمره السياسي في خدمة إسرائيل وضمان أمنها.
ولم يشفع لكارتر أنه هو الذي ضمن لإسرائيل انسلاخ أكبر دولة عربية من الصراع، واندراجها ضمن الإستراتيجية الأميركية الإسرائيلية، ولا شفَع له أنه أصولي مسيحي يربط عودة المسيح بعودة الشعب المختار إلى فلسطين.
لقد كشف كتاب الرئيس كارتر، ثم الجدل الذي أثاره، عن المصاعب في تغيير التصور الأميركي لمظلمة الشعب الفلسطيني، لكن الكتاب برهن أيضا على أن من يملكون المصداقية والشجاعة الأخلاقية قادرون على تغيير ذلك التصور الأميركي الذي هو حصيلة تراكم عقود من الدعاية والتضليل.
إن غروب العام 2006 مؤذن بتراجع اليمين الأميركي المتمثل في الحزب الجمهوري وقاعدته الشعبية الأصولية، وتقدم قوى الوسط والليبرالية واليسار التي تجتمع تحت مظلة الحزب الديمقراطي، ويكاد يكون مؤكدا اليوم أن الديمقراطيين سيحصدون مقعد الرئاسة الأميركية عام 2008، ليمسكوا بزمام الأمر في واشنطن.
كما أن عام 2006 سيدخل التاريخ على أنه عام برهن فيه الشعب العراقي على أنه ليس طيعا للاحتلال الأجنبي، رغم تمزقه الداخلي وضعف بنيته ولُحمته الاجتماعية، وبرهن فيه الشعب الأميركي على أنه مستعد لتغيير بعض الأفكار النمطية الدعائية المفروضة عليه حول المظلمة الفلسطينية وغيرها من المظالم التي تستنزف طاقة ومكانة الولايات المتحدة وتنشر الرعب والدمار عبر العالم.
محمد بن المختار الشنقيطي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد